المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صغيرتي ربى......... قصة



-asma-
07-08-2003, 04:07 PM
ما أجمل الحياة عندما تعيش فيها بكل هدوء.. حيث لا أصوات مزعجة..
صباح جميل عشت اللحظات الأولى منه.. أرغمت نفسي على الاستيقاظ المبكر لأراقب الطيور وهر تخرج من أكنانها مع إشراقة الصباح.. ورشفات من كوب القهوة بالحليب في آخر أيام الخريف الباردة.. نسمات منعشة لامست وجهي عندما فتحت النافذة لأرمي الحب أمامها فتجتمع الطيور لالتقاطها.. كم هي رائعة ألوانهم.. سبحان الخالق.. كنت أرقبهم بهدوء يماثل هدوء وصفاء ذهني.. وبينما أنا كذلك.. إذ تناهى إلى مسمعي صوت من المستحيل أن أنساه..
- ماما.. ماما!!
إنها صغيرتي (ربى) فهذه عادتها.. أول عمل تقوم بع عند استيقاظها هو مناداتي!!
- أنا هنا أراقب الطيور..
- ماما تعالي..
يبدو أن مزاجها غير رائق اليوم، فهي تنادي بعصبية!!
-صباح الخير يا أجمل أقماري..
كعادتها.. تمد لي يدها تنتظرني أن أحملها..
-صباح الخير يا أحلى أم..
آه.. لا أدري لماذا لا أفهم صغيرتي.. فقبل دقيقتين كانت معكرة المزاج، والآن انقلب حالها مائة وثمانين درجة لتبتسم بسعادة!!!
-هل نمتِ جيداً يا صغيرتي؟ هبا.. استحمي ريثما أجهز إفطارنا..
-لن آكل شيئاً.. فقط أشتهي كوباً من الشوكولا الساخنة..

أنهت صغيرتي إفطارها سريعاً على غير عادتها فكم تحب اللعب بأكلها..
- ما بال حبيبتي شاردة.. أتريدين المزيد من الشوكولا؟
كانت سارحة ولم تجبني.. ترى ما الذي تفكر فيه ابنة الإثني عشرة سنة؟!! وضعت كفي على ساعدها، وتنبهت..
- بنيتي ما الأمر؟!
- إنه الحلم..
- مرة أخرى؟؟ ألم أخبرك أنها تخيلات يجب أن لا تصدقيها؟! لقد كبرتِ على تلك الأوهام!!
- أمي.. إنها ليست أوهام.. إني أراهم في حلمي بين فترة وأخرى..
- يبدو أنكِ أكلت كثيراً ليلة أمس وعاودتك الأوهام ثانية..
- كلا يا أمي.. إني أراهم أمام عيني..
- انسي تلك الخيالات.. بقي على موعدنا مع الطبيب ساعة ونصف.. أمامك نصف ساعة لتعدّي نفسك.. سنمر بدار النشر لأوقع العقد الذي أخبرتك به ثم نكمل طريقنا إلى الطبيب..

انصرفت دون أن تقول شيئاً.. راسمة على وجهها كل أشكال السخط!! ربما أكون حازمة معها بعض الأحيان، لكن ذلك لأجلها.. عليها أن تعتمد على ذاتها إذا كبرت.. لن أعيش لها مدى الحياة..

ركبت إلى جواري واجمة.. أعلم يا صغيرتي كم جرحتك.. لكنني أحبك!!
- ربى.. هل تحبين الذهاب إلى مكان ما بعد المشفى؟
- أمي.. ألا يمكننا تأجيل موعد التمرينات إلى الأسبوع المقبل؟؟
- ولماذا؟!!
- التمرين يتعبني وأنا اليوم مرهقة..
- لكنك استطعت تحريك أصابعك.. إنك في تحسن والحمد لله..
- أعدك بأني سأكثف تماريني في الأسبوع المقبل فقط إجازة لليوم..
- لكننا أجّلناه لأسبوعين مضت!! عليك تكثيف جهودك يا صغيرتي..
- وما الفائدة؟؟!
أوقفت سيارتي جانباً.. فكلماتها الأخيرة تبعث في نفسي شعوراً لا يوصف من الغضب.. تمالكت نفسي.. فصغيرتي مجروحة المشاعر.. نظرت إليها بحنان..
- هل هناك ما لا يعجبك في تدريب هذا المشفى؟ إنه أفضل مشفى في البلد.. أم أنك تحبين الكسل؟! أهناك ما يؤذيك؟!
- حسناً.. سنذهب حتى لا تغضبي..
- بنيتي.. إنه من أجلك أنت.. أم أنك تحبين أن تكوني مقعدة طوال عمرك؟!
هنا انفجرت أولى شرارات صغيرتي وأفرغت ما بداخلها من شحنات مأساوية..
- أعلم أني مقعدة.. أعلم أني يتيمة.. أعلم أني بلا أب ولا إخوة وحتى بلا أصدقاء.. أعلم أنني أعيش بلا هدف وأني عالة على مَن حولي..
ضممتها إليّ أهدّئ من روعها.. لم أرها يوماً يائسة كهذه المرة..
- صغيرتي.. ألا يكفيك أني أحبك؟! كلانا يتيمتان بلا أهل.. لكننا نحب بعضنا وسنكون معاً دائماً.. ما رأيك لو ذهبنا إلى حديقة الفراشات بعد المشفى؟؟
- جميل..

تركتها في غرفة الطبيب علّها تشعر بالثقة في قدراتها من جديد يعد أن كانت محبَطة.. جلست أنتظرها في حديقة المشفى.. دار في مخيلتي شريط حياتنا معاً..

عندما ولدتْ.. رأيتها أجمل من البدر.. بملامحها الطفولية الهادئة التي تشبه والدها إلى حد كبير.. أسميناها ربى.. وملأت حياتنا رغداً وهناءً.. عشنا ثلاثتنا حياة من أجمل ما تكون.. مليئة بالفرح والسرور.. كنا نراقبها وهي تكبر يوماً بعد يوم أمامي ووالدها.. عقدنا عليها الآمال.. وكانت بطلة أحلامنا وأمنياتنا.. فيوماً، نريدها أن تكون طبيبة.. ويوماً نريدها معلمة.. وبعد أيام نريدها كاتبة.. كم من أمنيات تمناها والدها.. وليته كان هنا ليرى ما أعانيه اليوم..

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي خرج فيه والدها مع الكتيبة.. فالحرب قد اشتدت في بلادنا.. ذهب من أجل الدفاع عن وطنه.. فاليوم هو يوم الفداء؟؟ لكنه ذهب بلا عودة.. ومرت أيام قاسية عليّ.. لك أكن حينها ذا ت خبرة كافية فما زلت في الرابعة والعشرين من عمري.. ومع صغيرة ذات ثلاث سنوات.. تنقلت بها من مدينة لأخرى بحثاً عن الأمان.. بتنا ملاحقتين في كل مكان.. كنت أحتضن صغيرتي بيدٍ وأدافع عن نفسي وعنها بيدٍ أخرى.. مناظر مؤلمة زُرعتْ في قلبينا.. ما ذنب صغيرتي أن ترى كل ألوان الشقاء هذه؟! انقطعت أخباري عن أهلي الذين رحل نصفهم ومات نصفهم الآخر بالقنابل.. صديقاتي تفرقن.. وأنا ما زلت مع صغيرتي.. وفي إحدى الأيام.. بعد أن نامت صغيرتي.. كنت إلى جوارها أستجدي النوم بلا فائدة.. غفَوْت.. لأصحو على صوت قنبلة انفجرت على مسافة قريبة منا.. تطايرت شظاياها لتُزرع واحدة أسفل ظهر صغيرتي.. لم أصدق ما يحدث.. لا أريد أن أفقدها.. حملتها إلى أقرب مشفى.. تاركة ورائي كل الأصوات والمناظر المؤلمة.. وكل بحار الدم التي تجري من حولي.. استخرجوا تلك الشظية.. ولكن.. بعد أن قطعتْ أحد أعصاب رجليها.. وأصبحت صغيرتي مقعدة!!! خبر مفزع أوصله لي الطبيب دون أن يراعي لهلعي وخوفي حساباً.. حملتها بين أذرعي وكلي أمل في أن تسير صغيرتي على قديمها.. ورحلنا خارج البلاد والحرب لم تنته إلا قبل أربع سنوات.. بعد أن أخذوا مني زوجي وأهلي وبيتي.. وخطوات صغيرتي.

كم هي مسرورة صغيرتي وهي تلاعب الفراشات.. لكنه سرور مغلّف بحزن عميق.. التقطت لها صوراً عديدة بينما هي تمسك بالفراشات بين أصابعها.. لكنها في كل مرة تحرص على عدم ظهور رجليها!!.. للمرة الأولى أشعر بأن صغيرتي لا تمتلك تلك الثقة بذاتها.. حزنت لأجلها فهي تعتقد أنها تنقص الكثير عن أقرانها.. لم أحدثها بشيء فلا أريد أن أعكّر عليها سرورها وضحكاتها التي أحب أن أراها.. بدأت أرى التعب يتسلل إلى محياها.. أخذتها وعدنا إلى عشنا الصغير مع بداية أولى خيوط الظلام..

أعددنا العشاء سوية وأنا ألاحظ عليها شرودها المتكرر.. أحياناً أشعر وأني بعيدة عنها مع أننا نعيش تحت سقف واحد.. حاولت أن أتقرب إليها لكنني أجد صعوبة في ذلك.. ليتني أجد أحداً يساعدني في تربيتها.. أو على الأصح يساعدني في تربية ذاتي.. إننا ننمو معاً.. ومازلت أراها تنمو أمامي.. ويتحقق حلم والدها..

أصبحنا لا نلتقي كثيراً.. فبسبب العقد الجديد الذي وقعته أصبحت ألازم مكتبي بينما صغيرتي تقضي أغلب ساعات يومها في مركز التأهيل.. مرت ثلاثة أشهر وأنا أراقبها عن بعد.. ربما تجمعنا لحظات قليلة في اليوم الواحد.. لكنني أرى الابتسامة تعلوا محياها..

- أمي.. متى سينتهي عقد عملك؟
- ربما يطول لكنه لن يزيد عن ستة أشهر..
- إذن أمامنا ثلاثة أشهر أخرى!!
- نعم.. لمَ؟
- لا شيء.. فقط أردت أن أعرف..
احتويتها بعيني.. بينما أصابعي تلامس شعرها الناعم..
- أعلم أنني انشغلت عنك كثيراً.. لكنك تعلمين أنها المصدر الوحيد لنعيش.. أعدك أن نعوض ما فاتنا..
- بالعكس.. كل ما في الأمر أنني أراك تتعبين نفسك كثيراً.. فقط أردت أن نذهب في إجازة بعد انتهائك من العمل..
احتضنت صغيرتي وأنا أغالب الدمع في محاجري.. كم تذكرني طيبة قلبها بوالدها.. إنني لم أفقد روحه السامية.. فهو يعيش أمامي في نفس صغيرتي..
- أمي.. هل تبكين؟ إذا كانت الإجازة والسفر لا يعجبانك فلكِ إلغاؤها..
قبلتها في جبينها.. أفرغت فيها كل مشاعر الحنان الذي ينبض به فؤداي..
- كلا يا صغيرتي.. سنذهب إلى المكان الذي يعجبك في أي وقت تحبينه.. فقط تذكرت والدك.. فأنت تشبهينه كثيراً..
- حقاً.. يبدو أنه إنسان عظيم.. أمي.. احكِ لي عنه!!
- لكنك تعرفينه جيداً!! ألم تعرفيه في حكايات ما قبل النوم؟؟
- بلى.. لكنني أحبه.. وأحب أن ترددي حكاياتك عنه..
ما أجملها من ابتسامة تلك التي تنطق بها شفاه صغيرتي.. تحوي سروراً وثقة بقوة تاريخ والدها..
- هل تحبينه يا ربى؟
- بالتأكيد!!
- إذن، احكِ لي عنه.. ما الذي تحبينه في والدك؟ لقد عِشتِ معه ثلاث سنوات ما الذي تذكرينه منه؟

نظرات الاستغراب أراها على وجه صغيرتي.. ربما لم أطلب منها ذلك من قبل.. لكنني أحببت أن أرى مدى حبها لوالدها الذي فارقته..

-asma-
07-08-2003, 04:12 PM
- مازلت أذكره يا أمي.. بقامته الطويلة وبنيته القوية.. كم كنت سعيدة عندما كان يحملني على كتفه.. حينها أرى الدنيا من حولي صغيرة.. وكأنني أحلق في فضاء واسع.. هل تذكرين يا أمي عندما كان يعلمني قراءة الفاتحة؟؟ ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي أهداني فيه والدي مصحفاً وسجادة صغيرة وخِمَار صلاة بحجمي.. ربما كنت صغيرة جداً على ذلك.. لكنني أحسست أنني كبيرة في نظره.. حكاياته لي، ما زلت أذكرها وكأنني سمعتها قبل عدة أيام.. كم أحبه وأفتقده.. إنني لأشتاق لذلك اليوم الذي نعود فيه لوطننا ونلتقي بأبي.. أخبريني أمي متى سنعود إلى الوطن؟؟

ما أروعها من كلمات.. هي تلك التي نطقت بها شفاه صغيرتي.. أحسست بها تصف لي والدها وكأنها تراه ماثلاً أمام عينيها.. لكن سؤالها فاجأني.. ربما لأنني اعتدت العيش هنا لكن صغيرتي لم تعتد على ذلك بعد..

- وماذا ستفعلين لو عدنا؟
- سأذهب إلى بيتنا الجميل.. سأبحث عن دميتي وألعابي.. كم أتمنى أن أجد تلك المدينة الصغيرة التي ابتاعها لي أبي قبل سفره.. سأجلس عند جدتي لتعلمني كيف أصنع الملابس الصوفية.. سأزرع الزهور مرة أخرى.. وقطتي الصغيرة سأرعاها ولن أفرط فيها.. لن أتركها بلا طعام..

كم هي صغيرتي متفائلة.. أرى شعاع الأمل ينبثق من عينيها وهي تتحدث عن وطننا عندما تركته.. لست وحدك يا صغيرتي من يشتاق لأرض الوطن.. إنها تعيش في قلوبنا.. تلك الأرض التي أخرجت لنا أطايب ما فيها..

- أمي.. وماذا ستفعلين أنت؟
- كل ما يحلو لك صغيرتي.. سنعيد زراعة حقلنا الصغير.. أتذكرين تلك العنزة البيضاء؟
- نعم.. لكنهم قتلوها وأمها!!! سأنتقم منهم.. إنهم الذين أخذوا والدي منا..

تلك هي صغيرتي.. بأحلامها العذبة ونفسها الطاهرة.. مازالت ترتسم في نفسها أزهار الربيع.. وتشدو معها أطيار الصباح.. لكن الآية تنقلب عندها ليتحول ذلك الفرح إلى بكاء.. كلما تذكرت رحيل والدها.. وما يؤلمني هو أن أرى الدمعة تشق طريقها على وجنتيها ..
________________________


أسبوعان آخران وينتهي عقد العمل الأخير لي في هذا البلد.. وها أنا أخطط لسفرنا للوطن.. أحببت أن تكون مفاجأة رائعة لصغيرتي التي طالما تمنتها.. وحسب تخطيطي سأخبرها قبل سفرنا بيومين..

في يوم الخميس، احتفلنا معاً من أجل صدور أول كتاب لي.. فبقدر ما كنت سعيدة، كنت خائفة كذلك.. لا أدري لماذا أحس بالخوف كلما أحسست بالسعادة.. ومع ذلك، سررت عندما أخذت صغيرتي نسخاً كثيرة لتوزعها على صديقاتها.. إنها تُظهر لي مدى فخرها بي أمام الجميع.. حتى عندما زرتها في مدرستها، كانت تعرفني على صديقاتها واحدة تلوَ الأخرى.. كنت أشعر بها تطير فرحاً لوجودي معها.. وكم يشعرني تصرفها ذاك بتقصيري مع صغيرتي.. يكفي أننا لا نستطيع العيش بعيدتين عن بعضينا.. إنها خواطر جالت في نفسي عندما جعلتني ربى أوقع للإهداء..

- أمي.. هناك شيء طالما انتظرناه معاً.. نعد الأيام والليالي من أجله.. وأعتقد أن اليوم مناسب جداً لأريك إياه.. إنها هدية مني..
- صغيرتي.. يبدو أن كلاً منا لديها مفاجأة للأخرى!! حسناً، لنرَ ماذا لديك؟
- حسناً.. لحظة من فضلك يا أمي العزيزة..
- ربى؟!! تمهلي ستسقطين!!
- كلا يا أمي انتظري

عادت صغيرتي بكرسيها المتحرك إلى الوراء.. ظننتها ستأخذ شيئاً من حجرتها.. لكنها توقفت!! كنت أراقب حركاتها بصمت مغلف بالكثير من التساؤلات.. هاهي ربى.. تزيل الحاجز السفلي لكرسيها.. تضغط بقوة على ساعديها لتقف وتقف معها نبضات قلبي خوفاً عليها.. رباه إنها تقف على قدميها!! مشت صغيرتي خطوات متأرجحة نحوي.. احتضنتها فرحاً لأجلها وخوفاً عليها من أن تسقط.. رباه.. هاهي صغيرتي تسير من جديد.. اللهم لك الحمد على نعمائك.. احتضنتها وأدمعي تعبّر عن كل مشاعري المتضاربة في فؤادي.. احتضنتها وصورة والدها تلوح أمامي.. تذكرت أول يوم بدأت صغيرتي أولى خطواتها قبل أحد عشرة سنة.. عندما علمها والدها كيف تسير.. مازالت تلك الصورة مطبوعة في ذاكرتي ولن تغادرها.. احتضنت صغيرتي وهي تبكي فرحاً لما حققته اليوم.. آه يا أبا ربى.. هل ترى السعادة ترفرف على قلبينا من جديد؟؟.. هاهي صغيرتنا ستودع ذلك الكرسي المتحرك كما تمنينا، ولكن، متى ستعود إلينا كما تحلم صغيرتنا؟؟

-asma-
07-08-2003, 04:14 PM
- أمي.. أرأيت؟! إني أسير!!
- نعم يا صغيرتي؟؟ إني أرى ذلك.. أراك وأنت تشقين طريقك نحو الأمل..
- هل تذكرين ذلك اليوم الذي سألتك فيه عن مدة العقد؟! كنت حينها قد عزمت على البدء في تحسين قدراتي.. عاهدت نفسي على أن أخطو شيئاً فشيئاً.. لأُسعِدكِ..

أجلستها في حضني.. كم هي صغيرتي رائعة.. لقد كبرت.. لكنها ستبقى صغيرتي المدللة..

- مالذي تتمناه صغيرتي الآن؟؟
- أريد أن أرى أبي.. أريد أن أراه.. وأجري نحوه فاردة يداي لأرتمي في حضنه.. أريد أن أشعر بالأمان لوجوده معي.. أتذكرين يا أمي أولئك الأشرار الذين أراهم في حلمي؟! كم أتمنى أن يكون أبي موجوداً لأحتمي به.. إنه قويّ يا أمي وسيتغلب عليهم..
- وأنا كذلك يا ربى.. إنني أشتاق إليه.. يبدو أم حلمنا سيتحقق قريباً يا ربى..
- كيف؟!!
- بهذه!!

أخرجت لها تذاكر السفر التي كنت قد خبّأتها عنها.. لم تقاوم صغيرتي فرحتها وقامت تقفز أمامي بعد أن سحبت التذاكر من بين يدي..

- وأخيراً يا أمي!! سنعود؟!! سنعود إلى الوطن؟!!!
- وستتحقق كل أحلامك غاليتي..
- بل أحلامنا يا أمي!!

كم هي صغيرتي جميلة بابتسامتها السعيدة.. احتضنتها بين ذراعي وقلبي ينبض أملاً وخوفاً.. الأمل، بأن تتحقق أحلام صغيرتي.. والخوف، من مستقبل مجهول أو مستقبل مخيف لا أحب أن تعيشه صغيرتي..
__________________


أعددنا حقائبنا للسفر وأبقيت منزلي كما هو.. لا أدري لمَ لمْ أقم ببيعه.. يراودني شعور بأنني سأعود إليه يوماً ما!! أهو انعدام الثقة بما أقوم به؟ أم أنه الخوف؟!!

بعد رحلة استغرقت تسع ساعات ونصف، وصلنا إلى أرض الوطن.. لم تنم صغيرتي طوال ذلك الوقت.. كانت تسألني عن كل شبر في وطننا.. كيف سنقطع المسافة من المطار إلى منزلنا؟؟ من سيقلنا؟؟ ألدينا أقارب لهم أطفال صغار؟؟ كمّ هائل من الأسئلة سردتها صغيرتي وكأنني في لقاء صحفيّ معها!! ومع ذلك، كنت سعيدة بتلك الأسئلة.. سعيدة لأن حبها لوطنها مازال يجري في عروقها.. رغم ما رأته فيه من آلام..

ركبنا أول سيارة أجرة كانت أمامنا.. لقد تغير الوطن كثيراً.. لكن آثار الحرب مازالت بادية.. كنت أعتقد أنني سأعرف حينا بسهولة، فقد تهنا في أول الطريق!!
- إلى شارع صلاح الدين، حي المنار إذا سمحت..
- حي المنار؟!! لم يعد له وجود بعد الحرب يابنتي.. يبدو أنك من ضمن مَن تركوا البلاد منذ أيام الحرب..
- نعم.. غادرتها منذ عشر سنوات تقريباً..على كل.. خذنا لأفضل فندق في المدينة..

بدأت أرى اليأس في عين صغيرتي.. لامست أصابعي شعرها المنسدل..

- لا تقلقي.. سنجد بيتنا..
_______________________


مرت عشرة أيام، ونحن ندور بين الدوائر الحكومية، نبحث عن والدها وعن بيتنا.. قدمت لهم طلباً باسترجاع بيتي وأرضي، لكنهم رفضوا إعادة البيت بحجة أن الحي قد تمّ بناؤه مرة أخرى وهدمت البيوت القديمة والتي كان من بينها بيتنا لأنني لم أقدّم أوراقاً ثبوتية في أول سنة بعد انتهاء الحرب!! أما أرضنا، فما زالت موجودة إلا أنها لم تعد أرضاً زراعية والمنظقة التي تقع فيها.. فقد امتدّ العمران إلى هناك..

- أمي متى سيكون لنا بيت؟! لقد سئمت حياة الفنادق..
- قريباً يا صغيرتي.. سنبدأ ببناء بيت صغير لنا وسيكون في كل ما تريدين.. سبحث الآن عن شقة صغيرة نعيش فيها ريثما ينتهي البناء..

صغيرتي تحلم بالكثير.. فمع أنّ حياتها كانت سلسلة من المعاناة، إلا أنها كانت تعيش في رغد ورفاهية.. لم تطلب شيئاً إلا ووجدته أمامها.. ربما أكون مخطئة لكنها أمانة في عنقي.. ولن أفرّط فيها، فهي كنزي الوحيد في هذه الدنيا..
___________________________


بعد ثلاثة أشهر من المعاناة.. وجدنا شقة صغيرة لنقيم فيها.. بحثنا إلى أن كاد اليأس يملؤ قلبينا.. في كل مرة أجدهم يرفضون تأجيرنا شقة من تلك الشقق لأننا أغراب في نظرهم.. لا يهم، طالما أننا وجدنا ما نريد..

أما صغيرتي.. فقد بدأت أول يوم دراسي لها هنا.. كان يوماً شاقاً جداً.. فهي المرة الأولى التي ترى فيها الطالبات بعد أن عودتنا إلى الوطن.. لكنها مع ذلك كانت سعيدة جداً.. فقد أصبح لها صديقات..

- أمي.. لقد وصلتنا رسائل!!!
- حسن.. لنرَ.. سنقتح هذه أولاً.. إنها من دائرة الأحوال المدنية..

فتحتها وقلبي يرجف خوفاً.. إنها تحمل خبر حياة أو موت زوجي!! ربـــاه أين شجاعتي..

- أمي!! ما بك؟! ألا تريدين قراءتها؟!! إني أنتظرك!!
- كم أنتِ عجولة يا ربى!! انتظري لأرى إن كانت تناسب سنك أم لا!!

أحببتُ أن أداعبها لأُذهِب القلق عن نفسي وعنها..

- لقد كبرتُ بما فيه الكفاية!! أم أنكِ لا تثقين بي؟!
- بل أثق بك يا صغيرتي؟؟ سنقرؤها معاً..



بسم الله الرحمن الرحيم
السيدة / هدى جميل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نأسف لتأخرنا في الرد عليكم
بعد طلبكم البحث عن المدعو: مجد سليم، والذي يحمل رقم ------- في دائرة الأحوال المدنية..
فبعد البحث ومراجعة ملفات المدعو، تبيّن لنا أنه فقد في عام 1991م أي في السنة الأولى للحرب.. وحسب ما توصلنا إليه بالتعاون مع المركز العسكري الوطني فقد تبيّن لنا أن زوجكم هو أحد شهداء الحرب بإذن الله.. ويمكنكم التوصل للمزيد من المعلومات عن طريق المركز العسكري..

سائلين المولى أن يتغمّد فقيدكم برحمته.. ويُلهمكم الصبر والسلوان.



مدير مركز الأحوال المدنية.






لم أصدق ما قرأته للمرة الأولى.. أعدتُ قراءة الرسالة مرات ومرات، علّي أجد خطأ في الاسم!! أما صغيرتي فقد أسرعت خطاها وهي تبكي في غرفتها.. تبعتها وأنا في حيرة من أمري..

- ربى.. ألم نتفق على أننا سنكون أقوياء..

احتضنت صغيرتي بين يديّ وأنا أخبّئ أدمعي.. لا أدري أهي دموع فرح لأن زوجي قد حقق حلمه، أم لأن صغيرتي قد أصبحت يتيمة.. وأنا أصبحت أرملة!!

- لقد ضاع كل شيء يا أمي.. كل شيء.. أحلامنا لن تتحقق أبداً.. إنها سراب!!
- كلا يا صغيرتي.. إنها ليست سراباً.. بل هي واقع علينا أن نعيشه.. سنحقق تلك الأحلام معاً..
- كيف يا أمي كيف؟!! منذ أن وصلنا ونحن في بلدنا أغراباً.. إننا بلا بيت ولا أهل وبلا أب!! لقد هدموا كل شيء.. سرقوا بيتنا.. أخذوا أبي منا.. منذ أن وصلنا لم يسأل أحد عنا.. أرأيت؟ إننا أغراب!!

يا الله.. كم هي صغيرتي محبطة.. ما عدت أعرف مالذي يجب علي فعله.. لم أكن يوماً في حيرة من أمري كهذا اليوم!!

-ربى.. أعلم أنك حزينة.. لكن حزني أعمق.. فأنا يتيمة كذلك وبلا أهل.. وبلا زوج.. ولا أريد أن أكون بلا ذرية.. لا أريدك أن تضيعي من بين يديّ.. ومع أن الحزن يملؤ فؤادي، إلا أنني فرِحة.. أتعلمين لمَ؟! لأن أباك شهيد بإذن الله.. تخيلي نفسك.. ألا يروق لك أن تكوني ابنة شهيد؟!.. كفكفي دموعك غالتي.. فلا أحب أن أرى صغيرتي حزينة باكية..
______________________


مرت عشرة أشهر أخرى.. لم أذق للراحة فيها طعماً.. أدخلت صغيرتي مدرسة أخرى قريبة من منزلنا الذي انتهى بناؤه بعد طول انتظار.. لا أدري ماذا أقول عن صغيرتي الحبيبة.. فقد مرّت بمحنة عظيمة لا تناسب سنها.. لكنها أظهرت لي مدى صلابتها.. وفي كل يوم، أراها على أحسن ما يكون..
أما بيتنا.. فقد جعلته كما تمنت صغيرتي.. لها فيه عنزة بيضاء.. وقطة بنية ما لبثت أن أصبحت لديها عائلة صغيرة..
_______________________



ومرت سنيـــــن.. تقلبنا فيها ما بين فرح وترح.. عشنا فيها كل سعادة وحزن.. حاولت جاهدة فيها أن أحقق أحلام صغيرتي ربى.. برز اسمي خلالها ككاتبة وصحفية.. أما صغيرتي.. فقد كبرت.. لكنها لم تكبر عن قلب وحضن أمها.. كبرت.. وأصبحت من فضليات بنات مجتمعنا.. بذلتُ لها جلّ وقتي واهتمامي.. لتحقق لنا أمنياتنا.. أنا ووالدها.. وها أنا، أراها في كل سنة حائزة على المركز الأول.. يرقص حينها فؤادي طرباً كلما سمعت اسمها ( ربى ابنة مجد شهيد البلد ) يتربع على على قمة أسماء المتفوقين..


واليوم.. تملؤني الفرحة.. وأنا أرى أحفادي ( قصيّ ويافا ) يلعبون من حولي.. ترعاهم أمهم - صغيرتي ربى - وتمنحهم حبها وعطفها وحنانها.. تغذيهم من نبع قوتها وصمودها الذي لا يعرف سوى الشموخ..








صدى
ابنة الرجل
الإثنين 2 يونيو 2003

الشهد
08-08-2003, 01:16 AM
نسال الله ان يبارك فيك وفي قلمك مبدعتنا صدى

-asma-
09-08-2003, 05:33 AM
:);):);)

غريبة الروح
11-08-2003, 07:29 PM
:p

-asma-
12-08-2003, 09:39 AM
:)

ام أنس
12-08-2003, 10:03 AM
رائعه قصتك ياصدى:)

بس انها حزينة شوي:rolleyes::( مايخلوون الحريم بس!!

وطويلة شوي :cool:

بارك الله فيك وفي قلمك وننتظر ابداعاتك الجميلة

أبوعبدالله
25-08-2003, 10:00 AM
بارك الله فيك اختي صدى ...

-asma-
25-08-2003, 11:22 AM
بارك الله فيكم

الغزال اللعوب
16-08-2009, 07:24 PM
قصه محزونه