الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله، أشهد أنه رسول الله، والداعي إلى سبيله، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه، وآله، وخلفائه، وأزواجه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين يا رب العالمين.
عباد الله:
علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم مداراة الناس، فهي تجعل العدو ولياً حميماً.
استأذن رجل فيه شدة وفجور وفسق على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل هذا الرجل: ((بئس أخو العشيرة))، وهذه صفة ذم، فلما دخل الرجل، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل وذهب، قالت عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه، تعني: لما دخل وجلس إليك اختلف الكلام عن التعليق عليه قبل أن يدخل عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة متى عهدتني فحاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره).
[17] رواه البخاري.
فهذه المداراة لهؤلاء العتاة؛ مهمة لجلبهم إلى طريق الحق، ولم يتنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من الدين، فلم يقل عن باطل أنه حق، أو عن حق أنه باطل، ولم يغير الأحكام الشرعية من أجل هذا الرجل، ولا من أجل غيره.
الفرق بين المداراة والمداهنة.
فالمداراة شيء، والمداهنة شيء آخر، فالمداراة لين الكلام، وبشاشة الوجه؛ لأجل استمالت هؤلاء الأعداء، وهؤلاء العصاة، وأما المداهنة فهي الثناء عليه بالباطل، وقول الباطل بين يديه، ونحو ذلك.
والناس يحبون المتواضع، وصاحب لين الجانب، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (سورة المائدة:54)
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران:159)
فاللين والتواضع هو الذي جمعهم عليه.
وعندما تستقبل أخاك فتوسع له في المجلس المزدحم لا يجد مكاناً يجلس فيه، وتدعوه بأحب الأسماء إليه، فإنه لا ينسى لك هذا المعروف.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "ثلاثة لا أكافئهم، يعني: لا أستطيع أن أقابلهم بمعروفهم، رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ يريد السلام عليَّ".
أنا الذي يكون اسمي عاليا *** بين البوادي ظاهراً وباديا
فاحفظ ودادي أيها المناديا *** إن كنت تريد مني وداديا
وهكذا يتودد الإنسان إلى هؤلاء الإخوان بما يستجلب قلوبهم، واجتماع قلوب المؤمنين من مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة تريد أن يكون المجتمع الإسلامي متآلفاً مجتمعاً، وأن يكونوا يداً واحدة؛ ولذلك فإن استعمال هذه الأسباب الشرعية عظيم جداً.
- ومن الوسائل: السماحة في المعاملة، ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى))[18]
يعني: طالب بحقه وطالب بدينه.
- التنازل عن الحقوق، والعفو والصفح، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (سورة فصلت:34)
فإذا قطعوك صلهم، وإذا أساؤوا إليك فأحسن إليهم، وإذا ظلموك فاعف عنهم، وإذا اشتدوا عليك فعاملهم باللين، وإذا هجروك فاقترب منهم، فطيب الكلام مع بذل السلام، مع الدعوة للطعام، تأتي بالنتائج العظام، ((وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً))[19]، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (سورة آل عمران).
كان بين حسن بن الحسن وابن عمه علي بن الحسين شيء من الخصومة، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله، وعلي ساكت، فذهب حسن، فلما كان في الليل أتاه علي بن الحسين، بعدما هدأت الأمور، وانتهى ذلك المجلس الذي فيه تلك القذائف، وطرق عليه الباب وقال: يا ابن عم إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشاً بالحلم، فو الله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي.
وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرماً.
- ومما يستجلب مودة القلوب: حسن السمت، وحسن اللباس، وطيب الرائحة، ((إن الله جميل يحب الجمال))[20].
وقال عمر: إنه ليعجبني الشاب الناسك، يعني: العابد، نظيف الثوب، طيب الريح، فكيف بمن يأتي بيت الله بثوب النوم، دون أدنى إزالة لما علق به من بعد قيامه من نومه.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: ما رأيت أحداً أنظف ثوباً، ولا أشد تعهداً لنفسه، وشاربه، وشعر رأسه، وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً، وأشده بياضاً من أحمد بن حنبل. يعني أباه.
قال الله عن موسى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) (سورة طه:39)
هناك محبة يلقيها الله، وهنالك أسباب تكملها، وهذه المحبة التي يلقيها الله عز وجل فضل ونعمة منه، ولكن أساسها الإيمان، وإرضاء الله عز وجل، ثم لا يضرك يا عبد الله أن تعلن محبتك لأخيك المسلم إذا كنت صادقاً؛ لأن ذلك مما يزيدها شداً، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه))[21]، وفي رواية مرسلة ((فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة))[22].
- ترك المراء، ومجادلة الناس للتغلب عليهم، وإظهار عوارهم في النقاش، وفضح موقفهم، مما يزيل النفرة، ويبعدها، ويستجلب المودة؛ لأن المراء يقسي القلب.
والنبي عليه الصلاة والسلام علمنا في الجملة من محاسن الأخلاق، وطيب المعاشرة، واللطافة، والزهد، ولين الجانب، ما نستجلب به قلوب من نعاشرهم، والإنسان اجتماعي بطبعه فلا بد من أناس يعاشرهم في البيت، وفي المكتب، وفي الحضر، وفي السفر.
قال أحد السلف يوصي ابنه: يا بني إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر بشيء عليهم يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم، ويكبر على مودتكم صغارهم، واسمح بمالك، واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ - في الإغاثة- فإن لك أجلاً لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئاً فبذلك يتم سؤددك.
استمالة القلوب بالوسائل المحرمة.
عباد الله:
من الناس من يحاول أن يستميل القلوب بوسائل محرمة؛ كالسحر، ومنه الصرف، والعطف، وكالرشوة، والظلم إرضاءً لمن يريد استمالته فيظلم آخرين من أجله، وكالمدح الكاذب، والنفاق، والثناء بغير حق، والإسراف في الولائم من أجله، والنميمة له ليتقرب إليه، ويتحبب على حساب من نمَّ عنهم وظلمهم، والسكوت عن منكراتهم.
كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنه: أن اكتبي إليَّ كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى معاوية: سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس))[23] والسلام عليك.
رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
إرضاء الله، ثم إرضاء الله، ثم إرضاء الله.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، واجمع على الحق كلمتنا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا ممن عبدوك كما تريد، أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أقض ديوننا واستر عيوبنا، أغننا من فضلك، أغننا عمن سواك، أغننا بحلالك عن حرامك، اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا الفردوس الأعلى، وأن تعيذنا من النار، اللهم إنا نسألك صلاح النية والذرية، اللهم أمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأغفر لنا يا عزيز يا غفور، انصر دينك، اللهم اقمع المنافقين، وأذل أعداء الدين، وعجل بفرج المسلمين، يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[1] رواه أحمد (3928) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3135).
[2] رواه البيهقي في الشعب (7252) وصحح الألباني في صحيح الجامع الصغير بمعناه (6662).
[3] رواه البخاري (3209) ومسلم واللفظ له (2637).
[4] رواه ابن ماجه (4102) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (922).
[5] رواه مسلم (54).
[6] رواه مسلم (2626).
[7] رواه مسلم (2567).
[8] رواه الطبراني في الأوسط (6026). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2623).
[9] رواه الترمذي (666). وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (4808).
[10] رواه مالك (1658) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3004).
[11] رواه أبو داود (4918). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6655).
[12] رواه مسلم (3002).
[13] رواه البخاري (1367) ومسلم (949).
[14] رواه مسلم (1780).
[15] رواه أبو داود (4693) والترمذي (2955). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1759).
[16] رواه البخاري (3127).
[17] رواه البخاري (6032).
[18] رواه البخاري (2076).
[19] رواه مسلم (2588).
[20] رواه مسلم (91).
[21] رواه الترمذي (2392) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (280).
[22] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (69) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (280).
[23] رواه الترمذي (2414). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6097).
الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله
مواقع النشر