شهيددة فلسطين
29-10-2008, 09:39 AM
الورد الثالث و الثلاثون:غزوة احد
الآيات من 153 -155 وتقع في الجزء الرابع من القرآن الكريم
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } *
التقييم حتى مساء الاثنين
أهم أحداث المعركة وتصحيح التصور
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم كي يعمق وقع المشهد في حسهم ; ويثير الخجل والحياء من الفعل ومقدماته التي نشأ عنها من الضعف والتنازع والعصيان والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل فهم مصعدون في الجبل هربا في اضطراب ورعب ودهش لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ولا يجيب أحد منهم داعي أحد والرسول ص يدعوهم ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح إن محمدا قد قتل فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول ص بفرارهم غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه وهو ثابت دونهم وهم عنه فارون ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم فهذه التجربة التي مرت بهم وهذا الألم الذي أصاب نبيهم وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم وذلك الندم الذي ساور نفوسهم وذلك الغم الذي أصابهم كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض وكل ما يصيبهم من مشقة فأثابكم غما بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله المطلع على الخفايا يعلم حقيقة أعمالكم ودوافع حركاتكم والله خبير بما تعملون ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها وهرجها ومرجها سكون عجيب سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم وثابوا إلى نبيهم لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ; فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ولو لحظة واحدة يفعل في كيانهم فعل السحر ويردهم خلقا جديدا ويسكب في قلوبهم الطمأنينة كما يسكب في كيانهم الراحة بطريقة مجهولة الكنه والكيف أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس وفي رواية أخرى عن أبي طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه أما الطائفة الأخرى ; فهم ذوو الإيمان المزعزع الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه ولا قضاء منه سبحانه للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء أن هذه العقيدة تعلم أصحابها فيما تعلم أن ليس لهم في أنفسهم شيء فهم كلهم لله ; وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ويتحركون له ويقاتلون له بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم كائنا هذا القدر ما يكون فأما الذين تهمهم أنفسهم وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ومحور اهتمامهم وانشغالهم فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم فهم في قلق وفي أرجحة يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ; وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم وهم لا يعرفون الله على حقيقته فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيعهم في هذه المعركة التي ليس لهم من أمرها شيء وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ; إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ويتساءلون هل لنا من الأمر من شيء وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ; ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ويرد على قولتهم هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله فلا أمر لأحد لا لهم ولا لغيرهم ومن قبل قال الله لنبيه ص ليس لك من الأمر شيء فأمر هذا الدين والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض وهداية القلوب له كلها من أمر الله وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ; وسؤالهم هل لنا من الأمر من شيء يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه وأنهم ضحية سوء القيادة وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة وحينما تعاني آلام الهزيمة حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ; وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ; وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ; وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها وهي لا يمكن بهذا الغبش في التصور أن ترى يد الله وراء الأحداث ولا حكمته في الابتلاء إنما المسألة كلها في اعتبارها خسارة في خسارة وضياع في ضياع هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله لأمر الحياة والموت ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور قل لو كنتم في بيوتكم ; ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة وكان أمركم كله لتقديركم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه فإذا حم الأجل سعى صاحبه بقدميه إليه وجاء إلى مضجعه برجليه لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم ويا للتعبير العجيب إلى مضاجعهم فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب وتسكن فيه الخطى وينتهي إليه الضاربون في الأرض مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه إنما هو يدركهم ويملكهم ; ويتصرف في أمرهم كما يشاء والاستسلام له أروح للقلب وأهدأ للنفس وأريح للضمير إنه قدر الله ووراءه حكمته وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ويصهر ما في القلوب فينفي عنها الزيف والرياء ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ليظهر على حقيقته وهو التطهير والتصفية للقلوب فلا يبقى فيها دخل ولا زيف وهو التصحيح والتجلية للتصور ; فلا يبقى فيه غبش ولا خلل والله عليم بذات الصدور وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور المختبئة فيها المصاحبة لها التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور والله عليم بذات الصدور هذه ولكنه سبحانه يريد أن يكشفها للناس ويكشفها لأصحابها أنفسهم فقد لا يعلمونها من أنفسهم حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ; فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ واستزلهم فزلوا وسقطوا إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم فكان هذا هو الذي كسبوه وهو الذي استزلهم الشيطان به ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة فتفقد ثقتها في قوتها ويضعف بالله ارتباطها ويختل توازنها وتماسكها وتصبح عرضة للوساوس والهواجس بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس فيقودها إلى الزلة بعد الزلة وهي بعيدة عن الحمى الآمن والركن الركين ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء الاستغفار الذي يردهم إلى الله ويقوي صلتهم به ويعفي قلوبهم من الأرجحة ويطرد عنهم الوساوس ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ثغرة الانقطاع عن الله والبعد عن حماه هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة حتى ينقطع بهم في التيه بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم فلم يدع الشيطان ينقطع بهم فعفا عنهم ويعرفهم بنفسه سبحانه فهو غفور حليم لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ; متى علم من نفوسهم التطلع إليه والاتصال به ; ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات
الآيات من 153 -155 وتقع في الجزء الرابع من القرآن الكريم
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } * { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } *
التقييم حتى مساء الاثنين
أهم أحداث المعركة وتصحيح التصور
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم كي يعمق وقع المشهد في حسهم ; ويثير الخجل والحياء من الفعل ومقدماته التي نشأ عنها من الضعف والتنازع والعصيان والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل فهم مصعدون في الجبل هربا في اضطراب ورعب ودهش لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ولا يجيب أحد منهم داعي أحد والرسول ص يدعوهم ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح إن محمدا قد قتل فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول ص بفرارهم غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه وهو ثابت دونهم وهم عنه فارون ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم فهذه التجربة التي مرت بهم وهذا الألم الذي أصاب نبيهم وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم وذلك الندم الذي ساور نفوسهم وذلك الغم الذي أصابهم كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض وكل ما يصيبهم من مشقة فأثابكم غما بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله المطلع على الخفايا يعلم حقيقة أعمالكم ودوافع حركاتكم والله خبير بما تعملون ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها وهرجها ومرجها سكون عجيب سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم وثابوا إلى نبيهم لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم وهي ظاهرة عجيبة تشي برحمة الله التي تحف بعباده المؤمنين ; فالنعاس حين يلم بالمجهدين المرهقين المفزعين ولو لحظة واحدة يفعل في كيانهم فعل السحر ويردهم خلقا جديدا ويسكب في قلوبهم الطمأنينة كما يسكب في كيانهم الراحة بطريقة مجهولة الكنه والكيف أقول هذا وقد جربته في لحظة كرب وشدة فأحسست فيه رحمة الله الندية العميقة بصورة تعجز عن وصفها العبارة البشرية القاصرة روى الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس وفي رواية أخرى عن أبي طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه أما الطائفة الأخرى ; فهم ذوو الإيمان المزعزع الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم والذين لم يتخلصوا من تصورات الجاهلية ولم يسلموا أنفسهم كلها لله خالصة ولم يستسلموا بكليتهم لقدره ولم تطمئن قلوبهم إلى أن ما أصابهم إنما هو ابتلاء للتمحيص وليس تخليا من الله عن أوليائه لأعدائه ولا قضاء منه سبحانه للكفر والشر والباطل بالغلبة الأخيرة والنصر الكامل وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء أن هذه العقيدة تعلم أصحابها فيما تعلم أن ليس لهم في أنفسهم شيء فهم كلهم لله ; وأنهم حين يخرجون للجهاد في سبيله يخرجون له ويتحركون له ويقاتلون له بلا هدف آخر لذواتهم في هذا الجهاد وأنهم يسلمون أنفسهم لقدره فيتلقون ما يأتيهم به هذا القدر في رضى وفي تسليم كائنا هذا القدر ما يكون فأما الذين تهمهم أنفسهم وتصبح محور تفكيرهم وتقديرهم ومحور اهتمامهم وانشغالهم فهؤلاء لم تكتمل في نفوسهم حقيقة الإيمان ومن هؤلاء كانت تلك الطائفة الأخرى التي يتحدث عنها القرآن في هذا الموضع طائفة الذين شغلتهم أنفسهم وأهمتهم فهم في قلق وفي أرجحة يحسون أنهم مضيعون في أمر غير واضح في تصورهم ويرون أنهم دفعوا إلى المعركة دفعا ولا إرادة لهم فيها ; وهم مع ذلك يتعرضون للبلاء المرير ويؤدون الثمن فادحا من القتل والقرح والألم وهم لا يعرفون الله على حقيقته فهم يظنون بالله غير الحق كما تظن الجاهلية ومن الظن غير الحق بالله أن يتصوروا أنه سبحانه مضيعهم في هذه المعركة التي ليس لهم من أمرها شيء وإنما دفعوا إليها دفعا ليموتوا ويجرحوا والله لا ينصرهم ولا ينقذهم ; إنما يدعهم فريسة لأعدائهم ويتساءلون هل لنا من الأمر من شيء وتتضمن قولتهم هذه الاعتراض على خطة القيادة والمعركة ولعلهم ممن كان رأيهم عدم الخروج من المدينة ; ممن لم يرجعوا مع عبد الله بن أبي ولكن قلوبهم لم تكن قد استقرت واطمأنت وقبل أن يكمل السياق عرض وساوسهم وظنونهم يبادر بتصحيح الأمر وتقرير الحقيقة فيما يتساءلون فيه ويرد على قولتهم هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله فلا أمر لأحد لا لهم ولا لغيرهم ومن قبل قال الله لنبيه ص ليس لك من الأمر شيء فأمر هذا الدين والجهاد لإقامته وتقرير نظامه في الأرض وهداية القلوب له كلها من أمر الله وليس للبشر فيها من شيء إلا أن يؤدوا واجبهم ويفوا ببيعتهم ثم يكون ما يشاؤه الله كيف يكون ويكشف كذلك خبيئة نفوسهم قبل أن يكمل عرض وساوسهم وظنونهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك فنفوسهم ملأى بالوساوس والهواجس حافلة بالاعتراضات والاحتجاجات ; وسؤالهم هل لنا من الأمر من شيء يخفي وراءه شعورهم بأنهم دفعوا إلى مصير لم يختاروه وأنهم ضحية سوء القيادة وأنهم لو كانوا هم الذين يديرون المعركة ما لاقوا هذا المصير يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا وهو الهاجس الذي يجيش في النفوس التي لم تخلص للعقيدة حينما تصطدم في موقعة بالهزيمة وحينما تعاني آلام الهزيمة حين ترى الثمن أفدح مما كانت تظن ; وأن الثمرة أشد مرارة مما كانت تتوقع ; وحين تفتش في ضمائرها فلا ترى الأمر واضحا ولا مستقرا ; وحين تتخيل أن تصرف القيادة هو الذي القى بها في هذه المهلكة وكانت في نجوة من الأمر لو كان أمرها في يدها وهي لا يمكن بهذا الغبش في التصور أن ترى يد الله وراء الأحداث ولا حكمته في الابتلاء إنما المسألة كلها في اعتبارها خسارة في خسارة وضياع في ضياع هنا يجيئهم التصحيح العميق للأمر كله لأمر الحياة والموت ولأمر الحكمة الكامنة وراء الابتلاء قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور قل لو كنتم في بيوتكم ; ولم تخرجوا للمعركة تلبية لنداء القيادة وكان أمركم كله لتقديركم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم إن هنالك أجلا مكتوبا لا يستقدم ولا يستأخر وإن هنالك مضجعا مقسوما لا بد أن يجيء إليه صاحبه فيضجع فيه فإذا حم الأجل سعى صاحبه بقدميه إليه وجاء إلى مضجعه برجليه لا يسوقه أحد إلى أجله المرسوم ولا يدفعه أحد إلى مضجعه المقسوم ويا للتعبير العجيب إلى مضاجعهم فهو مضجع إذن ذلك الرمس الذي تستريح فيه الجنوب وتسكن فيه الخطى وينتهي إليه الضاربون في الأرض مضجع يأتون إليه بدافع خفي لا يدركونه ولا يملكونه إنما هو يدركهم ويملكهم ; ويتصرف في أمرهم كما يشاء والاستسلام له أروح للقلب وأهدأ للنفس وأريح للضمير إنه قدر الله ووراءه حكمته وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم فليس كالمحنة محك يكشف ما في الصدور ويصهر ما في القلوب فينفي عنها الزيف والرياء ويكشفها على حقيقتها بلا طلاء فهو الابتلاء والاختبار لما في الصدور ليظهر على حقيقته وهو التطهير والتصفية للقلوب فلا يبقى فيها دخل ولا زيف وهو التصحيح والتجلية للتصور ; فلا يبقى فيه غبش ولا خلل والله عليم بذات الصدور وذات الصدور هي الأسرار الخفية الملازمة للصدور المختبئة فيها المصاحبة لها التي لا تبارحها ولا تتكشف في النور والله عليم بذات الصدور هذه ولكنه سبحانه يريد أن يكشفها للناس ويكشفها لأصحابها أنفسهم فقد لا يعلمونها من أنفسهم حتى تنفضها الأحداث وتكشفها لهم ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفورا يوم التقى الجمعان في الغزوة إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها ; فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ واستزلهم فزلوا وسقطوا إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم فكان هذا هو الذي كسبوه وهو الذي استزلهم الشيطان به ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة فتفقد ثقتها في قوتها ويضعف بالله ارتباطها ويختل توازنها وتماسكها وتصبح عرضة للوساوس والهواجس بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس فيقودها إلى الزلة بعد الزلة وهي بعيدة عن الحمى الآمن والركن الركين ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الربيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء الاستغفار الذي يردهم إلى الله ويقوي صلتهم به ويعفي قلوبهم من الأرجحة ويطرد عنهم الوساوس ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ثغرة الانقطاع عن الله والبعد عن حماه هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة حتى ينقطع بهم في التيه بعيدا بعيدا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم فلم يدع الشيطان ينقطع بهم فعفا عنهم ويعرفهم بنفسه سبحانه فهو غفور حليم لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم ; متى علم من نفوسهم التطلع إليه والاتصال به ; ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر مناديا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات