الجزء السادس عشر



خرجت ليلى من المكتب تجر قدميها بصعوبة و الألم يعتصر قلبها، لا تدري أي مفاجأة جديدة يخبئها لها والدها، بعد الخبر القاسي الذي تلقته منذ لحظات...

في تلك الآونة، كانت رجاء التي وصلت للتو، تقطع البهو بخطوات رشيقة محدثة طقطقة متواترة بكعبها العالي و تهز شعرها الذي انسدل على ظهرها في شكل ذيل حصان، متمايلة في مشيتها... توقفت فجأة حين لمحت ليلى تتقدم في اتجاه الدرج و هي لا تكاد تنتبه إلى وجودها من شدة انغماسها في أفكارها... بسرعة، قطعت المسافة التي تفصلهما في خفة، و اعترضت طريقها قبل أن تصل إلى الدرج.

وقفت ليلى على قيد خطوات منها و رفعت عينيها لتطالعها في دهشة و استغراب. ارتسمت على شفتي رجاء ابتسامة صفراء و هي تقول في دلال :
ـ أهلا... ليلى! كيف حالك؟

تمالكت ليلى نفسها بصعوبة، فهي لم تنس الكلمات التي سمعتها منها في لقائهما الأول، و لم تكن لتحتمل جرعة أخرى من سهامها في حالتها تلك... تمتمت في صوت شبه مسموع :
ـ بخير...

و همت بمواصلة طريقها. لكن رجاء اقتربت منها أكثر و قالت و قد تغيرت النظرة في عينيها :
ـ اسمعي يا عزيزتي... لا تحاولي أن تلعبي دور الفتاة البريئة و الطيبة! لأنني أعرف طينتك جيدا، أنت و شقيقتك و كل عائلتك! لا تظني بأن قطعة القماش التي تضعينها على رأسك ستقنعني بأنك ملاك السلام والطهر... و إنني لأحذرك، لا تحاولي أن تلعبي نفس اللعبة التي لعبتها حنان من قبلك!

تابعت و هي تشير بسبابتها إلى ليلى في حركة مهينة :
ـ ما أنت إلا ضيفة هنا، و لفترة محدودة... لذلك لا تحاولي أن تكوني سيدة القصر! فليس معنى أنك حصلت على الغرفة الزرقاء، أنك ستحصلين على كل شيء معها!

لم تكن ليلى قد استفاقت من صدمتها الأولى... تراجعت في ذهول و قد هزتها كلمات رجاء :
ـ ما الذي تقصدينه؟

وضعت رجاء كفها على خدها في حركة مسرحية و قالت بصوت رقيق و هي تمثل التأثر :
ـ ياي! تمثيلك مؤثر حقا! هل تظنين أنني أجهل الهدف الذي اتفقت أنت و والدك من أجله على القدوم إلى هنا؟ أرجوك يا عزيزتي، ليس الجميع مغفلين هنا! و اعلمي أنني لن أسمح لك بتنفيذ المخططات التي في رأسك الصغير!

تمالكت ليلى نفسها بصعوبة و هتفت في عدم تصديق :
ـ أنت... أنت... أنت إنسانة مريضة!!!

شهقت رجاء في حدة و ضربت على صدرها بكفها في ارتياع، ثم صرخت في غضب :
ـ احترمي نفسك يا هذه! و تذكري جيدا من تكلمين!

ثم انحنت لتقترب برأسها من ليلى و همست في صوت كالفحيح :
ـ أنا من ستكون السيدة هنا... أعدك بذلك!

ابتسمت ليلى في سخرية و قالت :
ـ و كأننا نتنافس على شيء ذي بال! الغرفة لك من اليوم إن شئت! و القصر أمامك، ارتعي فيه على راحتك!

تحركت رجاء في اتجاه الدرج و هي تلوح بكفها في استهانة و قالت :
ـ لست مستعجلة... أترك لك الغرفة لبضعة أيام... لكنها ستكون لي عاجلا أم آجلا...

أطلقت ليلى ضحكة قصيرة، فيها شيء من السخرية... و المرارة، و أردفت :
ـ آسفة يا عزيزتي... لكن يبدو أنني سأطيل المكوث هنا، أكثر مما تصورت... و مما تتصورين!

كانت رجاء قد صعدت درجتين، فتوقفت و استدارت إليها في حدة و هتفت في شك :
ـ ماذا تقصدين؟

هزت ليلى كتفيها في تسليم و هي تقول :
ـ يبدو أن والدي ينوي الاستقرار النهائي في الوطن... و قد نقيم جميعا هنا إلى أجل غير مسمى!

ذعرت ليلى من نظرة الحقد التي أطلت من عيني رجاء في تلك اللحظة، و لم تشعر بها إلا و قد وثبت ناحيتها و هي تصرخ في هيجان، و أخذت تشد حجابها في قسوة، كأنها تريد جرها من شعرها، ثم أنشبت أظافرها، التي يمكن تصنيفها ضمن المخالب، في وجهها في شراسة. صرخت ليلى من الألم و القهر، و هي تحاول التخلص من هجمة رجاء الوحشية. لكن رجاء لم تتوقف عن الهتاف و العراك :

ـ أيتها القذرة، الوضيعة... أعلم أنك تطمعين في الثروة... كما كانت نجاة و حنان من قبل... لكنني لن أسمح لك... لن أسمح لك أن تأخذيه مني من جديد... هل تفهمين!

كانت ليلى تصارعها في إعياء و هي لا تفهم شيئا من كلامها... كانت تحس بالتعب، بتعب شديد بعد مكالمتها مع والدها... و كانت كلمات رجاء الجارحة و المجانية هو ما ينقصها حتى تنهار مقاومتها و تخور قواها...

فجأة، أتاهما صوت يصرخ في غضب :
ـ رجــــــــــــــاء!

توقفت رجاء و التفتت إلى المدخل حيث مصدر الصوت. كان فراس قد عاد للتو من عيادته، و ما إن أوقف سيارته قرب المدخل حتى تناهت إلى مسامعه صرخة ليلى، نزل من السيارة بسرعة و ركض إلى الداخل. و ما إن خطا داخل البهو، حتى وصلته هتافات رجاء و شتائمها...

ركضت رجاء نحوه، و قد وضعت على وجهها قناع البراءة، في سرعة خرافية، و هتفت متصنعة الوداعة :
ـ فراس... أرأيت كيف تعاملني ابنة عمتك؟ إنها متوحشة!

تمسكت بذراع فراس الذي كان ينظر إلى ليلى و قد بدا عليه التردد و الحيرة... كانت ليلى تقف في ذهول، و قد فسد هندامها و ارتخى وشاحها على رأسها... و على خدها جرح طويل... رفعت كفها للتحسس موضع الألم فاصطبغت أناملها بقطرات الدم التي أخذت تطل من الجرح. لم تعد تستطيع مقاومة ألمها، النفسي الذي فاق الجسدي بكثير... فسالت العبرات من عينيها أنهارا. راحت تبكي في صمت، و هي تطالع رجاء التي التصقت بفراس، تحاول إخفاء فعلتها :
ـ هي استفزتني... و...

أبعدها فراس عنه في صرامة و أشار إليها بيده كي تصمت. تقدم نحو ليلى و قال في اهتمام :
ـ دعيني أنظف الجرح...

كان يحمل في يده حقيبته الطبية. وضعها على الأرض و بدأ في تجهيز القطن و المعقم... تراجعت ليلى في نفور و هتفت :
ـ لا أريد منك شيئا! فقط اتركني و شأني... اتركوني و شـ... ـأنـ...ـي...

تقطعت كلماتها و قد أخذ جسدها الصغير يهتز في انفعال و هي تضم ذراعيها إلى جسدها، كأنها تحمي نفسها من خطر قادم. و تعالت شهقاتها في ألم يقطع نياط القلب... كطفلة صغيرة، تفتقد الحنان و الأمان... أصبحت مهزوزة فجأة، بكت كثيرا في الأيام الأخيرة... لم تعد تتعرف إلى نفسها... كيف صارت ضعيفة هكذا؟!

احتقن وجه رجاء و هي ترى علامات التعاطف على وجه فراس، فهتفت :
ـ هل تظنين بأنك ستخدعيننا بدموع التماسيح هذه؟! لقد فهمت خطتك منذ اللحظة الأولى... و قد ثبت لي كل شيء بعد أن علمت أنك تخططين للبقاء هنا بصفة دائمة!!

التفت فراس إلى ليلى و هو يعقد حاجبيه في اهتمام :
ـ هل حقا ستقيمين معنا بصفة دائمة؟

التفتت إليه في حدة، و قد أخذ صدرها يهتز من انفعالها... و في فورة ألمها، ترجمت كل مشاعرها الغاضبة الحانقة، في نظرة ملتهبة، رمته بها، قبل أن تهتف في عنف :
ـ ليس ذلك باختياري!

ثم اندفعت إلى الدرج، و قد ملأت الدموع عينيها و جعلت رؤيتها ضبابية. تريد الفرار من هذا المكان برمتّه، لكنها لا تملك سوى الابتعاد لبضعة أمتار فقط، إلى غرفتها! فجأة توقفت، و التفتت ثانية إلى فراس الذي كان يتابع حركاتها في حيرة. نظرت إليه في انهيار و هتفت :
ـ أخبرني... لماذا تزوجت حنان؟

امتقع وجه فراس بشدة، و لبث ينظر إليها بلا حراك، كأنه يبحث في وجهها عن حنان أخرى... لم يكن السؤال مناسبا للموقف أبدا، و لم يكن يتوقع أن يطرح عليه السؤال بتلك الطريقة يوما... لكن رجاء رفعت صوتها و هي تجيب عنه في سخرية لاذعة :
ـ كان ذلك خطأ يا عزيزتي... خطأ لن يتكرر إن شاء الله!

كانت ليلى تنتظر تعليقا من فراس... لكنه لم ينبس بكلمة، بل أشاح بوجهه في صمت ليتجنب نظراتها، أو ربما ليبعد عنه ذكريات قديمة أثارها سؤالها في نفسه... لم تستطع ليلى أن تنتظر أكثر، بل انبرت ترتقي الدرجات بأوصال مرتجفة... تعثرت في سيرها، و التوى كاحلها... لكنها عضت على شفتيها من الألم و هرولت بخطى مرتبكة إلى غرفتها، لا تلوي على شيء...

أغلقت الباب خلفها، تريد اعتزال العالم، و الاختلاء بآلامها... استندت على الجدار في تعب، لكن ما لبثت أن عادت إليها الرجفة، فارتمت على السرير، تبحث في ثناياه عن بعض الدفء...


********


أخذت نفسا عميقا و هي لاتزال مستلقية على ظهرها، تمسك بمنديل ورقي تضغطه على مكان الجرح من خدها. كانت قد هدأت، و استجمعت شتات نفسها. تفكر في مستقبل أيامها... و كل الكلام القاسي الذي رمته رجاء اليوم بوجهها. لم تفهم سر هجومها الشرس، و كلماتها المسمومة... هل كانت تكره حنان و والدتها إلى هذه الدرجة، حتى تعاقبها على انتمائها إليهما؟ أم لأنها تحمل نفس الوجه الذي يذكرها بماض تمقته؟

تنهدت في ألم... هي الأخرى تعتقد بطمع والدتها في ثروة أخيها و أنها سعت إلى تزويج حنان من فراس لهذا السبب... و لأنه المفضل عند والده! لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في فراس. لا تفهم تعاطفه و اهتمامه... تقابل تصرفاته اللطيفة بردود قاسية... لا تزال كلمات حنان تعود إليها كلما وقع نظرها عليه... لكنها تشعر بالضياع، و تفقد توازنها، أمام التباين الواضح بين الصورة التي رسمتها له حنان في مذكراتها... و الصورة التي تراه عليها في الواقع. رغم تجهمه و صرامته، و جفاف طباعه... إلا أنها ترى فيه لمسة من الإنسانية... و تشعر بالحزن الذي يسكن في أعماقه. لكن ذلك لا يكفي، لا يكفي أبدا لتحكم عليه و تبرئه من مسؤوليته فيما حصل لحنان!

نفضت تلك الأفكار عن رأسها، و تقلبت على جانبها الأيمن... تسلل طرف ورقة بيضاء من أسفل الوسادة. اشتعل ناقوس الخطر في رأسها فجأة. استوت في جلستها و هي تمسك باللفافة الورقية بين يديها. لم تكن قد فكرت في وسيلة إرجاعها من حيث أخذتها. و لكنها يجب أن تتصرف على الفور قبل أن يلاحظ أحد غيابها.

قفزت من السرير و قد نسيت أو تناست ما كان يشغل تفكيرها، و في لحظات كانت قد قطعت المسافة إلى جناح ياسين و منال. وقفت مترددة... أي ذريعة تفسر زيارتها؟ رفعت يدها و طرقت الباب في لطف، و لبثت تنتظر. مرت ثوان، و لم يصلها رد من الداخل. وضعت يدها على المقبض، و أدارته... و بسهولة تامة، انفتح الباب. أطلت برأسها في هدوء و نادت بصوت مرتبك :
ـ منال... منال، أنت هنا؟

لم يأتها أي جواب. دفعت الباب فأحدث صريرا خافتا... خطت إلى الداخل في حذر و هي تقاوم صوتا داخليا يؤنبها في قسوة. كيف تدخل إلى الجناح في غياب أصحابه؟ و لكنها سبق أن أخذت ورقا بدون علم أصحابه... و هاهي تصلح خطأها بخطأ جديد! بدا الجناح هادئا، و لا أحد بالداخل. أغلقت الباب خلفها في رفق، حتى لا يجلب الباب المفتوح انتباه الخدم.

سارت بسرعة إلى ركن الخزانة، فتحتها و أخرجت الأوراق من حقيبتها و هي تتلفت حولها في ارتباك. مدت يدها إلى الرف السفلي، من حيث أخذتها، فشدت انتباهها مجددا القلادة الغريبة. وضعت الأوراق، و رفعت القلادة بين كفيها في رفق، و راحت تتأملها بعمق... سرحت مع أفكارها... تعلم أن القلادة لا تنتمي إلى هذا المكان! لكن كيف وصلت إلى هذه الخزانة؟ تنهدت بصوت مسموع... لشد ما تريد الاحتفاظ بها، قطعة من ماضي عائلتها...

فجأة، سمعت صرير الباب من جديد. التفتت في ذعر إلى باب الجناح، فرأت ما جعل وجهها يفقد ألوانه... كان ياسين يقف عند الباب و يطالعها في هدوء غريب... هل هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ تمنت لو أنها تملك وسيلة للاختفاء من هناك على الفور، لكنها لم تكن تملك الخيار... ما الذي سيقوله عنها الآن؟ بم تراه يفكر؟ اقترب منها و على وجهه علامات الاهتمام. راقبت حركاته و هي تحاول السيطرة على ارتجافها... و أخيرا، تحركت شفتا ياسين ليتكلم بكلمة لم تتوقعها أبدا في تلك اللحظة :
ـ ما هذا الجرح؟

كان الجرح الذي تسببت فيه أظافر رجاء بارزا على وجنتها، و يشوه وجهها. ظنت لوهلة أنه يسخر منها... أو أنها لم تسمع جيدا، من فرط انفعالها... لكنه أضاف :
ـ هل رآك فراس؟ دعيه يعقمه حتى لا يزداد الأمر سوءا... ما الذي حصل؟

أطرقت في خجل من اهتمامه، و هي التي اقتحمت جناحه و عبثت بمحتويات خزانته. همهمت في خفوت :
ـ مجرد حادث بسيط... سأهتم بالجرح بنفسي...

انتظرت أن يسألها عما تفعله هناك، و أخذت تبحث في رأسها الفارغة عن حجة، و إن كانت تافهة. لكنه فاجأها بسؤال جديد :
ـ أعجبتك؟

نظرت إليه في دهشة، و هي لا تستوعب سؤاله. انتبهت إلى أنه كان ينظر إلى القلادة التي لا تزال بين يديها! ارتبكت، و لم تدر بما تجيب... فقد أمسكها متلبسة في غرفته و بيدها المسروق!

لكنه واصل قائلا :
ـ لا شك أن صاحبتها افتقدتها... لكن من الغريب أنها لم تبحث عنها! وجدتها منذ 4 سنوات أو أكثر، في حديقة القصر... و لم يصرح أحد بفقدانها...

استدار و ابتعد عنها بضع خطوات. توجه إلى الجانب الآخر ليلقي بمفاتيحه على منضدة قريبة، و قال في لامبالاة، دون أن ينظر إليها :
ـ إنها لك، إن شئت...

راقبته في عدم تصديق. ابتعد عنها، في اتجاه الحمام، و قبل أن يختفي داخله قال بصوت هادئ :
ـ إن احتجت إلى أي شيء... فلا تترددي في طلبه...

بقيت ليلى مسمرة في مكانها للحظات، و هي لا تستوعب ما حصل للتو... لكنها ما لبثت أن حثت الخطى إلى الخارج، و هي تقبض على القلادة بقوة، قبل أن يتراجع ياسين في كلامه...