السابع و العشرون





أشرقت شمس يوم جديد على قصر آل القاسمي. تسللت أشعتها الدافئة لتداعب الجفون و الأجساد التي أنهكها السهر، لكنها لم تتجاوز حواجز الحزن التي غلفت القلوب و خلفت فيها آثار الصقيع...

لم تنم ليلى. فبعد زيارتها الأخيرة لوالدها في المستشفى و رؤيتها لجثته الباردة المسجاة بدون حراك، أدركت أن مرحلة جديدة من حياتها على وشك البدء. مرحلة البحث عن الاستقرار... و الأمان. كانت تثق بأن الله لن يهملها، بعد أن توكلت عليه بكل جوارحها... و عليها الآن أن تنظر في قراراتها المستقبلية و شؤون حياتها الخاصة بحكمة و صبر و تأن... لن تدع الحزن يعصف بها و يشغلها عن واجباتها... نعم واجباتها تجاه والدها، و تجاه نفسها... ألم تعده بأن تكون قوية و مسؤولة؟ و قد آن أوان البرهان...

لم ينم نبيل. مشاغل كثيرة تنتظره. يجب أن يعد لصهره و صديقه القديم جنازة مناسبة، تليق بمقام العائلة الرفيع و تترك أثرا في نفوس الناس... و خاصة في نفس ليلى. يجب أن يكسب ودها و رضاها، حتى تحس أنها محاطة بعائلة تحبها و تحميها. يجب أن يؤكد لها انتماءها إليهم... الآن، و فيما بعد! وفاة والدها ستؤخر زواجها من فراس، لكنها ستعمق في نفسها حاجتها إلى العائلة، و هو سيحرص على إعطائها ما تحتاجه. إنه أقل ما يمكنه فعله تجاه ابنة أخته اليتيمة... تذكر حنان... كان زواجها من فراس خطأ فادحا... كل شيء سار بشكل خاطئ... لكنه متأكد من سلامة الطريق هذه المرة...

لم ينم أمين أيضا... كان قد عاد إلى القصر في المساء، بعد أن عولجت جراحه و جبرت كسوره... لكن إحساسا بالذنب لم يفارقه. مكالمة فراس كانت حبل النجاة الذي أنقذه في الوقت المناسب. أنقذه من نفسه و من الضياع الذي كان على مشارفه... أعاد إليه إحساسه بالانتماء إلى عائلة و جعله يعيد حساباته بخصوص علاقته مع أخيه، شقيقه الذي لا يكبره إلا بثلاث سنوات. رغم سوء علاقتهما و تراكم الخلافات بينهما، فراس قلق بشأنه... فكر فيه و لم يتردد في الاتصال للاطمئنان. كم مضى من الوقت لم يحس فيه بالاهتمام من أحد؟ لكن حين وجد نفسه في مأزق، جاءه الاهتمام من حيث لا يحتسب... ياسين اكتفى بتعنيفه على تهوره. لكنه أحس باهتمامه هو الآخر... لولا ذاك الاهتمام لما ترك أعماله و خرج للبحث عنه. ربما كان مخطئا في تقديره لمشاعر إخوته تجاهه. و ربما كانت الفرصة مناسبة لإضفاء بعض الدفء على العلاقات... لكن ما يحزنه، هو والده! حين فتح عينيه لم يجده أمامه في المستشفى، كما تعود أن يرى في الأفلام و المسلسلات! و حين عاد إلى القصر، لم يكن موجودا... ربما لم يلاحظ غيابه أصلا... مسؤولياته الكثيرة تأخذ الكثير من وقته... بل كل وقته! تناول عشاءه وحيدا في غرفته، فهو لم يكن قادرا على الحركة... علم من العم صابر بمأساة والد ليلى، لكنه لم يجد في نفسه الشجاعة لمواساتها. لا يزال خجلا من تصرفاته الصبيانية المتهورة في الليلة الماضية... ربما عليه أن ينزوي عنهم جميعا لبعض الوقت، ريثما يستعيد قدرته على المواجهة...

فراس لم ينم هو الآخر... لكن مشاعره كانت مختلفة... يعيش حالة من التمزق، بين حزنه على ليلى و خوفه من التصرفات والده المرتقبة... و بين خوفه عليها من مشاعرها و اندفاعها نحو مستقبل مجهول... في لحظات، تغيرت نظرته إلى الأمور. البارحة، حين علم بتعلقها بشخص آخر، عاهد نفسه على مساعدتها برفض الزواج المفروض من والديهما. حين قرر ذلك، كان والدها لا يزال على قيد الحياة. كان لديها مصدر حماية، ينظر في المتقدم إليها بعين الحكمة و لا يدعها تتسرع في قرارها... تلجأ إليه إن حصلت خلافات بينها و بين زوجها في المستقبل و تجد في حضنه المواساة و الأمان... لكن الآن، كل شيء تغير! أصبحت الأمور أكثر تعقيدا... لم يعد واثقا من أن زواجها من ذاك الشخص المجهول هو القرار المناسب! لا يعلم عنه سوى أن مشاعرها متعلقة به. لكن قرارها هذا يعني سفرها إلى بلاد غريبة. حيث لا عائلة لها و لا سند... حيث لا يمكنها أن تشكو إلى أحد و لا تجد من يقف إلى جانبها إن دارت عليها الدوائر... لكن... إن بقيت هنا... معه هو، ستكون في أمان... سيحميها من الجميع، و من نفسها... هل تعتقد ذلك حقا يا فراس؟ لم يكن واثقا... لا أحد يعلم ما الذي تخفيه الأيام القادمة... لكن مشاعره لم ترض بالبقاء حبيسة صدره، و هاهي تعلن الثورة و تطالب بحقها في الوجود...

خرج من غرفته بعد أن أراح جسده لسويعات قليلة بعد أذان الفجر. إنه يوم جديد... و بداية مرحلة جديدة في حياته... و حياتها. أمامه بعض الوقت حتى تنقضي أيام العزاء، ليرتب أفكاره و يحدد مساره. حيى العم صابر الذي اعترضه في الممر. رآه يتوقف عند باب ليلى. هم بالعودة ليطمئن على حالها، لكن حين رأى الباب يفتح حث خطواته بسرعة في اتجاه السلم... لا يريد أن يرى الحزن في عينيها، و هو لا يملك أن يفعل شيئا من أجلها... لذلك فضل الهروب! كان في اتجاهه نحو الشرفة حين سمع صوتا حازما يناديه :
ـ فراس...

التفت ليجد والده يقف عند باب المكتب و يطالعه بنظرات صارمة :
ـ هلا تبعتني إلى المكتب؟ أحتاجك قليلا...

تنهد و هو يعود أدراجه في اتجاه المكتب. لا تزال آثار المشادة الكلامية الأخيرة بينهما تحز في نفسه. و هو يعلم يقينا بأن الموضوع سيتكرر، و الحوار المتعب نفسه سيثقل كاهله أكثر من ذي قبل... لأن صراعا جديدا نشأ في نفسه، و يخاف أن تهتز ثقته و يطيع مشاعره التي توافق رغبات والده...

وقف نبيل وراء المكتب و على وجهه علامات الاهتمام و الجدية. بعد صمت قصير قال :
ـ فراس... لا أريد أن أعيد عليك الكلام الذي قلته سابقا، لكن المسألة أصبحت أكثر دقة و خطورة... لذا سأكون أكثر وضوحا و شفافية...

لم يعلق فراس الذي وقف واضعا كفه الطليقة في جيب سرواله متظاهرا باللامبالاة. تنهد نبيل و هو يواصل :
ـ ربما يجب أن أعلمك بكل ما يحصل... ثم يمكنك أن تتخذ قرارك بعد التفكير فيما سأقوله... ليلى الآن شابة ثرية... و من المؤكد أن الأطماع ستكثر حولها و يتقدم لخطبتها الكثيرون ممن يضعون أعينهم على ثروة والدها... و قد تفكر بالعودة إلى فرنسا... لكن أنا و المرحوم نجيب... كان بيننا عقد شراكة. و بوفاته، أصبحت ليلى شريكتي في نصف المعمل الجديد. العقود وقعت منذ فترة قصيرة، و العمل قد بدأ للتو. نجيب يمتلك السيولة الكافية للتجهيز، و أنا أمتلك الخبرة و البناية و اليد العاملة... و إن تزوجت ليلى من شخص غريب فقد يقنعها بفض الشراكة التي بيننا حتى يستثمر الأموال بعيدا عنا... أو ليسلبها إياها بدون أي وازع أو رقيب... فكر جيدا في الأمر...

نظر إليه فراس في حيرة. عادت إليه كلمات ليلى عما أخبرتها به رجاء. حسابات الشركة بعد زواجه من حنان. الوصاية. الأزمة المالية... و هاهو نبيل القاسمي أمامه، يؤكد أهمية المال في هذا الزواج... هل هو اعتراف ضمني بما ينسب إليه من اتهامات؟ هل هو حرص حقيقي على ثروة ليلى... أم طمع و استغلال؟

سكت نبيل قليلا، ثم واصل بصوت أكثر لينا :
ـ ليلى الآن أمانة في رقبتي... أنا مسؤول عنها بعد والدها و لا يمكن أن أترك للغرباء فرصة العبث بها... ليلى يجب أن تبقى بيننا و تستقر معنا... حتى نحميها و نحمي أموالها... أليس كذلك؟ فهل ستتخلى عن ابنة عمتك و هي في هذه الظروف الصعبة؟

رفع فراس عينيه إلى والده في دهشة متزايدة... كأنه يذكره بما فعله مع حنان، و بتضحيته في ذاك الوقت! حينها لم يضغط عليه أحد. اختار طريقه بنفسه... مع أنه كان معاكسا لرغباته و مشاعره و طموحاته... أما الآن...

استطرد نبيل بصوت حان و هو يرى علامات التأثر على وجه ابنه :
ـ صدقني، ليلى مختلفة جدا عن حنان... فتاة يتمناها كل شاب. و يتمناها كل والد لابنه... أنت ظلمت نفسك بزواجك من أختها. لكن تأكد من أنك تتخذ القرار الصحيح هذه المرة...

واجهه فراس بنظرات جامدة، تخفي ما في صدره من انفعالات عنيفة، و قال في تحد :
ـ إلى أي مدى يمكنك المضي من أجل الحفاظ على مصلحة الشركة؟

عقد نبيل حاجبيه و هو يطالع فراس في شك و ريبة :
ـ ما الذي تقصده؟

نظر إليه فراس في قوة و قال :
ـ أليس الغرض الرئيسي من هذا الزواج مصلحة الشركة؟ و في السابق، ألم توافق على زواجي من حنان من أجل مصلحة الشركة؟ إن كنت مقتنعا بأنها لا تناسبني لماذا لم تنصحني؟ لماذا لم تمنعني؟ أم لأن مصلحة الشركة تقتضي ذلك؟!

تجهم وجه نبيل و هو يقول مدافعا :
ـ زواجك من حنان كان خطأ، خطأ فادحا... و جميعنا نتحمل مسؤوليته، و قد فعلنا بما فيه الكفاية... لكن زواجك من ليلى سيكون في مصلحة الجميع... مصلحة ليلى، و مصلحتك... و مصلحة العائلة...

هز فراس رأسه في عدم اقتناع و قال :
ـ أنا آسف يا والدي... أعلم أن طاعتك علي واجبة... لكن ليس في أمر كهذا... لا يمكنني أن أوافقك على إجبارها على هذا الزواج... دعها تختار بنفسها، و لا تتدخل في قرارها... إنها عاقلة راشدة، و تعرف حقوقها جيدا... ليست في حاجة إلى وصاية من أحد...

و أضاف و هو يشيح بوجهه :
ـ يجب أن تعلم ليلى بكل شيء... و أن لا تجبرها على أي شيء... و إلا... فأنا سأظل رافضا!

قال ذلك و اندفع في اتجاه الباب... كانت دموع قهر قد تجمعت في مقلتيه... صورة والده التي اهتزت في عينيه اليوم. هل أعمى بصيرته الطمع؟ لطالما كان بالنسبة إليه الأب الحاني و إن أخذته المشاغل بعيدا عن أولاده. لم يشك يوما في مشاعره تجاههم. لكنه الآن لم يعد يفهم... بل لا يريد أن يستسلم للأفكار الجديدة التي بدأت تتسلل إلى قلبه و عقله... فليترك له فرصة أخيرة ليثبت العكس...

فتح الباب بقوة، ففوجئ بها تقف خلفه. نظر إليها في دهشة. كانت علامات الإرهاق بادية على وجهها... سهاد و حزن و تعب...

ـ أنت بخير؟

نظرت ليلى إلى وجهه المكفهر لبرهة ثم هزت رأسها ببطء و هي تقول في ارتباك :
ـ هل خالي بمفرده في المكتب؟ طلب مجيئي منذ قليل...

أفسح لها المجال لتمر إلى الداخل و تغلق الباب خلفها. وقف في مكانه و علامات التوتر تكسو ملامحه... منذ متى تقف أمام الباب؟ هل سمعت جزءا من حوارهما؟ كان صوت صراخه عاليا... لم يتحكم جيدا في أعصابه. تنهد في ألم... لم يعد ذلك مهما الآن، فمن المؤكد أن والده قد استدعاها إلى المكتب ليتحدث إليها في الموضوع! ألا يمكن أن ينتظر بعض الوقت؟ الرجل لم يوارى الثرى البعد! تنهد مجددا و هو يهز رأسه في أسف... ربما يكون مخطئا... ربما ليس والده بذاك السوء... مهما بلغ به الحرص على مصلحة الشركة فلن يتحدث إلي ليلى الآن... يا رب... لا يزال هناك بصيص أمل ... و إن كان ضئيلا...

توجه إلى الشرفة بخطى متثاقلة. جلس على الأرجوحة، مكانها المفضل. أغمض عينيه و ترك جسده يتهادى مع نسق الأرجوحة البطيء... متعب... متعب جدا من كل ما يحصل معه و حوله في هذه الفترة... كانت حياته هادئة، و إن لم تكن سعيدة... لكنها كانت رتيبة و مستقرة. من أين له بالاستقرار الآن؟

فتح عينيه فجأة، لم يدر كم مر عليه من الوقت هناك... ربما كان قد غفا! كان ما أيقظه رنين هاتف قريب... تلفت حوله باحثا عن مصدره. لم يكن هاتفه... كان الصوت قادما من تحت الأرجوحة. انحنى ليلتقط مصدر الإزعاج... أمسكه بين يديه في دهشة، إنه هاتفها! لم يكن ليخطئ لونه الوردي الأنثوي! و بسرعة عاد إلى ذاكرته مشهد وقوفها في ممر المستشفى، و هي تحتضن الهاتف في شاعرية. اعتصر الألم قلبه... و سرح للحظات مع أحلامه الموءودة في المهد... لكنه سرعان ما انتبه إلى أن الهاتف لا يزال يرن في يده. وقف و خطا إلى الداخل في اتجاه البهو، ليعيد إليها هاتفها. توقف فجأة... هل تراها انتهت من لقاء المكتب؟ كان الباب مغلقا. ربما كانت في الداخل... و ربما عادت إلى غرفتها. الهاتف لا يزال يرن، لكنه قد يتوقف في أية لحظة... شيء ما جعله يعود أدراجه. راوده إحساس بأنه يعرف من المتصل رغم أن الرقم لم يكن مسجلا على الهاتف. ربما كانت فرصته... فرصته ليتعرف على حبيبها و يختبر كفاءته! نعم، لا يمكنه أن يوافقها على قرارها بسهولة قبل أن يتأكد من أن الآخر يستحقها! هكذا فكر... و دون تردد، ضغط على زر الرد و قال بصوت واثق :
ـ مرحبا...

أحس بارتباك مخاطبه الذي قال بصوت مضطرب :
ـ السلام عليكم...

ـ و عليكم السلام و رحمة الله...

يحاول تحليل نبرات صوته و أسلوبه... لا شك أنه هو... غريمه!

ـ أليس هذا هاتف الآنسة ليلى كامل؟

ـ نعم هذا صحيح... لكن ليلى لا يمكنها الرد في الوقت الحالي. هل من رسالة تريد أن أوصلها إليها؟

يحس بتفوقه مع كل كلمة. إنها ابنة عمته هو، و تقيم في مكان واحد معه هو، و هاتفها بين يديه هو! أما أنت أيها الغريب، فمن تكون و ما مدى علاقتك بها؟ اختنقت ثقته فجأة و هو يصل بتفكيره إلى نقطة الضعف... ربما تفوقت عليه في كل هذا... لكنه هو ملك قلبها! و أنت خسرته!

عاد إلى مخاطبه و هو يحس ببعض المرارة... سمعه و هو يقول في توتر :
ـ في الحقيقة، كنت على موعد معها... أقصد مع والدها، اليوم... لكنه لم يكن في الموعد... أرجو أن يكون المانع خيرا...

قال فراس بأسى واضح، على حالها... و حاله :
ـ عمي نجيب توفي مساء البارحة... البقاء لله...

ظهرت علامات الدهشة في صوت المتكلم و هو يقول في صدمة جلية :
ـ السيد نجيب كامل؟ لا إله إلا الله... إنا لله و إنا إليه راجعون...

بادره فراس و هو يقول :
ـ ستقام الجنازة اليوم بعد العصر... يمكنك المجيء إن أردت...

ـ نعم طبعا...

أملى عليه فراس العنوان، ثم قال على الفور :
ـ إن وجدت صعوبة في إيجاد المكان أستاذ...

ـ عمر!

ـ تشرفنا أستاذ عمر... إن وجدت صعوبة في الوصول، يمكنك الاتصال بي على هاتفي الخاص، سأكون في استقبالك...

ـ عذرا، لكن من المتكلم؟

أجاب بثقة :
ـ فراس القاسمي... ابن خالها...

أخذ عمر منه الرقم شاكرا، ثم أنهى المكالمة. تنهد فراس و هو يجلس على الأرجوحة من جديد. ربما لم يكن من حقه أن يرد على مكالماتها الخاصة، لكنه مسؤول عنها الآن... و هو من اختار هذه المسؤولية! و مسؤوليته تفرض عليه أن يتأكد من كون الرجل الذي اختارته مناسبا لها... تنهد مجددا و هو يتأمل الهاتف في كفه. أصبحت التنهيدات تتردد في صدره أكثر من الأنفاس هذه الأيام... يخاف أن تكون مشاعره هي التي تقوده في تلك الطريق... لكنه لم يعد قادرا على التراجع...

أيقظه صوت منال من أفكاره، و هي تهتف :
ـ و الآن؟

رفع رأسه ليجدها تقف أمامه عاقدة ذراعيها أمام صدرها، فقال في استغراب :
ـ ماذا الآن؟

قالت و هو تضيق عينيها كمن يحاول سبر أغوار نفسه :
ـ لا تحاول أن تقنعني بأنك لم تكن تفكر في صاحبة الهاتف! و الآن، ماذا ستفعل؟

نظر إليها في حيرة و قال :
ـ ماذا سأفعل بشأن ماذا؟

هتفت في حزم :
ـ بشأن الزواج طبعا! ليلى أخبرتني أنكما اتفقتما على الرفض... لكنه ما أراه يوحي إلي بأشياء أخرى!

امتقع وجهه و هو يردد في ارتباك :
ـ أشياء أخرى؟

ـ إلى متى ستظل تردد كلماتي؟ نعم أشياء أخرى! و ما وجهك الملون هذا إلا دليل واضح عليها!

خفضت صوتها لتقول بعطف أكبر :
ـ هل ستظل تخفي مشاعرك عنها طويلا؟ إنها في حاجة إليك الآن... و أنت أيضا في حاجة إليها!

أطرق و لم يعلق. لم تكن تنقصه سوى تحليلات منال حتى يفقد ذرات المقاومة القليلة المتبقية! تابعت منال في حماس :
ـ لا يجب أن تقف متفرجا! تقرب منها حتى تحس بك!

أشاح بوجهه في ألم و قال :
ـ أنت لا تعلمين شيئا يا منال... الأمر ليس بتلك البساطة...

أجابت في عناد :
ـ ما أعلمه هو أنكما مناسبان لبعضكما البعض... جدا... و هناك مشاعر من الطرف الأول... و ليس من الصعب أن تتولد مشاعر من الطرف الثاني، طالما كان هناك قبول، و محاولات من الطرف الأول...

ابتسم في سخرية و هو يقول :
ـ و ماذا لو كان الطرف الثاني غير مستعد لتقبل تلك المحاولات؟

ـ نتسلل إلى قلبه رويدا رويدا!

رفع رأسه و هو يقول في استسلام :
ـ لا يا منال... لا يمكنني أن أفرض نفسي عليها... لا أريد أن أشكل ضغطا إضافيا...

لم تجبه منال و لكنها هتفت فجأة و هي تنظر باتجاه المدخل :
ـ ليلى... كيف حالك يا حبيبتي؟

تسارعت دقات قلب فراس و هو يراها تقترب. هل سمعت شيئا؟ ما الذي دهاه حتى يساير منال في كلامها! بهذه الطريقة سيورط نفسه عاجلا أم آجلا! لم تكن ملامحها أقل إجهادا مما كانت عليه حين رآها أمام المكتب... أي حديث تراه كان بينها و بين والده منذ قليل؟
توجهت منال نحوها و احتضنتها في ود. في حين بقي فراس ساكنا، و التوتر يحرق أعصابه التالفة. ابتسمت ليلى ابتسامة شاحبة تعبيرا عن امتنانها، ثم نظرت إلى فراس و هي تقول في صوت هادئ :
ـ كنت أبحث عن هاتفي... يبدو أنني نسيته هنا ليلة البارحة...

نظر فراس إلى حيث تشير، فانتبه إلى أنه كان لا يزال يلهو بهاتفها بين أصابعه... مده إليها في ارتباك و هو يقول :
ـ وجدته تحت الأرجوحة... كنت سأعيده إليك...

ابتسمت و هي تأخذه شاكرة... ثم انصرفت دون أن تضيف كلمة واحدة. تابعها بنظراته في صمت حتى اختفت في الداخل. ربما كان عليه أن يخبرها عن الاتصال. لكنه لم يفعل! نظرت إليه منال في عتاب، و قالت :
ـ ألم يكن بوسعك أن تكون أكثر حرارة؟ البنت فقدت والدها البارحة! حاول أن تشعرها بوجودك إلى جانبها بأية طريقة!!

هز كتفيه في استهانة، و استرخى على الأرجوحة... بعد ساعات قليلة سيتوافد المعزون على القصر و سيمتلئ المكان بالخلق، ممن عرف المرحوم و من لم يعرفه... أغمض عينيه مجددا و سرح بعيدا... يفكر في لقائه المنتظر... بعد العصر...