مصارف الزكاة
==============
ما هي المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ؟
الحمد لله
" المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية ،
بيَّنها الله تعالى بياناً شافياً ، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة ،
وأنه مبني على العلم والحكمة ، فقال جل ذكره :
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
التوبة/60 .
فهؤلاء ثمانية أصناف هم أهل الزكاة الذين تدفع إليهم .
الأول والثاني : للفقراء ، والمساكين ،
وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم ،
والفرق بين الفقراء والمساكين : أن الفقراء أشد حاجة ،
لا يجد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة ،
والمساكين أعلى حالاً من الفقراء ؛
لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية ، وهؤلاء يعطون لحاجتهم .
ولكن كيف نقدر الحاجة ؟
قال العلماء : يعطون لحاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة .
لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال ،
فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة ،
فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة .
وهذا قول حسن جيد ، أي أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل ،
سواء أعطيناه أعياناً من أطعمة وألبسة ، أو أعطيناه نقوداً يشتري بها هو ما يناسبه ،
أو أعطيناه صنعة أي آلة يصنع بها إذا كان يحسن الصنعة : كخياط ، أو نجار ،
أو حداد ونحوه .
المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة .
الثالث : العاملون عليها :
أي الذين لهم ولاية عليها من قبل أولي الأمر ،
ولهذا قال : ( وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) التوبة/60
ولم يقل : العاملون فيها . إشارة أن لهم نوع ولاية ،
وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها ، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها ،
وكتابها ونحوهم ، وهؤلاء عاملون عليها يعطون من الزكاة .
ولكن كم يعطون منها ؟
العاملون على الزكاة مستحقون بوصف العمالة ،
ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف ،
وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها ، سواء كانوا أغنياء أم فقراء ،
لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم ، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة ،
فإن قدر أن العاملين عليها فقراء ، فإنهم يعطون بالعمالة ،
ويعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم .
لأنهم يستحقون الزكاة بوصفين العمالة عليها والفقر ،
فيعطون لكل من الوصفين، ولكن إذا أعطيناهم للعمالة ولم تسد حاجتهم لمدة سنة ،
فنكمل لهم المؤونة لمدة سنة ،
مثال ذلك: إذا قدرنا أنه يكفيهم لمدة سنة عشرة آلاف ريال ،
وأننا إذا أعطيناهم لفقرهم أخذوا عشرة آلاف ريال ، وأن نصيبهم من العمالة ألفا ريال ،
فعلى هذا نعطيهم ألفي ريال للعمالة ، ونعطيهم ثمانية آلاف ريال للفقر .
الرابع : المؤلفة قلوبهم :
وهم الذين يعطون لتأليفهم على الإسلام : إما كافر يرجى إسلامه ،
وإما مسلم نعطيه لتقوية الإيمان في قلبه ،
وإما شرير نعطيه لدفع شره عن المسلمين ،
أو نحو ذلك ممن يكون في تأليفه مصلحة للمسلمين .
ولكن هل يشترط في ذلك أن يكون سيداً مطاعاً في قومه حتى يكون في تأليفه مصلحة عامة ،
أو يجوز أن يعطى لتأليفه ولو لمصلحته الشخصية :
كرجل دخل في الإسلام حديثاً ، يحتاج إلى تأليفه وقوة إيمانه بإعطائه ؟
هذه محل خلاف بين العلماء ،
والراجح عندي : أنه لا بأس أن يعطى لتأليفه على الإسلام بتقوية إيمانه ،
وإن كان يعطى بصفة شخصية وليس سيداً في قومه ،
لعموم قوله تعالى : ( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ،
ولأنه إذا جاز أن نعطي الفقير لحاجته البدنية والجسمية فإعطاؤنا هذا الضعيف الإيمان لتقوية إيمانه من باب أولى ؛
لأن تقوية الإيمان بالنسبة للشخص أهم من غذاء الجسد .
هؤلاء أربعة يعطون الزكاة على سبيل التمليك ،
ويملكونها ملكاً تامًّا حتى لو زال الوصف عنهم في أثناء الحول لم يلزمهم رد الزكاة ،
بل تبقى حلالاً لهم ، لأن الله عبر لاستحقاقهم إياها باللام فقال :
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ،
فأتى باللام ، وفائدة ذلك : أن الفقير لو استغنى في أثناء الحول فإنه لا يلزمه رد الزكاة :
مثل لو أعطيناه عشرة آلاف لفقره وهي تكفيه لمدة سنة ،
ثم إن الله تعالى أغناه في أثناء الحول باكتساب مال ،
أو موت قريب له يرثه أو ما شابه ذلك ،
فإنه لا يلزمه رد ما بقي من المال الذي أخذه من الزكاة ؛ لأنه ملكه .
الخامس من أصناف أهل الزكاة : الرقاب ،
لقوله تعالى : ( وَفِي الرِّقَابِ ) ، والرقاب فسرها العلماء بثلاثة أشياء :
الأول : مكاتب اشترى نفسه من سيده بدراهم مؤجلة في ذمته ،
فيعطى ما يوفي به سيده .
والثاني : رقيق مملوك اشْتُرِيَ من الزكاة ليعتق .
الثالث : أسير مسلم أسره الكفار فيعطى الكفار من الزكاة لفكهم هذا الأسير ،
وأيضاً : الاختطاف ، فلو اختطف كافر أو مسلم أحد من المسلمين
فلا بأس أن يفدى هذا المختطف بشيء من الزكاة ،
لأن العلة واحدة ، وهي فكاك المسلم من الأسر ،
وهذا إذا لم يمكننا أن نرغم المختطف على فكاكه بدون بذل المال
إذا كان المختطف من المسلمين .
السادس : الغارمين .
والغرم هو الدين ، وقسم العلماء رحمهم الله الغرم إلى قسمين :
غرم لإصلاح ذات البين ، وغرم لسداد الحاجة ،
أما الغرم لإصلاح ذات البين ، فمثلوا له بأن يقع بين قبيلتين تشاحن وتشاجر أو حروب ،
فأتى رجل من أهل الخير والجاه والشرف والسؤدد ،
وأصلح بين هاتين القبيلتين بدراهم يتحملها في ذمته ،
فإنا نعطي هذا الرجل المصلح الدراهم التي تحملها من الزكاة ،
جزاء له على هذا العمل الجليل الذي قام به ،
الذي فيه إزالة الشحناء والعداوة بين المؤمنين وحقن دماء الناس ،
وهذا يعطى سواء كان غنيًّا أم فقيراً ، لأننا لسنا نعطيه لسد حاجته ،
ولكننا نعطيه لما قام به من المصلحة العامة .
أما الثاني : فهو الغارم لنفسه ، الذي استدان لنفسه ليدفعه في حاجته ،
أو بشراء شيء يحتاجه يشتريه في ذمته ، وليس عنده مال ،
فهذا يوفى دينه من الزكاة بشرط أن لا يكون عنده مال يوفي به الدَّين .
وهنا مسألة : هل الأفضل أن نعطي هذا المدين من الزكاة
ليوفي دينه أو نذهب نحن إلى دائنه ونوفي عنه ؟
هذا يختلف ، فإن كان هذا الرجل المدين حريصاً على وفاء دينه ، وإبراء ذمته ،
وهو أمين فيما يعطى لوفاء الدين فإنا نعطيه هو بنفسه يقضي دينه ،
لأن هذا أستر له وأبعد عن تخجيله أمام الناس الذين يطلبونه .
أما إذا كان المدين رجلاً مبذراً يفسد الأموال ،
ولو أعطيناه مالاً ليقضي دينه ذهب يشتري أشياء لا ضرورة لها فإننا لا نعطيه ،
وإنما نذهب نحن إلى دائنه ونقول له : ما دين فلان لك ؟
ثم نعطيه هذا الدين ، أو بعضه حسب ما يتيسر .
السابع : في سبيل الله .
وسبيل الله هنا المراد به الجهاد في سبيل الله لا غير ،
ولا يصح أن يراد به جميع سبل الخير ؛
لأنه لو كان المراد به جميع سبل الخير لم يكن للحصر فائدة في قوله تعالى:
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة/60 .
إذ يكون الحصر عديم التأثير ، فالمراد في سبيل الله هو الجهاد في سبيل الله ،
فيطعى المقاتل في سبيل الله ، الذين يظهر من حالهم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا ،
يعطون من الزكاة ما يحتاجون إليه من النفقات والأسلحة وغير ذلك ،
ويجوز أن تشترى الأسلحة لهم من الزكاة ليقاتلوا بها ،
ولكن لابد أن يكون القتال في سبيل الله .
والقتال في سبيل الله بَيَّنَه الرسولُ صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل حمية ،
ويقاتل شجاعة ، ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ قال :
( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) ،
فالرجل المقاتل حمية لوطنه وغير ذلك من أنواع الحميات ليس يقاتل في سبيل الله
فلا يستحق ما يستحقه المقاتل في سبيل الله ، لا من الأمور المادية الدنيوية ،
ولا من أمور الاۤخرة ، والرجل الذي يقاتل شجاعة أي أنه يحب القتال لكونه شجاعاً
ـ والمتصف بصفة غالباً يحب أن يقوم بها على أي حال كانت ـ
هو أيضاً ليس يقاتل في سبيل الله ، والمقاتل ليرى مكانه ،
يقاتل رياء وسمعة ليس يقاتل في سبيل الله ،
وكل من لا يقاتل في سبيل الله فإنه لا يستحق من الزكاة ؛
لأن الله تعالى يقول : ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ )
والذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
قال أهل العلم : ومن سبيل الله : الرجل يتفرغ لطلب العلم الشرعي ،
فيعطى من الزكاة ما يحتاج إليه من نفقة وكسوة وطعام وشراب ومسكن وكتب علم يحتاجها ،
لأن العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله ،
بل قال الإمام أحمد رحمه الله : ( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته ) ،
فالعلم هو أصل الشرع كله ، فلا شرع إلا بعلم ،
والله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط ،
ويتعلموا أحكام شريعتهم ، وما يلزم من عقيدة وقول وفعل .
أما الجهـاد في سبيـل الله فنعم هو من أشرف الأعمال ، بل هو ذروة سنام الإسلام ،
ولا شك في فضله ، لكن العلم له شأن كبير في الإسلام ،
فدخوله في الجهاد في سبيل الله دخول واضح لا إشكال فيه .
الثامن : ابن السبيل .
وهو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته ،
فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله لبلده ، وإن كان في بلده غنيًّا ؛ لأنه محتاج ،
ولا نقول له في هذه الحال : يلزمك أن تستقرض وتوفي
لأننا في هذه الحال نلزمه أن يلزم ذمته ديناً ،
ولكن لو اختار هو أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة فالأمر إليه ،
فإذا وجدنا شخصاً مسافراً من مكة إلى المدينة ،
وفي أثناء السفر ضاعت نفقته ولم يكن معه شيء وهو غني في المدينة ،
فإننا نعطيه ما يوصله إلى المدينة فقط ، لأن هذه هي حاجته ولا نعطيه أكثر .
وإذا كنا قد عرفنا أصناف أهل الزكاة الذين تدفع لهم فإن ما سوى ذلك من المصالح العامة أو الخاصة لا تدفع فيه الزكاة ،
وعلى هذا لا تدفع الزكاة في بناء المساجد ، ولا في إصلاح الطرق ،
ولا في بناء المكاتب وشبه ذلك ،
لأن الله عز وجل لما ذكر أصناف أهل الزكاة قال :
( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )
أي أن هذا التقسيم جاء فريضة من الله عز وجل ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .
ثم نقول : هل هؤلاء المستحقون يجب أن يعطى كل صنف منهم ؛
لأن الواو تقتضي الجمع ؟
فالجواب : أن ذلك لا يجب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن :
( أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ،
تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )
فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صنفاً واحداً ،
وهذا يدل على أن الآية يبين الله تعالى فيها جهة الاستحقاق ،
وليس المراد أنه يجب أن تعمم هذه الأصناف .
فإن قيل : أيها أولى أن تصرف فيه الزكاة من هذه الأصناف الثمانية ؟
قلنا : إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد ؛ لأن كل هؤلاء استحقوا الوصف ،
فمن كان أشد إلحاحاً وحاجة فهو أولى ، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين ،
ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال :
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ
وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة/60 .
والله أعلم .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين"
مواقع النشر