الجزء الخامس و العشرون




أوقفت ليلى السيارة أمام المستشفى الخاصة و هي تتنهد من الانفعال. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل، و هي لم تتعود أبدا قيادة السيارة في مثل تلك الساعة المتأخرة... الظلام كان مخيما طوال الطريق الزراعية، ما عدا أعمدة إنارة قليلة و متباعدة، قبل أن تصل أخيرا على شوارع المدينة المضاءة بشكل جيد... لكنها كانت مقفرة تقريبا من السيارات... فتحت الباب الخلفي، و أفسحت المجال لفراس كي ينزل. كان يكتم أنينه بصعوبة طوال الرحلة، فالجرح العميق لم يتوقف عن النزيف... تركت الخالة مريم تساعده و سبقتهما إلى قسم الحالات المستعجلة... كانت القاعة فارغة، و لم يكن هناك أحد في الاستقبال... جرت في كل الاتجاهات و هي تهتف منادية على موظفي القسم. كانت متوترة و متعبة... و تخاف أن تزداد حال فراس خطورة إن تأخر الإسعاف... و أخيرا خرج ممرض من إحدى الغرف، تظهر آثار النعاس على وجهه، و هو يتثاقل في مشيه...

ـ أخي أرجوك... معنا جريح يحتاج إلى تدخل عاجل...

همهم الممرض و هو يحاول طرد النوم عن جفونه :
ـ حسنا، أدخلوه إلى قاعة الكشف ريثما أستدعي الطبيب...

ثم غاب ثانية في نهاية الممر... وصل فراس و الخالة مريم فقادتهما ليلى إلى قاعة الكشف المفتوحة... جلس فراس على طرف السرير و هو لا يزال يضغط على مكان جرحه بوهن. كان المنديل الذي يلف الجرح قد اصطبغ باللون الأحمر القاتم، بعد أن تشرب كمية كبيرة من الدماء. وقفت المربية إلى جانبه و هي تمسك بكفه في حنان، تشد أزره... أما ليلى فكانت تروح و تجيء، و في عينيها نظرة قلقة... لا تردي كيف يمكنها أن تستعجل الطبيب النائم!

أخيرا ظهر الطبيب من آخر الممر و هو يتقدم بخطوات سريعة و مئزره الأبيض يرفرف حوله... اعتذر عن التأخير و شرع في العمل على الفور. عاين الجرح بسرعة، ثم طلب من الممرض إحضار السرير النقال لأخذ المصاب إلى غرفة العمليات حتى يقوم بتدخل سريع... و في لحظات كانا ينطلقان به خارج الغرفة تحت أنظار المرافقتين القلقة...

وقفت ليلى في قاعة الانتظار و هي في غاية التوتر... لم تكن تتخيل أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد! أمين فقد عقله! يرفع السلاح في وجه أخيه و يطعنه بتلك الوحشية! انحصر تفكيرها في نقطة واحدة لم تعد ترى غيرها : يجب أن تبتعد عن هذا المكان... يجب أن تبتعد عن هذه العائلة... زواجها من فراس لا يمكن أن يتم! لن ينتج عنه سوى المزيد من الشقاق بين الإخوة و الألم للكثيرين... و هي أولهم! فراس وعد بمساعدتها... و سيفي بوعده. لا يجب أن يقفا مكتوفي الأيدي أمام قرار مصيري كهذا! تنهدت بصوت مسموع و هي تتذكر والدها. لم تمكث إلى جانبه كثيرا نهار البارحة. كانت متعبة، و هاهي الآن أشد تعبا!

وجدت نفسها تخرج من قاعة الانتظار و تجوب أروقة المستشفى على غير وجهة... تحاول تخفيف توترها في انتظار انتهاء عملية تقطيب جرح فراس... تخشى أن يكون الجرح قد أصاب العصب، أو مزق الأربطة العضلية... فكيف لطبيب أن يمارس مهنته بذراع مصابة! كما أنه فقد الكثير من الدماء... كانت تتوقع أن يفقد وعيه بين لحظة و أخرى، لكنه ظل صامدا إلى حين وصول الطبيب... قادتها قدماها إلى جناح الغرف الخاصة، إلى حيث والدها... كانت أقسام المستشفى موصولة ببعضها البعض، لذلك تمكنت من المرور دون أن يستوقفها العسس... كان الوقت متأخرا، و هو بالتأكد يغط في نوم عميق... لكنها تود أن تلقي نظرة سريعة، علها تحس بالأمان لوجودها إلى جانبه... تشتاق إليه أكثر من أي وقت مضى...

ما إن وصلت إلى الممر المقصود حتى لفت انتباهها باب الغرفة المفتوح... حثت الخطى في قلق و قد هاجمتها الهواجس... لا يمكنها أن تتحمل المزيد من المفاجآت المؤلمة. كانت الغرفة مضاءة و لكن سرير المريض كان خاليا! تلفتت حولها في شك... ربما يكون قد خرج إلى الحمام. لبثت تنتظر لعله يعود بين لحظة و أخرى... مرت الدقائق ثقيلة على قلبها و هو لا يظهر بعد. توجهت نحو غرفة الممرضات في نهاية الممر، و هي بالكاد تسيطر على نسق دقات قلبها، و تردد دعاء اللطف بوالدها بلسانها...

ـ من فضلك أختي... هل تعلمين أين ذهب المريض في الغرفة الثانية في هذا الممر؟

نظرت إليها الممرضة في دهشة، و لسان حالها يتساءل عن كيفية وصولها إلى هناك في مثل ذاك الوقت... لكنها قامت على إثرها إلى الغرفة... فكيف لمريض أن يختفي في مثل تلك الساعة المتأخرة... توجهت على الفور إلى اللوح المعلق إلى جانب السرير، و الذي يكتب فيه الطبيب المعالج ملاحظاته. قرأت ما فيه ثم نظرت إلى ليلى و قالت بعد تردد قصير :
ـ المريض في... العناية المركزة!

وقفت ليلى دون حراك و هي تحس بالضياع... لا يمكن أن تكون العناية المركزة بشير خير بأي حال من الأحوال! فرت الدموع إلى عينيها و إحساسها بالخطر يتزايد. أمسكت بذراع الممرضة في لهفة و هتفت بصوت فيه غصة :
ـ أرجوك خذيني إلى هناك...

هزت الممرضة رأسها في تعاطف و هي تقول :
ـ لن يسمحوا لك بالدخول... لا فائدة من الذهاب إلى هناك... عودي إلى منزلك و استريحي الآن...

تشبثت بها ليلى و قالت في صوت أقرب إلى البكاء :
ـ أرجوك، أريد أن أكون إلى جانبه...

كانت علامات الألم في ملامح وجهها الطفولي الباكية أقوى من أن تقاوم... رضخت الممرضة إلى طلبها و قادتها إلى قسم العناية المركزة... تبعتها ليلى بخطوات مضطربة و قد بلغ منها التشنج أقصى درجاته. كانت الغرفة مغلقة و لا سبيل إلى دخول أحد غير الممرضين و الأطباء. استندت على الباب في ضعف و سالت العبرات على وجنتيها... تحس بأنها تفقده... تفقد سندها الأخير في هذه الدنيا! إحساس فظيع... ضمت ذراعيها إلى جسدها و أخذتها الرعشة. ساعدتها الممرضة على الجلوس و قالت في ود قبل أن تختفي :
ـ سأستدعي الطبيب... ربما يمكنه إفادتك بحال مريضك...

بعد لحظات، عادت يرافقها الطبيب المعالج الذي رأته مرات عدة في غرفة والدها... ربما كان من حسن حظها أنه كان يناوب في تلك الليلة... وقفت من فورها و هبت إليه في لهفة :
ـ أرجوك أخبرني... هل هو بخير؟

كان الطبيب قد تعرف عليها بدوره. زم شفتيه و ظل صامتا للحظات... ثم ما لبث أن هز رأسه في أسف و هو يقول :
ـ الأزمة كانت حادة هذه المرة... عليك بالدعاء...

انهارت مجددا على المقعد أمام غرفة العناية، و أخذت تدعو الله بحرقة، تسأله أن يعيد والدها سليما معافى. مر أمام عينيها شريط ذكرياتها القديمة مع والدها... كان كل عائلتها و محور حياتها، تستمد منه قوتها... لكنه علمها أن تعتز بدينها و تؤمن بقدراتها... أن تثق بنفسها و تحافظ على حيائها و عفافها... أخذت تتذكر كلماته في مواقف كثيرة... تشجيعه و نقده... إرشاده ونصحه... فهل سيكون إلى جانبها مجددا بعد الآن؟ هل سيخرج من هذه الغرفة ليكون الوالد المحب لها و السند الذي يشعرها بالأمان؟ ضمت كفيها إلى صدرها و هي لا تتوقف عن الدعاء و التضرع... لم تدر كم مر عليها من الوقت و هي على تلك الحال... غائبة عن العالم الخارجي، غارقة في بحور ذكرياتها القريبة و البعيدة... كل لحظة حلوة مرت بها، شاركها إياها... و كل موقف صعب أرقها، كانت له يد في إخراجها منه... باختصار، لم تعش أبدا بدون أن تستشعر لمساته من حولها... إلا الأيام القليلة التي قضتها مع عائلة خالها... ربما كانت تلك بداية النهاية! نهاية الأيام الهانئة بقربه...

اقتربت منها الممرضة التي ظلت تروح و تجيء، تطمئن على حالها. رمقتها بعطف و هي تقول :
ـ لن يسمح لك برؤيته قبل الصباح... لا داعي للانتظار هنا، من الأفضل أن تستريحي...

رفعت إليها ليلى عينين مغرورقتين بالدموع، كأنها ترجوها أن تفعل شيئا من أجلها... قد تكون هذه ساعاته الأخيرة! لكن الممرضة هزت رأسها في صمت، علامة قلة الحيلة...

وقفت ليلى في تثاقل، و عادت أدراجها إلى قسم الحالات العاجلة... مرت أكثر من ساعة مذ تركت فراس و الخالة مريم هناك... يجب أن تطمئن على حال فراس أيضا... يا رب، إنها لليلة قاسية... ليتها تمر بأخف الأضرار... اللهم عافنا و اعف عنا! حين وصلت، لم تكن الخالة مريم في قاعة الانتظار و كان باب غرفة الكشف شبه مغلق... دفعته بهدوء و أطلت برأسها. كان فراس ممددا على السرير و قد بدا أنه لا يزال تحت تأثير المسكن... أما الخالة مريم، فقد كانت تجلس على أحد المقاعد و رأسها يميل على صدرها، و قد أخذتها سنة من النوم. ارتسمت على شفتيها شبه ابتسامة و هي تتأمل ملامحها المتعبة. اقتربت منها في هدوء و هزتها من كتفها في لطف. استفاقت المربية فزعة، و نظرت حولها في استغراب :
ـ بسم الله الرحمان الرحيم... أين أنا؟

ربتت ليلى على ذراعها مهدئة و هي تقول :
ـ نحن في المستشفى... فراس لا يزال نائما... لمَ لا تتمددين على السرير الشاغر هناك؟ خير لك من النوم على الكرسي... سأوقظك حين يستفيق فراس...

لم تعارض الخالة مريم و استلقت على السرير المجاور لتريح جسدها العجوز... جلست ليلى على المقعد، و أخرجت مصحفها الذي تحتفظ به في حقيبتها على الدوام، و جلست تقرأ في سرها... تحاول شغل نفسها بالتلاوة، علها تنسى أو تتناسى مصاب والدها و لو لبعض الوقت... لكنها لم تستطع السيطرة على دموعها، فأخذت تسيل على خديها في هدوء...

فتح فراس عينيه و هو يحس ببعض الدوار... عقد حاجبيه و هو ينظر حوله حاولا تذكر ما حصل. و ما لبثت الذكريات أن عادت إليه فتجلى العبوس على وجهه. حطت عيناه على عضده الملفوف بالضمادات البيضاء... لم يكن يحس بالألم، و من خبرته كطبيب أدرك أنه لا يزال تحت تأثير التخدير الموضعي... لم يكن قد تم تخديره بالكامل، لكن التخدير الموضعي القوي كان كافيا لبث الاسترخاء في جسده مما جعله يستسلم للنوم، كما أن كمية الدماء التي فقدها جعلت جسده يضعف... رفع رأسه بصعوبة، فوقع نظره على ليلى الجالسة غير بعيد عنه. ابتسم و هو يتذكر كل ما فعلته من أجله... دموعها و نظرات القلق في عينيها... رغم كل الألم الذي كان يعانيه إلا أن وجودها إلى جانبه كان يؤلمه أكثر... يؤلمه أنها بهذا القلب، و بهذا القرب... و لكن لا نصيب له فيها! آه يا ليلى، ماذا كنت ستفعلين لو حصل مكروه لمن تحبين؟ انتبه إلى العبرات في عينيها و على خدها... إنها تبكي مجددا. و هو لا يحتمل أن يراها تبكي... ليته يستطيع رسم الابتسامة على شفتيها للمرة الأخيرة، قبل أن يختفي من حياتها تماما...

ـ ليلى... أنت بخير؟

رفعت رأسها حين سمعت صوته، و ارتسمت ابتسامة ارتياح على شفتيها على الفور. أغلقت كتابها و اقتربت من السرير و هي تهمس :
ـ كيف تشعر الآن؟

تجاهل سؤالها و هو يقول في اهتمام :
ـ امسحي دموعك... لا داعي للبكاء...

أدهشته ردة فعلها العكسية، فقد قطبت جبينها و ارتعشت شفتاها منذرة بنوبة بكاء جديدة. أخفت وجهها بكفيها و هي تقاوم و لكن بلا فائدة. جاهد فراس ليستوي في جلسته و هو يهتف في قلق :
ـ ليلى ماذا هناك؟ هل حصل شيء لا أعلمه؟ هل أقدم أمين على عمل أحمق جديد؟

هزت ليلى رأسها نافية، فهتف مجددا و هو يحثها على الإفصاح :
ـ ماذا إذن؟ أخبريني أرجوك؟

انفجرت هذه المرة و هي تهتف بصوت مختنق من العبرات :
ـ إنه أبـ...ـي... إنه يــ....ـمـ...ــوت يا فراس... يموت...

تسارعت دقات فلبه بشكل مؤلم. فهو يعلم أكثر منها مدى خطورة حاله... يعلم حقا أن نجيب ليس بعيدا عن المرحلة الأخيرة، و الأعمار بيد الله أولا و أخيرا... فكيف يمكنه أن يخفف عنها؟ يحسها كطفلة صغيرة، تحتاج إلى الرعاية و الحنان... ربما يمكنه أن يقدم لها شيئا أخيرا، ربما يمكنه أن يهدئ من روعها و يشعرها ببعض الأمان و لو للحظات... فربما تكون اللحظات الأخيرة بينهما قبل أن ينفذ ما قرره...

همس بصوت دافئ حان :
ـ ليلى، اسمعيني جيدا... أنت فتاة مؤمنة... و تعلمين بأن لله حكمة في كل شيء... و القدر لا مفر منه... ربما كان قدرنا أن نفارق من نحب، لكن يجب أن نفهم أن الله يحرمنا ليبتلينا، هل نصبر أم نيأس... فكيف نقابل هذا الابتلاء؟ أجيبيني؟

تمتمت ليلى بصوت ضعيف :
ـ نصبر...

واصل و كأنه يكلم نفسه و يقنعها في نفس الوقت :
ـ نعم نصبر... و ندعو و نسأل الله السلوى...

هزت رأسها موافقة، فابتسم و هو يضيف :
ـ إذن أريني كيف تصبرين...

مسحت دموعها بكف مرتعشة، و هي بالكاد تسيطر على انفعالاتها، فواصل قائلا :
ـ و لا تنسي أنك لست وحدك... لديك عائلة تحتضنك و تقف إلى جانبك... و...

هم بأن يقول بأن هناك رجلا ينتظرها، و يمكنه أن يحميها في المستقبل و يعوضها فقيدها... لكنه لم يقدر... لا يزال جرحه طريا، و لا يتحمل المزيد من القسوة... أشاح بوجهه في استياء... من نفسه... يحاول إخفاء الدموع التي تداهمه... و لحسن حظه كانت ليلى منشغلة عنه بمصابها، سارحة في أفكارها... فلم تنتبه إلى التغير المفاجئ الذي انتابه... لكن الخالة مريم التي استيقظت على صوت حديثهما لمحته في لحظة الضعف تلك، فأطرقت في إشفاق على صغيرها الذي كتب عليه المزيد من الألم...


**********


وصلت إلى المستشفى و قد تجاوز الوقت الساعة السابعة بدقائق قليلة، بالكاد نامت ساعة واحدة بعد أن أوصلت فراس و الخالة مريم إلى القصر و عادت بسرعة لتطمئن على حال والدها. لولا إلحاح مرافقيها عليها لتنال قسطا من الراحة لما تركت المستشفى لحظة واحدة! عبرت الممر بخطى سريعة، و هي تكاد تسمع دقات قلبها العالية. توقفت حين رأت غرفة والدها مغلقة. بلعت ريقها بصعوبة و تقدمت في اضطراب واضح... طرقت على الباب بخفة ثم أدارت المقبض بكف مرتعش... أطلت لتلقي نظرة على الغرفة، و لم تكن تتوقع أن تجد أحدا... لكن و لدهشتها، كان والدها نائما على السرير في هدوء! دخلت بسرعة و اقتربت منه، أخذت تهزه برفق، كأنها تريد التأكد من كونه على قيد الحياة

ـ أبي، أبي... أنا ليلى, هل تسمعني؟

فتح نجيب عينيه و نظر إليها في استغراب :
ـ ليلى؟ كم الساعة الآن؟

كان يبدو على ملامحه التعب، ظهرت على وجهه علامات الهرم في الأيام القليلة الماضية... نظرت إليه في شوق و حب و هي تقول :
ـ إنها السابعة... لكنني اشتقت إليك كثيرا، فأتيت مبكرة اليوم...

لم ترد أن تخبره أنها تعلم بشأن الأزمة التي هاجمته في الليلة الماضية, ربما يريحه ذلك أكثر...حمدت الله في سرها كثيرا، لأنه استجاب إلى دعائها فتجاوز والدها مرحلة الخطر بسلام... حاولت أن تكون مبتسمة طوال الوقت و أن تبتعد عن موضوع المرض قدر الإمكان... و هو أيضا، لم يشأ أن يعلمها، حتى لا يعكر صفو اللحظات التي تجمعهما... فربما تكون الأخيرة... لكنها كانت تلمح في عينيه نظرة رجاء، كأنه يذكرها بالعرض الذي لم تعط قرارها بشأنه بعد... لم تكن مستعدة بعد للكلام. تنتظر أن يتعافى فراس أكثر و يتحدث إلى والده. لا يمكن أن ينسى... هو وعدها بالمساعدة!

كانت متعبة جدا ذاك الصباح، فهي لم يغمض لها جفن إلا لساعة واحدة أو أقل. و الأحداث الأخيرة المضطربة لا تزال تؤثر على تركيزها. ذهبت إلى المزرعة بحثا عن الراحة، فلحقتها المتاعب إلى هناك... لكنها كتمت كل ذلك عن والدها و حاولت التصرف بصفة طبيعية. عند الساعة العاشرة، دخلت الممرضة إلى الغرفة مبتسمة و هي تحمل سلة طعام و باقة ورود كبيرة. تسلمتها منها ليلى في استغراب... أخبرتها الممرضة أن سائق عائلة القاسمي هو من أحضر السلة، فهي لم تملك الوقت الكافي لإعداد الطعام مع عم هاشم مثل كل صباح... لكن شخصا آخر قام بذلك عنها. ابتسمت في امتنان و هي تقرأ قصاصة الورق المصاحبة : "الطعام صحي مائة بالمائة، معد تحت إشراف متخصص... ليلى أيتها العنيدة، فكري بأخذ قسط أوفر من الراحة"... فراس كلف نفسه بالمهمة رغم إصابته الحديثة و إرهاقه... يا له من رجل حقا! انتقلت إلى الباقة ذات الورود الخلابة... تناولت بطاقة الإهداء و ما إن قرأت ما كتب عليها حتى اختلجت أصابعها و تسارعت دقات قلبها... "مع خالص تمنياتي بالشفاء العاجل... عمر"!

استند نجيب إلى مرفقيه و استوى في جلسته و هو يقول :
ـ ممن الهدايا؟

تركت ما بين يديها و هي تغالب المشاعر التي راودتها في تلك اللحظة. اقتربت منه مبتسمة و قالت :
ـ حين خرجت صباحا كنت مسرعة فلم أجهز سلة الطعام كالعادة... لكن فراس اهتم بذلك و أرسلها مع السائق...

اتسعت ابتسامة نجيب في رضا و قد سره اهتمام فراس فأضاف :
ـ و الباقة... هل هي منه أيضا؟

بدا الارتباك على ليلى و هي تقول في تلعثم :
ـ الباقة؟ لا... إنها... إنها من الدكتور عمر... أستاذي في جامعة باريس...

مدت إليه البطاقة التي ظلت تحتضنها بين كفيها. هز نجيب رأسه و هو يعقد حاجبيه متفكرا. لم يكن الاسم غريبا عنه... كانت ليلى قد حدثته عنه مرات و مرات... عن تصرفاته و مواقفه و علاقته المتميزة مع طلبته و مكانته لديهم رغم صغر سنه. نظر إليها في شك و هو يسألها :
ـ جزاه الله خيرا... لكن كيف علم الدكتور بمرضي بهذه السرعة؟ و هل يرسل الورود إلى كل من يمرض من عائلات طلبته؟

تزايد ارتباك ليلى و تجلى الاحمرار في وجنتيها بشكل يدعو إلى الريبة. لكنها أجابت محاولة التهرب :
ـ الدكتور عمر هنا في المدينة لحضور بعض المؤتمرات العلمية... و قد علم عن مرضك عن طريقك سحر... فاتصل ليطمئن...

لم يبد الاقتناع على نجيب الذي هز رأسه و هو يشجعها على المزيد من التوضيح. أحست ليلى بأنها واقعة في مأزق و لم يعد هناك فرصة للتراجع... بل ربما كانت تلك الفرصة المناسبة التي جاءتها دون تخطيط منها حتى تصارحه بشأن عمر... أخذت نفسا عميقا ثم قالت بهدوء :
ـ أبي... هناك أمر ما كنت أود إخبارك عنه منذ زمن... قبل سفري إلى هنا... الدكتور عمر اتصل بي و طلب تحديد موعد معك... لأنه... لأنه يريد أن يتقدم لخطبتي...

سكتت ليلى ريثما يستوعب والدها ما قيل. أما نجيب فقد نظر إليها في دهشة و هو يهتف :
ـ لماذا لم تخبريني منذ البداية؟

أجابت على الفور :
ـ لأن الوقت لم يكن مناسبا لمثل هذه المواضيع... ففي اليوم نفسه فاجأتني بقرار السفر و كل ما تبعه من أحداث غريبة... ثم حين رجعت، لم تترك لي المجال و فاجأتني مجددا بمسألة الارتباط من فراس...

سكت نجيب بدوره للحظات، ثم رفع رأسه إليها ثم نظر إلى الباقة و قال :
ـ لم تخبريه بعد عن ارتباطك بابن خالك؟

أطرقت في حيرة و اضطراب... لا يمكنها أن تصده بهذه البساطة، فهي لم تعط رأيها النهائي بعد! تابع نجيب و هو يقول بصوت واهن :
ـ ليلى... أنا اتفقت مع خالك بشأن الزواج... حتى أننا عقدنا شراكة في الأموال أيضا، لأنني لن أجد أفضل من خالك ليهتم بالحفاظ على مالك، و لا من فراس ليحفظك و يصونك...

هزت رأسها في تفهم... مع أنها لم تعد متأكدة من كون خالها الشخص المناسب بعد ما أخبرته به رجاء!

تنهد و هو يرفع رأسها بكفه لينظر إلى عينيها و قال :
ـ هلا أرحت قلب والدك يا حبيبتي و كفيته عناء التفكير في مستقبلك!

جمعت أطراف شجاعتها بصعوبة، فليس من عادتها أن تعارض والدها، لكنها فرصتها الأخيرة ربما :
ـ و لكن أبي... عمر تقدم إلي أولا، قبل أن أتعرف على فراس أصلا... و لولا ظروف السفر الغريبة لكان فاتحك في الموضوع منذ زمن... و قد جاء إلى هنا خصيصا ليتحدث إليك... أرجوك، أعطه فرصة...

تأمل نجيب مطولا ملامحها التي اتضحت فيها علامات الرجاء... لم يعد لديه شك... سألها في هدوء :
ـ أنت معجبة به؟

أطرقت ليلى في حياء و قد تصاعدت الدماء إلى وجهها و ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة. تنهد والدها من جديد و ربت على كفها في حنان و هو يقول :
ـ هل ترينه الشخص المناسب لك؟

لم تتكلم، لكنها بعد تردد قصير هزت رأسها ببطء علامة الإيجاب، و أصابعها تلهو بطرف وشاحها في توتر. عقد نجيب حاجبيه و بدا عليه التفكير. رفعه عينيه إليها أخيرا و قال :
ـ هل هو جاد في طلبه؟

هزت رأسها مجددا و هي ترمقه في ترقب ثم أضافت :
ـ إن وافقت على لقائه فسيكون عندك صباح الغد...

ابتسم أخيرا و هو يقول مداعبا :
ـ غدا صباحا! يبدو أنه مستعجل جدا... حسن إذن، فلننظر في أمر هذا الـ "عمر"!

ارتمت ليلى في حضنه و ضمته بقوة و هي تقول في حماس :
ـ سأخبره بموافقتك على الفور... لقد كان هنا البارحة أيضا و رغب في لقائك... لكن الوقت لم يكن مناسبا...

لكنها تذكرت شيئا آخر غاب عن ذهنها، فابتعدت عن حضنه قليلا و قالت في قلق :
ـ و ماذا ستفعل مع خالي؟

مسح على رأسها في حنو و قال مطمئنا :
ـ اتركي الأمر علي... سأتحدث إليه...

ابتسمت ابتسامة هادئة، لكن عقلها لم يهدأ أبدا... ما الذي تخبئه لها الأيام القادمة؟