الجزء الثالث و العشرون



وصلت إلى المزرعة و هي تحس بتعب شديد. ليست متعودة على شوارع المدينة بعد... أخطأت الطريق الزراعية في البداية، و اضطرت إلى العودة مجددا إلى مركز المدينة لتبحث عن المنفذ الجانبي المناسب! كادت تستسلم و تقرر النزول في أحد الفنادق، خاصة أن الشمس كانت قد بدأت تميل إلى الغروب... لكنها أخيرا تعرفت على المسار الذي سلكته سابقا بضع مرات... لكن الرحلة كانت أطول من العادة!

نزلت من سيارتها و تناولت حقيبتها الصغيرة... كانت السماء شبه مظلمة. حمدت الله لأنها وصلت في الوقت المناسب... فهي لم تتعود السياقة في الليل! كان المنزل الريفي هادئا كالعادة، و ضوء خافت يصل من ناحية المطبخ. دلفت من الباب الأمامي الذي يؤدي مباشرة إلى قاعة الجلوس المفتوحة، و هتفت بصوت عال لتلفت انتباه ساكنة المنزل :
ـ خالة مريم... أنت هنا؟... خالة مريم!

أطلت المربية العجوز من باب المطبخ في نهاية الممر و قالت في همس :
ـ ليلى... تعالي إلى هنا... لا تحدثي ضجة!

نظرت إليها ليلى في استغراب، فأشارت مريم إلى أريكة في قاعة الجلوس. التفتت ليلى على الفور، للتسمر مكانها من المفاجأة... على الأريكة العريضة المقابلة يرقد آخر شخص كانت تتوقع أن تلقاه هنا و قد غاب في نوم عميق : فراس! لبثت تتأمله للحظات... كان يستلقي على ظهره و يضع ذراعيه خلف رأسه و وجهه إلى السقف... كان يعقد حاجبيه حتى و هو نائم! غريب أمر ذاك الرجل...

لحقت بالخالة مريم إلى المطبخ. ما إن رأت حقيبتها حتى ابتسمت و قادتها إلى الطابق الأول. قادتها إلى غرفة النوم التي استعملتها في زيارتها السابقة. وضعت حاجياتها و أدت صلاة المغرب قبل انقضاء وقتها، ثم جلست على طرف السرير و هي تفكر... ما الذي ستفعله الآن؟ أرادت الفرار من مواجهة فراس فإذا بها تجده هنا! لا تستطيع المغادرة الآن، فهي بالكاد وجدت الطريق في وضح النهار، فكيف بها بعد أن غابت الشمس؟ خاصة أنها تخاف السياقة ليلا... تنهدت في حيرة. يبدو أنها لا تملك خيارات كثيرة... لكن ربما كانت الفرصة مناسبة حقا... طالما أنها وجدت نفسها مع فراس في مكان واحد دون تخطيط منها، فربما كان في ذلك حكمة من الله... لمَ لا تتحدث إليه إذن؟ إنه معني بالأمر مثلها، و بغض النظر عن كل الكلام الذي سمعته اليوم، لا ضير من المحاولة!

نزلت إلى المطبخ في هدوء و انضمت إلى المربية التي كانت تعد طعام العشاء... جلست إلى المائدة في إطراق و قد سرحت أفكارها بعيدا... لبثت صامتة لبضع دقائق، ترتب أفكارها و تستعد للمواجهة القريبة... أنهت مريم عملها و اقتربت منها. جلست قبالتها و قالت مبتسمة :
ـ ما الذي يشغل صغيرتي؟

تنهدت ليلى و هي تضع وجهها بين كفيها و تسند مرفقيها إلى المائدة، ثم قالت في ضجر :
ـ أخبرك عن موضوع الزواج، أليس كذلك؟

هزت مريم رأسها موافقة :
ـ نعم أخبرني...

صمتت لبعض الوقت ثم أضافت و هي تطالع ليلى في دهاء :
ـ لكنه أخبرني عن أشياء أخرى أيضا...

التفتت إليها ليلى في استغراب :
ـ أشياء أخرى؟

تكلمت مريم ببطء و هي تصاحب كل كلمة بنظرات ذات معنى :
ـ عن باقة الورود... و القهوة...

حملقت فيها ليلى للحظات في دهشة، ثم ما لبثت أن عبست و هي تقول :
ـ غير معقول! باقة الورود و القهوة! ماذا بشأنها؟

صمتت الخالة لبعض الوقت ثم أضافت :
ـ المواقف التي رآها تثير نقاط استفهام كثيرة...

هتفت ليلى في احتجاج :
ـ نقاط استفهام؟ بخصوص ماذا؟ كيف وصل به الأمر إلى التشكيك في أخلاقي؟ ألم يكن بإمكانه أن يتأكد من الأمر قبل أن يحوك القصص و ينشرها؟

ربتت مريم على كفها مهدئة و هي تقول :
ـ هوني عليك يا صغيرتي... ليس الأمر كما تظنين، لكن أخبريني ما الذي حصل بالضبط؟

هزت كتفيها في لامبالاة و هي تقول :
ـ مأمون، مساعد والدي أحضر له باقة ورود البارحة... لكن كان هناك ضيوف بالداخل فلم يرد أن يزعجهم، و كنت قد خرجت لبعض الأمور فالتقيته في الممر فطلب مني أن أوصل الباقة إليه مع تمنياته بالشفاء... هذا كل ما في الأمر! و قد فوجئت حقا حين رأيت فراس يخرج من غرفة والدي و ينظر إلي بتلك الطريقة الغريبة، كأنني ارتكبت بحقه جرما!!

ـ حسن، و ماذا عن القهوة؟

ابتسمت في سخرية و هي تقول :
ـ مساعدة إنسانية! الرجل رآني أكاد أسقط على الأرض لأنني لم آكل شيئا لأكثر من أربع و عشرين ساعة، فأسعفني ببعض القهوة... فتحولت إنسانيته إلى تهمة ضدي و ضده! أمر لا يصدق!!

اتسعت ابتسامة المربية و هي تقول في ارتياح :
ـ رائع! حلت المشكلة الطرف الأول! و أنت، أخبريني الآن... ما الذي يزعجك في الزواج من فراس؟

لم تفهم ليلى إلامَ ارمي مريم بملاحظتها، لكن سؤالها شدها، فنظرت إليها و قد اكتست ملامحها الاهتمام و الجدية و قالت :
ـ في المرة الماضية، قلت أن لديك فكرة عن أسباب زواج حنان و فراس... أرجوك أخبريني عنها، أحتاج إلى أن أفهم طبيعة علاقتهما!

همهمت المربية في تردد :
ـ و لكنني... لست متأكدة...


ـ أنا سأخبرك بما تريدين!



التفتتا في نفس الوقت إلى باب المطبخ حين وصلهما صوت رجالي هادئ... كان فراس يستند إلى الباب و قد عقد ذراعيه أمام صدره. أضاف و هو يتقدم ليجلس على أقرب مقعد :
ـ اسألي ما شئت... سأجيبك عن كل شيء...


كان فراس قد استيقظ منذ قليل و هو يحس بألم في رأسه... ذهب إلى العيادة في الفترة الصباحية، لكنه لم يستطع المكوث أكثر. آلام مفاجئة داهمته في رأسه و صدره لم يستطع مقاومتها... اعتذر من مرضاه لليوم الثاني على التوالي، و أجل مواعيده إلى الغد... يجب أن يرتاح لبعض الوقت، و يسيطر أكثر على انفعالاته. خيبة أمله كانت من النوع الثقيل. مع أنه تعود على الألم و الكتمان، إلا أن هذه المرة كانت أقسى من كل المرات السابقة. لم يكن يعلم أن الصورة التي رسمها لها في خياله غالية إلى تلك الدرجة... و تحطم الصورة بتلك السرعة و القسوة أثر فيه كثيرا...

حين وصل إلى المزرعة، كان شبه منهار، لم يكن بإمكانه العودة إلى القصر و رؤيتها مجددا بعد أن تشوهت صورتها في عينيه... كان ذلك ليكون مؤلما جدا... و لم يستطع أن يكتم حزنه و ألمه عن الخالة مريم. كانت ملامحه تفضح ما في صدره، و كان في حاجة إلى المواساة... ما إن سألته، حتى وجد نفسه يقص عليها الحكاية منذ البداية... مختلف الأحاسيس التي راودته... من النفور إلى اللامبالاة إلى الاحترام إلى الإعجاب... إلى ذاك الشيء الغريب الذي يحسه في صدره منذ أيام... وصولا إلى الألم الشديد الذي أخذ يمزق أحشاؤه منذ هذا الصباح... كان يحس بالضعف و هو يلفظ أمامها مشاعره التي تعود كتمانها... يلفظها كشيء سخيف، يحتقره، و يسبب له الكثير من المعاناة...

استسلم إلى النوم و دموعه على وجنتيه، مثل طفل صغير. بكى من القهر... بكى من استيائه من نفسه، و من مشاعره. بكى ضعفه المفاجئ و ألمه الذي لم يقدر على السيطرة عليه. حين استيقظ، كان لا يزال يحس بصداع شديد... سمع صوت الخالة مريم و هي تحرك القدر في مطبخها... ظل مستلقيا في مكانه، يفكر بما ألمّ به... فجأة تناهى إليه صوت أقدام تنزل الدرج الخشبي المؤدي إلى الطابق الأول في حذر... تسمر في مكانه ينتظر في استغراب، من يكون الشخص الثالث الذي انضم إليهما؟ و ما لبث أن سمع صوتها و هي تتحدث إلى الخالة مريم في خفوت... كأنهما تخشيان إيقاظه...

تسارعت دقات قلبه بجنون و قام على الفور من رقاده. ما الذي جاء بها إلى هنا؟ مسح وجهه بكفه في ضيق... اقترب من المطبخ بهدوء، يحاول أن يستمع إلى محادثتهما... وقف ينصت لبضع دقائق و كانت قسمات وجهه تتغير مع كل كلمة و ضربات قلبه على جدار صدره تعلو... إذن هذا كل ما في الأمر؟ إنها بريئة من كل ما اتهمها به! و إنه ليعجب الآن من نفسه، كيف وضعها في نفس المرتبة المتدنية مع حنان و نجاة! كيف تسرع في الحكم عليها مع ما يعلمه من نقاء سريرتها؟ استند إلى الحائط الفاصل بين قاعة الجلوس و المطبخ في إرهاق... يحس كأنه قطع مسافة طويلة من الجري دون توقف... العرق يملأ وجهه... لكن هناك، في صدره، كانت العضلة التي تسمى القلب تضخ الدماء إلى جسده بكرم لا مثيل له و تنشر معها ذاك الشيء الذي أزعجه في السويعات القليلة الماضية، و تمنى لو يخنقه... تبثه في جميع خلايا جسمه بسرعة رهيبة، فيسري خدر عجيب في أوصاله... مزيج من الارتياح و السعادة و الألم! ألغام تتفجر في صدره و الموسيقى الداخلية التي تعزفها نبضاته تطغى على حواسه الخارجية كلها... لم يعد يقاوم... لم يعد يريد المقاومة... ربما كان في ذاك الشيء راحته بعد رحلة التعب الطويلة !

لم يكن اتصاله بالعالم الخارجي قد انقطع بعد... سمعها و هي تسأل ذاك السؤال الذي أخفى إجابته عن الجميع طوال السنوات الماضية... تمالك نفسه و استقام في وقفته... عليه أن يريح قلبها، مثلما أراحت قلبه... هكذا فكر و هو يخطو باتجاه المطبخ، كأنه يخطو نحو مرحلة جديدة من حياته، ربما آن لها أن تبدأ...


نظرت ليلى في دهشة إلى الشخص الذي تقدم نحوها في هدوء و جلس غير بعيد عنها، و في عينيه نظرة غريبة. ليست تلك النظرة التي تثير ذعرها و ارتيابها... و لكنها أشبه بتلك النظرة التي تربكها و تشعرها بصفاء و دفء الشخص الماثل أمامها... لم تستطع أن تحرك ساكنا أمام الذهول الذي اعتراها. أي الأشخاص أنت يا فراس؟ قطع عليها تأملاتها و هو يستطرد بصوت متعب :
ـ لم أكن أنوي أن أتحدث إلى أي كان بما حصل، لكن أجدني في موقف حرج يجبرني على البوح بكل ما كتمته طوال السنوات الماضية...

تعلقت عيناها بشفتيه و هو يتابع :
ـ سأروي لك الحكاية كلها منذ البداية... و إن بقيت لديك تساؤلات بعدها فلا تترددي...

هزت رأسها موافقة دون أن تتكلم. لا تكاد تصدق أنه هنا أمامها و مستعد ليشرح كل شيء بنفسه! إنه أقصى ما كانت تطمع فيه! تنهد فراس و هو يردف قائلا :
ـ الحكاية، لست أدري كيف بدأت بالضبط... حكاية ضياع حنان... و انحراف عمتي... نجاة... لكن حكايتي مع حنان بدأت في يوم ما، منذ ثلاث سنوات و نصف تقريبا... يوما تلقيت اتصالا من مجهول، يعلمني بأن حنان موجودة في إحدى حانات الحي الشعبي، و يطلب مني أن أذهب لأخذها!

هتفت ليلى في دهشة :
ـ اتصال من مجهول؟ حانة؟

هز رأسه مؤكدا ثم واصل قائلا :
ـ لست أدري لماذا و كيف وصلني ذاك الاتصال... و إلي أنا بالذات... لكن منذ ذاك اليوم، أصبحت مسؤولا عن حنان بدون اختيار مني! ذهبت إلى العنوان الذي أملاه علي المتصل المجهول، وجدته بعد بحث طويل، فالأحياء الشعبية مليئة بالأزقة المتعرجة، و العنوان وحده لا يكفي للعثور على مكان ما... المهم، وصلت إلى المكان المقصود... دفعت الباب فطالعني مشهد مقرف...

تغيرت ملامحه، كأنه يطالع المشهد من جديد، بعيني ذاكرته :
ـ كان داخل المبنى مظلما تقريبا و الروائح العفنة تتصاعد منه، مختلطة مع روائح الخمور التي يتعاطاها رواد المكان... لم أصدق أن حنان قد ترتاد مكانا كهذا، و ظننت أن صاحب الاتصال قد أخطأ، لكن بعد أن تعودت عيناي على الظلام، أجلت بصري في الداخل، فلمحتها... في مشهد مخز... حنان شبه ثملة، تترنح بين ذراعي شاب ثمل هو الآخر، و ضحكاتها تملأ المكان! لم أصدق عيني، و لم أستطع أن أبعدهما عن المنظر المؤلم... لبثت مسمرا في مكاني لبعض الوقت، لا أقدر على الحراك من الصدمة، لكنني انتبهت إلى نظرات مريبة من بعض الأشخاص المحيطين بي من فاقدي العقول بصفة مؤقتة... فاندفعت إلى طاولتها بسرعة، جذبتها من ذراعها بشدة و قدتها أمامي إلى السيارة...

تنهد بصوت مسموع قبل أن يستطرد :
ـ لم أكن أعلم كيف أتصرف. دفعت إليها قارورة ماء كي تشرب و تغسل وجهها، علها تستيقظ و تدرك ما كانت تفعله. فتاة في السابعة عشر من عمرها، تدخل الحانات، و تتصرف بفجور! في الطريق ظللت صامتا، و هي كانت مطرقة. ظننت أنها نادمة. حين وصلنا إلى القصر نزلت و سبقتني إلى الداخل. لحقت بها في الحديقة و استوقفتها. أردت أن أتأكد من أنها واعية بخطئها و لن تعيد الكرة. لكنها نظرت إلي بوقاحة، و هتفت بأن ذلك ليس من شأني و أنها حرة في أفعالها ! لم أصدق ما أسمع، و لم أستطع تحمله... فار الدم في عروقي، و للمرة الأولى و الأخيرة في حياتي... ضربتها! كنت قاسيا عليها... ما هكذا يعامل المراهقون في عمرها... لكنني لم أكن أملك خبرة في التعامل مع مثل هذه المواقف الحرجة، و هي استفزتني ببرودها و إصرارها على رأيها...

قالت ليلى بصوت هادئ :
ـ و حينها، رآكما ياسين...

التفت إليها في دهشة :
ـ كيف عرفت؟

هزت كتفيها في استهانة و هي تقول :
ـ ليس ذلك مهما، واصل أرجوك...

ـ أقسم أنها كانت المرة الأخيرة التي وضعت فيها يدي عليها... لم ألمسها بعد ذلك اليوم بخير أو شر...

طالعته ليلى في دهشة، ثم همست في اهتمام :
ـ ما الذي حصل بعد ذلك؟

تنهد مجددا، فالحديث الذي يحمله في صدره ذو شجون...
ـ حاولت في الفترة الموالية أن أراقبها و أمنعها من التهور ثانية... لكن مشاغلي كانت كثيرة، خاصة مع تزايد الضغط في السنوات الأخيرة من الدراسة... لذلك لم يكن لدي الكثير من الوقت لأخصصه لرعاية المراهقة التي كانت، خاصة بعد أن تركت الدراسة و ملكت حريتها كاملة! عمتي كانت تعيش في عالم آخر... سهرات و رحلات و أعمال كثيرة... والدي لم يكن شخصا متفرغا ليهتم بأمر حنان، و ياسين مسؤول عن عائلته الصغيرة، بعد ولادة رانيا... لم أرد أن أزعجه بهذه المسؤولية الإضافية... أما أمين، فكان يجب أن يبقى خارج المسألة بأسرها، لأنه سريع التأثر بكل ما يخص حنان! خشيت أن تأخذه معها في طريقها... كما أنني من ناحية أخرى، أحسست بأن لوصول ذاك الاتصال إلي أنا بالذات حكمة ما... حكمة لا يعلمها إلا الله... لذلك قررت ستر أمرها، فربما تعود إلى الجادة قريبا... ربما...

نظرت إليه ليلى بعينين مليئتين بالدموع. كم كان يبدو صادقا في كل كلمة قالها. كم بدا متعبا و هو يتحدث عن تلك الأحداث التي تحملها بمفرده في الماضي... لكن يبدو أن القصة لا تزال في بدايتها...

ـ بعد أسابيع قليلة، تبين إلي أن أملي في هدايتها قبل أن يصيبها مكروه ذهب أدراج الرياح! فقد واصلت حماقاتها المتهورة، و لم يكن شيء ليردعها عن تحقيق ما في رأسها الصغيرة... في ذاك المساء، طرقت حنان باب غرفتي... دخلت و هي ترتعش بشدة، كورقة خريف تعصف بها الرياح بقوة... ألقت بنفسها عند قدمي و أخذت تبكي و تتوسل و تتحدث بكلمات مبهمة... في البداية، لم أفهم شيئا من كلامها... لكن رويدا رويدا بدأت العبارات تتضح و تتخذ معان في رأسي... معاني قاسية و محطمة! ما لم أكن أعلمه، هو أن ذاك النوع من الحانات، يهيئ لرواده غرفا خاصة في الطابق الأول للممارسة الرذيلة!! حنان، المراهقة ذات السبعة عشر عاما، سقطت في الفخ بسهولة... و بعد مغامرة من مغامراتها، وجدت نفسها حاملا! حاملا من شخص مجهول الهوية!

شهقت ليلى بقوة و غطت فمها بكفها لتكتم صرخة كادت تنطلق من حلقها. حنان... شقيقتها التوأم... كانت حاملا قبل زواجها؟! في السابعة عشر من عمرها؟! أين مراقبة الأهل؟ أين مسؤوليتهم في رعايتها؟! يا للمأساة! يا للفضيحة!

أطرق فراس و هو يقول في ألم :
ـ للأسف، لم أكن في مستوى المسؤولية... لم أستطع أن أمنعها عن ذاك الطريق و هاهي تصل إلى نقطة اللارجعة! جاءت إلي ترجوني أن أساعدها لتقوم بعملية... الإجهاض! بما أنني في المرحلة النهائية من دراسة الطب، و لأنني على علم سابق بجزء من سرها، فكنت الشخص المناسب الذي يمكنها اللجوء إليه! في اليوم الموالي، رافقتها إلى المستشفى للقيام بالإجهاض، لكن الطبيب قال أن بنيتها ضعيفة جدا، و لا يمكن التخلص من الجنين دون تعريض حياتها إلى خطر محقق! رجعنا خاليي الوفاض، و حنان أخيرا بدأت تدرك فظاعة ما صنعته بنفسها... في تلك الليلة، لم أستطع النوم... ظللت أفكر طوال الليل في جميع الحلول الممكنة... فكرت في العار الذي سيلحق العائلة كلها إن افتضح الأمر... والدي لم يكن ليتحمل المزيد، بعد انتحار أماني... فكرت في أمين المتعلق بها إلى درجة غير معقولة... بإمكانها أن تقنعه بسهولة بالزواج و الهرب، أو أي شيء مجنون آخر، لحماية نفسها... و أمين لم يكن ليرفض! و فكرت في الصغير المسكين الذي لا ذنب له، كيف سيأتي إلى الحياة و هو مجهول النسب، فوالدته متعددة العلاقات! في تلك السن الصغيرة، تسمح لكل وحش بأن ينهش جسدها الغض ثم يرميها... و هي الخاسرة الوحيدة في نهاية المطاف!

شقت عبرات ليلى طريقها على خدها في صمت. نظرت إلى فراس في إكبار و إشفاق و ندم، ثم همست في ألم :
ـ لذلك قررت أن تتزوجها؟

هز رأسه و هو يستطرد :
ـ لم يكن أمامي الكثير من الحلول... كان ذاك هو الحل الذي يخرجنا من المشكلة بأخف الأضرار... ضمان مراقبة حنان، حفظ سمعة العائلة من الفضيحة، إبعاد حنان عن أمين، ضمان نسب للطفل القادم... حل مناسب على جميع المستويات!

همهمت الخالة مريم في حزن و هي تمسك بكف فراس و تحتضنها بين كفيها :
ـ يا بني... فكرت في كل شيء، كل شيء... لكنك لم تفكر في نفسك!

ابتسم في مرارة و هو يواصل :
ـ كنت أنوي أن يدوم زواجنا إلى حين ولادة الطفل، ثم أجد عذرا مناسبا للطلاق... لم أفكر جيدا في المرحلة الموالية، فقد كان كل همي هو الخروج من المأزق الحالي... لكنني لم أكن أعلم أن الأمور قد تتطور بتلك الطريقة، و تصل بها إلى تلك النهاية...

تكلمت ليلى بصعوبة و هي تقاوم دموعها :
ـ ثم... ما الذي حصل بعد ذلك؟

..................................................