السر الكامن "قصة خيالية"
[frame="2 50"]
السرُّ الكامن
كان يا ما كان ، في قديم الزمان ، وفي سالف العصر والأوان، كان هناك شاب يدعى نمرود ، يسكن مع أهله في بلدة الثمار ، كان شاباً يافعا ذكياً يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً ، وكان باراً بوالديه ، اللذان شارفا على عمر اليأس والإرهاق ، وهذا يعني أنه سوف يتحمل أعباء المنزل كاملة على ظهره ... دعونا نتابع القصة ، كي نعرف ماذا جرى ؟؟!
في تلك الليلة الظلماء ، بعد أن عاد نمرود إلى المنزل ، ناداه والده : نمرود .. نمرود يا بني تعال إلى هنا ..
فذهب النمرود مسرعاً إلى والده وقال : نعم يا أبتي ..
فقال له الوالد : اجلس يا بني .. لدي حديث مهم أود لو أخبرك به ..
فجلس الابن ، ثم أردف الوالد قائلاً : اسمع يا بني .. لقد أصبحت شاباً قوياً ، تستطيع أن تحمل مالا أستطيع حمله الآن، أليس كذلك ؟؟
فهز الابن رأسه أن بلى ..
ثم تابع الوالد حديثه قائلاً : وأنا الآن قد شارفت من سن الموت كما ترى ، لذلك فإنه ينبغي عليك براً بي وبوالدتك أن تقوم بكافة أعمالنا .. أفهمت يا بني ؟
أجاب الابن : نعم يا أبتي ..
قال الوالد : هيا اخلد إلى النوم فغداً أمامك عملٌ شاق وطويل..
وفي الصباح استيقظ نمرود مبكراً قبل أن يأمره والده بذلك ، وأخذ يقطع الحطب ، واحداً تلو الآخر ، وعندما انتهى من تقطيعه اتجه إلى المطبخ ليقوم بإعداد طعام الإفطار لوالديه ، ولكنه ما إن دخله حتى بقي واقفاً متحيراً ، ماذا يصنع وكيف ؟!!
فدخلت والدته والابتسامة بادية في محياها وقالت : لا عليك يا بني ، أنا سأطهو الطعام ولكن ما عليك إلا إحضار المكونات التي سوف أطلبها منك كل يوم .. عُلم ؟
قال الابن : علم ..
قالت الأم : إذا اذهب وأحضر لي ما كُتِبَ على الورقة هناك ، أريدها كاملة ..
فأخذ الورقة وانطلق إلى السوق وهو يتصفح ما هو مكتوب : 6 رغيف خبز .
1\2 كيلو دقيق .
5 بيضات .
3 تفاحات .
1\2 كيلو لحم .
جبن أصفر .
1 كيلو طماطم .. 1\2 كيلو خيار .. 4 بصلات .....
توقف الابن وقال : ولكن المال الذي معي لا يكفي ولا لربع هذا.. سوف أعود لأخبرها بذلك ، علّها تخفف من الطلبات ..
ثم عاد وطرق الباب ، قالت الأم : من ؟ نمرود ! ياه يبدو أن الشباب يفعل العجائب ، لقد أحضرت الطلبات سريعاًً ..
قال نمرود : ليس الأمر كذلك يا أمي ..
قالت الأم بتعجب : إذا ماذا ؟!
قال الابن : ليس لدي المال الذي يكفي لكل هذا ، المال الذي معي قليل ..
قالت الأم : أنت الآن تقوم بمتطلبات المنزل نيابة عن والدك ، ووالدك لم يقل لي يوماً قط : ليس لدي مال .. لقد أصبحت رجلاً ، اذهب واعمل وكُد واجتهد كي تحصل على المال المطلوب لكل هذه الطلبات ..
تنهد الابن وقال : كما تشائين يا أمي ، سأشتري الآن لك بالمال الذي معي خبزاً وجبناً وبيضاً ، والبقية عندما أعمل وأحصل على المال الباقي ..
قالت الأم : حسناً .. كان الله في عونك يا بني ..
وانطلق نمرود إلى السوق فاتجه أولاً إلى بائع الرغيف ، وطلب منه ستة أرغفة من الخبز ، وبينما هو يعد الخبز ناد البائع قائلاً : عفواً يا عم ..
أجاب البائع : نعم يا بني ..
قال نمرود : كم تجني في اليوم جرّاء عملك هذا ؟؟
قال البائع : الحمد لله .. أجني ما يقارب ثلاث مئة درهم ..
نظر نمرود بتعجب حتى اتسعت حدقت عينيه و صَغُرَ بؤبؤيه ثم قال : يعني أنك تجني في الأسبوع ألفان و مئة درهم .. وفي الشهر تجني آ .. أ .. تسعة آلاف .. ياااااااه .. يا لها من مهنة مربحة ..
ضحك البائع وقال : ولكن تمرُّ عليّ أيام أكسب فيها نصف الثَّمَن ، وأيام أكسب الربع ، وأيام لا شيء .. ولكنّ رغم هذا كله علينا أن لا نتضجر ونحمد الله على كل حال ..
ثم أكمل ضحكه ..
عندها هدأ نمرود من دهشته وقال في نفسه : آه .. يبدو أن هذه المهنة لا تناسبني ، عليّ أن أجد مهنة تدُر عليّ المال الكثير ، حتى يكفيني ويكفي والداي ..
ثم شكر البائع وأخذ أرغفة الخبز وولّى نحو بائع الجبن ، فطلب منه نصف كيلو من الجبن ، وبينما هو يحضر الطلب سأله هو أيضاً : عفواً يا عم ، لدي سؤالٌ بسيط أرجو أن لا يزعجك ..
قال بائع الجبن : تفضل يا بني ..
قال نمرود : كم يكون دخلك عادة في اليوم الواحد ؟؟
قال البائع : أنا أبيع الجبن بسعرٍ باهظٍ قليلاً ، لأن زبائني يشترون الجبن بالجملة حتى لا يعاودا المجيء إلى هنا ، فالسوق كما تراه بعيد بعض الشيء عن أغلب السكان ..
قال نمرود : يعني كم تكسب تقريباً ؟؟
قال البائع : أنا أبيع الكيلو الواحد بثلاثين درهم ، ونصف الكيلو بخمسة عشر درهماً ، أما الربع فبسبعة دراهم ونصف .. وغالباً يأتيني في اليوم الواحد أربعة عشر زبوناً ، يشتري البعض كيلاً واحداً والبعض الآخر كيلان ، وبعضهم النصف ، يعني إذا كسبت مئة و خمسة ريالات فهذا خيرٌ بالنسبة لي ..
ثم أعطاه الجبن ، وقال : هذه أرزاق يقسمها الله كيفما يشاء ..
فقال نمرود : جوزيت خيراً يا عم ..
وولّى نحوَ بائع البيض وهو يحدّث نفسه : كان الله في عونه ، وكان في عوني كذلك ..
وحالما وصلَ إلى المزرعة طلبَ من صاحب البيض خمسة بيضات ، ثم بقي واقفاً ينتظر قدوم البائع ، وما هي إلا لحظات حتى قدّم البائع له البيض ، فسأله هو أيضاً : حضرة البائع ..هل لي بسؤال ؟
قال البائع : تفضل ..
فسأله قائلاً : هل دخلك اليومي يكفيك ويكفي أهلك ؟؟
قال البائع : نعم والحمد لله ..
قال النمرود : كم تجني تقريباً في اليوم الواحد ؟؟
قال البائع : تقريباً أجني ... أنا أبيع ثلاث بيضات بدرهمٍ واحد ، وغالباً ما يشتري الواحد من الزبائن مثل ما اشتريت الآن من خمس إلى تسع بيضات ، وعدد زبائني لا يتعدّى الأربعون زبوناً في يومين ، يعني كم أجني تقريباً في هذين اليومين ؟؟ آآآآه ..
قال نمرود : يعني تقريباًُ مئة وعشرون درهماً ..
قال البائع : نعم .. نعم مئة وعشرون ، وهذا أمرٌ رائع جداً ..
قال نمرود : نعم أمرٌ رائع .. ثم أردف في نفسه قائلاً : رائعٌ لك وحدك أما أنا فليس رائعٌ لي .. يجب أن أبحث عن عملٍ أفضل من عمل الخباز وعمل الجبّان وكذلك بائع البيض ..
وعادَ إلى المنزل وأعطى والدته الطعام ثم انطلق للبحث عن عمل ..
قالت له والدته : ألن تتناول الطعام معنا ؟؟
أجاب النمرود : لا .. لا أظن أن الوقت مناسب لذلك ، علي أن أبحث عن وظيفة مناسبة ..
وبينما كان يسير في الطريق يفكر في المهنة المناسبة، مر بالمزارع ، فرأى أنها مهنة متعبة وشاقة ..
ومر بالحطاب ، فرأى أنها مهنة غير مربحة كثيراً .. وكذلك بائع الحليب والصياد، ومرّ بالكثير الكثير ، ولكنه في النهاية لم يقتنع إلا بمهنة واحدة سمعها من أحدهم وهو يحدث صاحبه قائلاً : اسمع يا أخي .. خذ هذه البضاعة واذهب إلى بلدة كذا ، وتاجر فيها هناك ، صدقني إنها تجارة مربحة لاسيما في تلك البلاد ، وسوف تجني منها المال الكثير ، ولن تخسر إلا أنك سوف تُغَرّب عن أهلك طويلاً ..
هذه الكلمات فقط أقنعت نمرود في أن يعمل تاجراً ، وحثّته على ذلك ، لكن العقبة الوحيدة التي هو يعمل من أجلها هي والديه ، فكيف له أن يوضّب بين عمله وبين بقائه على خدمة والديه ؟؟
وغربت شمس ذلك اليوم ، والإرهاق بادٍ على محياه ، لاسيما أنه لم يتناول الطعام ، جلس النمرود بجوار النهر يتأمل ويفكر فمرّ رجلٌ من ذلك الطريق ، ورأى النمرود مستلقياً على الضّفة ، فنزل ليستريح وجلس بجواره ، ثم سأله : ما بالك يا صاح ؟!
فنظر إليه النمرود لحظات ، ثم أدار وجهه نحو الشمس وتنهد ، وقال : هيه .. هيه .. لا تعلم ما بي من هم وغم شديدين ..
قال الرجل : يا صاح كلنا لنا هموم وآلام ، لا أظن أن ما ألمّ بك أقسى مما ألمّ بي ..
فنظر إليه ثم قال : أخبرني ما عندك ؟؟ علّك تخفف علي ما عندي ..
فقال الرجل : آهٍ .. آه .. كنت يوماً شاباً يافعاً مثلك يا بني ، وقررت أن أستغل شبابي بالتجارة و الترحال بين البلدان ، لم يكن والداي راضيان عن مهنتي هذه لاسيما أنني كنت أصغر إخوتي وقد تزوجوا جميعهم وانخرطوا في أعمالهم واهتماماتهم وتفرقوا في بلدانٍ عِدّة ، ولكنني كنت متحمساً جداً للسفر ، فأخبرتهما أنني سوف أعود قريباً ولن أنساهم كما فعل إخوتي ، وحقاً .. سافرت .. في المرة الأولى سافرت لمدة أسبوع وعدت إلى والداي بالهدايا ، وفي المرة الثانية سافرت لمدة شهر ثم عدت لهم كذلك بالهدايا ، وفي المرة الثالثة سافرت ولم أعد إلا بعد عام بزوجة ولكن قلّة الهدايا ، وفي المرة الرابعة لم أعد إلى بعد عامين بطفلٍ جديد ، كم سعِدَ والداي به ، بقيت عندهم لمدة شهر ثم سافرت ، ولم يروا وجهي بعدها أبداً ..
أصبحت أثرى الأثرياء ، كثُرَ مالي ، وكثُرَ أبنائي ، وكثُرت أسفاري ، ولكن مقابل ذلك ، قلة زيارتي لوالداي كثيراً ، بل قل أنني لم أعد أزرهما أبداً ، وبقيت على هذا الحال سبعة سنوات ، ثم ..
وسالت دمعة من عينيه .. قال نمرود : آسفٌ .. لقد ذكرتك بماضيك الحزين .. لكنني حقاً .. أريد أن أصبح تاجراًً.. ولا أظن أنني سأنسى والداي .. لا أريد أن أصبح مثل والدي .. مزارعاً .. لأنها مهنة متعبة .. ولا أعلم إن كانت ستجني لي الكثير أم لا .. إنها المهنة الوحيدة التي هي مفتوحٌ لي بابها .. ولكنني مُصِر .. مصر أن أصبح تاجراً ..
تابع الرجل حديثة ونشيج البكاء قد لعب بصوته : ثم مرت الأيام وتوالت وفجأة.. بعد أن كنت أغنى الأغنياء أصبحت أفقر الفقراء .. إن الله لا يرضى بالعقوق ، وهذا جزائي لأني انصرفت عنهما وحرمتهما مني ومن رؤية أبنائي ، خسرت خسارة عظيمة ، فالشيء الوحيد الذي لم أفهمه من قول والدي أن التجارة :"ربحٌ وخسارة" .. كنت أظن أنها ربح فقط .. ولو كانت خسارة لن أخسر إلا القليل ..
ثم اشتد نحيبه ، ولكنه تابع : نعم .. لقد خسرت الكثير الكثير .. أولاً : خسرت والداي فماتا ولم أرهما أو أصل رحمهما .. ثانياً : خسرت أموالي الطائلة التي لو كانت معي الآن لبنيت بها القصور .. ثالثاً : تخلّت عني زوجتي وأبنائي بسبب فقري .. والآن أنا كما ترى أهيم في الشوارع والطرقات من بلدة لبلدة أبحث عن لقمة للعيش ، نعم .. رابعاً : خسرت شرفي ومنزلتي ..
ثم هدأ ورفع قبّعته عن وجهه وجلس ، بعدها نظر إلى النمرود ، وقال : هذه قصتي ، واجعلني عظة وعبرة لك ، في الحقيقة .. ما كنت أنوي الجلوس معك ومحادثتك ، ولكن يبدو أن الله ساقني لك ، بني .. لا تخسر والداك من أجل المال ، لأن خسارة الوالدين تعني خسارة كل شيء ..
ثم وقف وقال : أستودعك الله يا بني ..
كانت الشمس في ذلك الحين قد لملمت أشعتها واختفى نورها ، لكن قرينها القمر كان يعقبها كي يزين السماء من بعدها ، نظر نمرود إلى القمر.. تنهد ، ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ُ..
و نهض نحو المنزل والهزل والتعب كان بادياً عليه ، وما إن دخل حتى رأى والدته واقفة عند الباب ، عندما رأته قامت من مكانها فزعة وقالت : أين كنت يا بني؟! لقد أقلقتني عليك .. من الأفضل أن لا تتأخر هكذا مرة أخرى .. هيا .. هيا .. هلم إلى العشاء ، إن كان العمل سيفعل بك هكذا ، فحاشا لله لا نريد عملاً يُغرّب عنا ابننا .. هيا الطعام ينتظرك ..
تبسم النمرود ، وقبّل رأس أمه ، ثم قال : نعم .. لقد قررت ماذا سأعمل ..
قالت الأم : هاه .. ماذا ؟! خبازاً أو نجاراً ؟؟
قال نمرود : لا .. بل مزارعاً مثل أبي ، ما أشرفها من مهنة ..
ضحك الوالد وقال : كنت أعرف ذلك .. ومن الغد سوف أعلمك ..
فرحت الأم لذلك كثيراً بقناعة نمرود بعمل والده ، وما هي إلا أسابيع حتى أصبح النمرود بارعاً في هذه المهنة ، ومرت شهور فجنا المال الكثير الذي ساعده في تحقيق طموحاته ، عندها أدرك نمرود معنى كلام بائع الجبن عندما قال له :" إن الله يقسم الأرزاق كيفما يشاء " .. وكلام التاجر المفلس عندما قال :" خسارة الوالدين تعني خسارة كل شيء" ..
وهكذا يا أصدقائي الأعزاء عاش النمرود ووالديه في سعادة وصفاء ، فببره لوالديه وبعد إرادة الله استطاع أن يكسب كل شيء ..[/frame]
من طلب العلا **+** سهر الليالي
+*+
رد مع اقتباس
مواقع النشر