المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ياقاتلى اين المفر ج10



Miss.Reem
25-04-2017, 11:13 PM
الجزء العاشر




كان صباحا ربيعيا مشرقا... أزاحت الستائر و تركت أشعة الشمس تداعب أركان الغرفة وتزيد اللون الوردي إضاءة. ملأت رئتيها بالهواء النقي الذي حمل إليها عبير الورود. ابتسمت ببراءة... كم هي في حاجة إلى استرجاع شيء من الصفاء، من الفطرة المتفائلة المطمئنة...

أنهت عملها في الغرفة، و تخلصت تماما من بقايا الغرفة الزرقاء... لكنها لم تتخلص بعد من مخلفات الليلة الماضية و تأثيرها على نفسيتها... شغلت نفسها بكل شيء و أي شيء... تريد أن تمنع الهواجس من التسلل إلى عقلها، حتى تفكر باتزان و روية. تحس في نفسها حاجة إلى الراحة... راحة تستجمع فيها قواها و تنظم أوراقها التي بعثرتها الاكتشافات الأخيرة...

قررت أن تخرج من الغرفة... الساعة كانت تشير إلى الحادية عشرة إلا ربع. في مثل هذا الوقت يكون القصر شبه خال... خالها و ياسين يكونان في الشركة... فراس يكون في المستشفى أو في العيادة... و كل ما يهمها في الوقت الحالي هو أن تتجنب رؤيته... بالكاد تخلصت البارحة من فكرة أن يكون قد دس لها سما في الإبرة التي حقنها إياها!

فتحت الباب في هدوء و أطلت برأسها في حذر... تأكدت من أنه لا أحد في الممر، فتقدمت في خطى وئيدة، أغلقت الباب وراءها و هرولت في اتجاه الدرج، لا تريد أن يعترض أمين طريقها... إنها في حاجة إلى جلسة هادئة ومريحة في الحديقة... لتسترخي و تستعيد هدوء أعصابها... ففي ركنها الخاص الذي تعودت الجلوس فيه منذ إقامتها هنا، تجد الطمأنينة و السكينة...

كان تسير مسرعة و تلتفت وراءها باستمرار... لتتأكد من أن أحدا لم يلمحها... و خاصة أمين الفضولي الذي لا يمكنها أن تتحمل ثرثرته اليوم... فجأة، اصطدمت بجدار أمامها في عنف و كادت تفقد توازنها لولا أن استندت بذراعها على حائط الممر. أطلقت صرخة خافتة و هي تسمع صوت ارتطام أشياء سقطت على الأرضية الرخامية. رفعت عينيها لتلتقي بعينين تعرفها جيدا... عينيان تثير نظرتهما فيها مشاعر كثيرة... الخوف و الشك و مؤخرا... الاشمئزاز! فلم يكن الجدار الذي اصطدمت به سوى... فراس!!! لوهلة بدا لها عملاقا، ربما لأنها لم تقف قريبة منه من قبل... أو ربما لكل الأفكار السوداء التي سكنت خيالها عنه و عن ماضيه...

تراجعت في ذعر و مشاهد كثيرة تتدافع في رأسها... لقاؤهما البارحة في حفلة الشواء، الكراس المحترق، المذكرات... الحمى... الحقنة... و الكراس الذي اختفى!

لم يعد هناك ما تخفيه... صارت تعلم الكثير من الحقائق... و هو يعلم بأنها تعلم... و لا مفر من المواجهة! تمالكت نفسها بصعوبة، و أطلت من عينيها نظرات صارمة قاسية... هو الذي يجب أن يخاف منها، لأنها كشفت سره... و ليس هي! و لكن الكراس اختفى و لم يعد بيدها أي دليل... إذن كلمتها ضد كلمته؟!

قاطع أفكارها صوته و هو يسألها :
ـ هل أنت بخير؟

عجزت للحظات عن التفكير... طالعته في شك و ريبة... هل يسخر منها؟ ما هذا الذي في صوته؟ اهتمام؟ عطف؟ أم استجواب طبيب لمريضه؟ لبثت تنظر إليه في حيرة...

بدا عليه الارتباك و هو يقول :
ـ كنت محمومة البارحة... أنت لا تأكلين جيدا، و جسدك يضعف يوما بعد يوم... عليك بالتزام حمية غذائية مناسبة لاسترجاع قواك...

رفعت حاجبيها في دهشة و هو يواصل بصوت خال من التعبير :
ـ لقد أعطيت التعليمات اللازمة لعم هاشم بشأن طعامك...

قاطعته في حدة :
ـ لا علاقة لك بطعامي و لا بصحتي!

حدجها بنظرة غاضبة أوقفتها على الفور و جعلتها تندم على تحديه... تعلم أن غضبه من النوع الفتاك... لكنه تنهد بصوت مسموع و قال بهدوء :
ـ أنا في الوقت الحالي طبيبك... و عليك اتباع تعليماتي للتعافي... ربما لم تجدي الجو المناسب هنا، و غياب والدك أثر على نفسيتك... لكن عليك أن تهتمي بنفسك أكثر، حتى يجدك عمي نجيب في كامل صحتك حين عودته...

شدت على أسنانها بقوة... كأنه لا يعلم ما الذي أثر على نفسيتي! أي لعبة تلعبها يا فراس؟ هل تظن بأنني سأغير فكرتي عنك لقناع اللطف الذي تضعه على وجهك لساعات قليلة في اليوم؟ أنت تعلم أنني كشفت عن جوانب شخصيتك الأكثر سوادا، لذلك لا داعي للتحايل...

كان لا يزال يقف أمامها، صامتا... كأنه لم ينته بعد من كلامه... متردد؟ أوراقه و ملفاته مبعثرة على الأرض، و هو لا يهتم بجمعها...تساءلت في ضيق... ما الذي جاء به في هذا الوقت بالذات؟ أليس من المفروض أن يهتم بمرضاه الحقيقيين؟! لا يمكنها أن تتخيل أن شخصا مثله يعمل طبيبا، يخفف عن الناس و يشفي آلامهم!!! ازداد اشمئزازها من الفكرة...

مضت الثواني ثقيلة، لا يمكنها أن تحتمل أكثر... تشجعت، ابتعدت عنه، و مرت من جانبه مندفعة باتجاه السلم، تجاوزته و هي تلهث... داست على ملفاته في شماتة...

استوقفها فجأة :
ـ ليلى...

تسمرت في مكانها على الدرجات الأولى. هل سيعنفها؟ ما الذي دهاها حتى تتحداه بتلك الطريقة؟ تصرخ في وجهه، تتجاهله ثم تدوس أوراقه... كأنها لا تدري ما بمقدوره فعله!

لكنه لم يمهلها لتتدارك موقفها... فاجأتها نبرته، و كلماته :
ـ أنا آسف...

استدارت و هي لا تكاد تصدق أذنيها. إنها المرة الثانية التي يعتذر فيها فراس منها!!! لم تعد تفهم شيئا!

تابع في هدوء دون أن ينظر إليها :
ـ كنت متعبا البارحة... تصرفت بتهور... ما كان يجب أن أصرخ في وجهك...

متعب؟ تهور؟ هل هذا كل ما تملكه من مبررات؟ هل هكذا أيضا ستبرر تصرفاتك مع حنان و معاملتك السيئة لها؟ هل تسخر مني يا هذا؟

لم تعلق بكلمة... استدارت و تابعت نزول السلم... قطعت البهو و هي تنظر بلهفة إلى المخرج، كأنها تفر... تريد أن تفلت من حصاره، أن تبتعد عن محيط تواجده قدر الإمكان. حين وصلت إلى الباب الخارجي حانت منها التفاتة... كان لا يزال مسمرا في أعلى السلم، موليا إياها ظهره... يضع كفه على جبينه، و الأوراق لا تزال مبعثرة على الأرض... يعيد حساباته؟

تجاوزت الباب مسرعة و اختفت في الحديقة... لم تنتبه إلى الشخص الذي كان يراقب المشهد مستندا إلى باب المطبخ، عاقدا ذراعيه أمام صدره. ثم لم يلبث أن عاد إلى الداخل في هدوء...



*********


طرقات على بابها من جديد... كانت قد عادت إلى غرفتها منذ نصف ساعة بعد أن تأكدت من مغادرة فراس للقصر، لمحته و هو يركب سيارته الباسات البيضاء من مجلسها الخفي في الحديقة... لم تكن نتائج خلوتها في أحضان الطبيعة كالمرجو... فقط زادتها تصرفات فراس المتناقضة تشوشا...

وقفت في تثاقل و فتحت الباب و هي تبتهل في سرها... يا إلهي أرجوك، إلا أمين، ليس الآن وقت الثرثرة و الدعابات... و لكن لحسن حظها، طالعها وجه منال المبتسم!

احتضنتها في ود، و أخذت بيدها لتجلسها على الفراش وهي تقول في مرح :
ـ كيف حال صغيرتنا اليوم؟ أرأيت... ليست الحقن مخيفة كما تظنين!

ابتسمت ليلى في تعب و هي تقول في نفسها... لم أخف يوما من الحقن... لكن الطبيب هنا هو الداء عينه!

ـ شكرا لك يا منال... أنا بخير الآن... كانت مجرد وعكة خفيفة...

رفعت منال سبابتها أمام وجهها متوعدة :
ـ الطبيب يقول بأن جسدك ضعيف مما يجعل مناعتك تتهاوى أمام أدنى فيروس... عليك بالاهتمام بأكلك... و أنا من اليوم سأراقبك و أسهر على تطبيق تعليمات الطبيب...

تنهدت ليلى في يأس. إنها لا تفهم، لا أريد شيئا من هذا الطبيب! فقط أن يبقى بعيدا عني...
رمقتها منال بنظرة متفحصة، و بدت الجدية على ملامحها. راقبتها ليلى و هي تقف و تتناول حقيبتها التي وضعتها على المكتب حين دخولها. جلست من جديد و بهدوء تام، أخرجت لفافة بيضاء من حقيبتها... تطلعت إليها ليلى في دهشة و فضول... مدت إليها منال اللفافة... لفافة الورق الأبيض! تسلمتها ليلى و قد تضاعفت حيرتها أضعافا كثيرة... أزاحت غلاف الورق بسرعة تحت عيني منال، لتجد ما توقعته بالضبط... المفكرة المحترقة!

رفعت عينيها إلى منال و هي تنتظر تفسيرا. ابتسمت منال و هي تقول :
ـ كانت إلى جوارك حين دخلت عليك مساء البارحة... و لم يكن من الحكمة أن يراها فراس أو سارة عندك... لذلك أخفيتها عن الأنظار، حتى تستعيدي عافيتك...

ثم أضافت و هي تغمز بعينها في مرح :
ـ كما أنني لم أستطع مقاومة فضولي لمعرفة ما جاء فيها من حكايات!

كانت ليلى في ذهول تام. و لقاؤها مع فراس هذا الصباح؟ كانت تتصرف على أساس أنه يعلم بأن المفكرة كانت عندها! و الآن فإنها ستثير شكوكه بتصرفاتها المتهورة تلك... هزت رأسها في استياء...

انحنت منال إلى الأيام لتضغط على كف ليلى في حنو و هي تواصل :
ـ أعلم أن ما جاء فيها سبب لك آلاما و هواجس و كوابيس... لكن من الجنون أن تصدقي أكاذيب حنان!

عقدت ليلى حاجبيها في دهشة و هتفت محتجة :
ـ ما الذي تقولينه؟ إنها مذكراتها؟!!!

هزت منال رأسها نافية و هي تقول :
ـ أنت لا تعرفين حنان... كانت مولعة بالقصص البوليسية و حس المغامرة لديها مرتفع للغاية! تحب نسج القصص الخيالية و تجعل نفسها بطلتها! مذكراتها هذه ماهي إلا قصص مختلقة لا أساس لها من الصحة!!

هتفت ليلى في انفعال :
ـ على أي أساس تحكمين ببطلان ما كتبته حنان هنا؟

أجابت منال في ثقة :
ـ أنا أعرف فراس جيدا... ليس بقادر على إيذاء نملة! فكيف يعذب زوجته؟ كما أعرف حنان جيدا و أعرف مقالبها السخيفة و ألاعيبها الطفولية! كانت مراهقة شقية...

لم يبد على ليلى الاقتناع :
ـ لكنك لا تعرفين شيئا عن ظروف زواجهما و طبيعة العلاقة بينهما! تصرفات فراس كانت متناقضة... يعاملها بلطف أمام الجميع... و ما إن ينفرد بها، حتى يصبح شخصا آخر تماما... وحشا عديم المشاعر!

تغيرت سحنة منال و رمقت ليلى بنظرة طويلة، ثم قالت فجأة :
ـ إلام تلمحين؟

سكتت ليلى مبغوتة... إلام تلمح؟ إلى أنه السبب في موتها؟ إلى أنه يتحمل مسؤولية ضياع شبابها؟ أليس الأمر واضحا؟ لكنها لا تملك دليل إدانة... حنان تقول بأنها ستجعل الأدلة ضده حتى تورطه... فأين هي تلك الأدلة؟

قاطعت منال أفكارها و هي تقول في حزم :
ـ إذا كنت تظنين بأن فراس يعاني من انفصام في الشخصية، فأنت مخطئة...

فوجئت ليلى بتعليقها، و كادت تنفجر ضاحكة... هل هذا كل ما خطر على بالك يا منال؟ انفصام في الشخصية؟! كم أنت مسالمة و بريئة!
لكن منال تابعت في جدية :
ـ حنان هي التي كانت تعاني من مرض نفسي مزمن...

رفعت ليلى حاجبيها في دهشة و اهتمام :
ـ حنان تعاني من مرض نفسي؟

هزت منال رأسها مؤكدة :
ـ كنت أشك في ذلك طوال الوقت، لكنها رفضت الخضوع لفحص طبيب نفسي... و فراس كان يعاملها بحرص حتى لا يخدش مشاعرها، و لا يشعرها بأنها مريضة... و بعد أن توفيت السيدة نجاة، أصابها اكتئاب شديد، و زاد الحمل من تأزمها... فانتقلت من الجناح الذي خصص لها و فراس بعد الزواج، لتعود إلى الغرفة الزرقاء... إلى هنا... حيث صارت تعتزل الجميع و تنفرد بمفكرتها الصغيرة السوداء، تخط فيها أفكارها الجنونية... تأكدت من ذلك بعد أن قرأت مذكراتها هذه...

هتفت ليلى في عدم تصديق :
ـ هل تقولين بأن حنان كانت مجنونة؟!!

ارتبكت منال و تلعثمت... كانت مترددة، لكنها قالت أخيرا محاولة تدارك موقفها :
ـ لا أقول بأنها مجنونة حقا... لكنها لم تكن طبيعية تماما، و أصبحت تصرفاتها شاذة... خاصة بعد انطوائها و اكتئابها المتواصل في الفترة الأخيرة... كانت على حافة الجنون لا محالة!

عاندت ليلى و هي تقول في حدة :
ـ لكن مرضها لم يثبت بفحص طبيب نفسي!

لوحت منال بكفيها أمام وجهها في استهانة و هي تقول :
ـ حسن، كما تشائين... ربما لم تكن مجنونة، لكن مذكراتها مجنونة قطعا... و ستكونين أكثر جنونا لو صدقت تخاريفها... صدقيني أنا أعرفها و أعرف فراس جيدا...

وقفت و هي تهم بالمغادرة، لكنها استدارت فجأة و اختطفت الكراس الذي كان لا يزال بين يدي ليلى و قالت و هي تتجه إلى الباب أمام دهشة ليلى :
ـ لكنني سأحتفظ بهذا... كي لا تزورك الكوابيس يا عزيزتي...

استوقفتها ليلى و هي تهتف في تحد :
ـ إذن لماذا أحرق فراس المفكرة إن كان متأكدا من براءته مما جاء فيها؟!

واجهتها منال للحظة و في عينيها نظرة ذات معنى... ابتسمت و هي تقول في هدوء :
ـ ليتجنب ردة فعل كهذه!

ثم توارت عن الأنظار... مخلفة وراءها ليلى... في قمة الحيرة...