المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ياقاتلى اين المفر ج21



Miss.Reem
25-04-2017, 11:30 PM
الجزء الواحد و العشرون




جلس فراس في سيارته الباسات البيضاء المتوقفة غير بعيد عن الساحل الصخري. لا يدري كيف وصل إلى هناك... لكنه خرج من المستشفى، و أخذ يقود السيارة بدون تركيز... ضرب بيده على مقود السيارة في حنق... لا شك أنها تعلم الآن! لماذا لم ينتظروا؟ لماذا لم يمهلوني حتى أحسم أمري؟ ضرب المقود بقبضته في عنف أكبر... أي موقف أنت فيه يا فراس!

أسند رأسه على الكرسي المريح و أغمض عينيه في إعياء... زفر بقوة و أفكار كثيرة تتداخل في رأسه... يحتاج إلى بعض الهدوء و التركيز... يحتاج إلى وقفة جادة مع نفسه حتى يفهمها...
استقام في جلسته من جديد، تناول الهاتف و كون رقما ما... انتظر لثوان قبل أن يصله الرد.

ـ آنسة هند... أرجوك، ألغي جميع مواعيد اليوم و أغلقي العيادة... لا يمكنني المجيء اليوم...

ـ هل كل شيء على ما يرام دكتور فراس؟

ـ بعض الأمور العائلية فقط لا غير... سيكون كل شيء على ما يرام...

أغلق الخط و سرح بتفكيره بعيدا... هل سيكون كل شيء على ما يرام حقا؟

نزل من السيارة و تقدم في اتجاه الشاطئ... إلى ملاذ الحيارى... كم تحمل يا بحر بين أمواجك من حكايا... لفح النسيم العليل وجهه فأطفأ شيئا من النيران التي تحتدم داخله... راح يتمشى بخطوات تائهة، مطرقا، و كفاه مختبئان في جيوب سرواله... كيف كانت ردة فعلها يا ترى؟ هل تعيش حيرة مثل حيرته... أم تراها حسمت أمرها منذ الوهلة الأولى؟ تذكر مشهد الهاتف... و باقة الورود... هناك رجل ما في حياتها، هذا مؤكد! لماذا تتعب نفسك إذن؟ الأمر محسوم منذ البداية!

لكن... لكن شيئا ما هناك... في صدره... يتحرك، يريد أن يعبر... ربما ينفجر قريبا... لكنه شيء مزعج، مزعج حقا... يفقده التركيز، يعبث بدقات قلبه، بألوان وجهه... شيء لم يعرفه من قبل... و لا يريد أن يعرفه! يرفضه بكل قوته... مثل جسم دخيل... يصارعه منذ أيام، دون أن ينتصر عليه...

تنهد بعمق... أنت الخاسر الوحيد في هذه اللعبة! خاسر قبل أن تبدأ... و لم يعد بإمكانك أن تنسحب...


*********


ألقت ليلى نفسها على الفراش في إعياء... لبثت تحدق في السقف بنظرات جامدة... كأنها لم تستوعب الأمر بعد... فراس؟! غير معقول... مستحيل... لماذا فراس بالذات؟! ربما لو لم تكن قرأت مذكرات حنان لكان الأمر مختلفا... لكنها لا تستطيع تجاهل ما قرأته عنه، حتى لو كان رأي جميع المحيطين به مختلفا، فهناك ذرة من الشك...

و عمر؟! عمر سيكون هنا غدا! أتى خصيصا للقاء والدها... ترك كل شيء وراءه و جاء من أجلها! لا يمكنها أن تخبره بكل بساطة بأنها خطبت لابن خالها الذي عرفته منذ أقل من أسبوعين! غطت وجهها بكفها و هي تحس بالضياع... يا إلهي، ألهمني الخيار الصواب...

لا تريد أن تخالف والدها الذي سبق واتفق مع خالها... و لكن في نفس الوقت، لا يمكنها أن تتجاهل مشاعرها، و خاصة بعد أن أعطت عمر الأمل، و وعدته بمحادثة والدها...

ترددت كثيرا قبل نزولها وقت العشاء. لا يمكنها أن تواجهه بهذه السهولة... لكنها تريد أن تبدو عادية، و غير متأثرة, ريثما تتوصل إلى حل للخروج من هذا المأزق. تقدمت في حذر و يدها على صدرها... أطلت من الباب. كان الجميع قد اتخذوا مقاعدهم حول المائدة، تقريبا... كرسيها و كرسي فراس كانا شاغرين. تنفست الصعداء و تقدمت بهدوء. حانت منها التفاتة إلى خالها... كان يطالعها و ابتسامة صغيرة على شفتيه. خفضت عينيها بسرعة. لم يبد أن أحدا من أفراد العائلة قد علم بالموضوع، عدا المعنيين بالأمر. انتهت من عشائها بسرعة... لم تأكل شيئا تقريبا، تظاهرت بتحريك ملعقتها حتى لا ينتبه خالها، ثم صعدت إلى غرفتها.

فراس لم يعد بعد... تذكرت ليلة البارحة. تلك اللحظات في الحديقة، كانت غريبة... أحست بقشعريرة تسري في جسدها حين تذكرت كلماته، نظراته، نبرة صوته... كل شيء فيه كان مختلفا... كان شخصا آخر... ليس هو نفسه، فراس الذي يصيبها بالرعب... كانت في حاجة إلى يد تطبطب عليها، و هو كان تلك اليد التي أعادت إليها الطمأنينة... تنهدت بعمق... أي سر عميق أنت يا فراس؟!


*********


وصلت إلى المستشفى بسيارتها... نزلت منها و هي تتأفف، ضلت طريقها و لبثت تقطع الطرقات جيئة و ذهابا حتى وجدت المستشفى أخيرا. و حركة المرور المزدحمة لم تكن ذات عون كبير لها. لكنها أصرت على الذهاب بمفردها، رغم محاولة أمين إقناعها باصطحابها... لا تريد أن تتحدث إلى أحد، لا تريد أن ترى أحدا... و لا تريد خاصة أن يسألها أحد عما بها... كانت تعبر الممر المؤدي إلى غرفة والدها حين رن هاتفها. تطلعت إلى الرقم المحلي المجهول في ارتياب. أجابت بصوت مرتعش و هي تتوجس خيفة :

ـ السلام عليكم

ـ و عليكم السلام و رحمة الله...

غاص قلبها بين ضلوعها. إنه هو! لقد وصل!
ـ حمدا لله على سلامتك...

كان صوته مفعما بالشوق، و الارتياح :
ـ شكرا لك ليلى... وصلت منذ ساعتين فقط...

ابتلعت لعابها بصعوبة. موقف صعب... رفعت عينيها فلمحت مأمون يخرج من غرفة والدها...

ـ هل من سبيل إلى لقاء والدك اليوم؟

كان مأمون يتقدم باتجاهها مبتسما... بادلته الابتسامة... عليها أن تنهي المكالمة بسرعة...
ـ حسن... أعطيك العنوان...

وقف مأمون ينتظرها ريثما أملت عنوان المستشفى على عمر. ثم أنهت المكالمة بسرعة...
ـ تبدين مرهقة...

لم تنم ليلة البارحة تقريبا... بضع ساعات بعد صلاة الفجر. بالكاد أراحت جسدها، قبل أن تستيقظ مجددا لتستقبل يوما جديدا، الله وحده يعلم كيف سينتهي! أجابت في لامبالاة :
ـ بعض الأرق فقط...

هز رأسه متفهما
ـ إن احتجت إلى أي شيء، اتصلي بي على الفور... لا تنسي ذلك!

ودعته بابتسامة امتنان و دخلت على والدها. لم يثر معها الموضوع من جديد... يمنحها الفرصة حتى تفكر بروية... ستقتنع بمفردها، هذا مؤكد... هكذا كان يفكر... أما هي فقد كانت تتطلع إلى هاتفها باستمرار في توتر ملحوظ... بعد نصف ساعة تقريبا، رن هاتفها من جديد... خرجت على الفور بعد أن استأذنت من والدها

ـ أنتظرك في مقهى المستشفى...

ذهبت إليه في خطوات متعثرة، تكاد دموعها تتساقط على خديها من ألمها. ماذا ستقول له؟

رأته يقف مستندا على طاولة المشرب الدائرية، و قد ولى ظهره للمدخل، بقامته الفارعة و منكبيه العريضين، يرشف قهوته في سكينة... وجوده يطغى على كل شيء في المكان... إنه هو، فارسها... أخذت نفسا عميقا و تقدمت في اتجاهه... أحس بوقع خطواتها فالتفت إليها مبتسما... دون أن تشعر، ارتسمت ابتسامة عذبة على شفتيها استجابة إلى نداء التفاؤل الذي نطقت به ملامحه المنشرحة...

ـ ليلى... كيف حالك...

لم تكن قد رأته منذ ذاك اليوم... حين عبر للمرة الأولى عن رغبته في الارتباط بها... و هاهو اللقاء يتكرر... في مكان غير ذاك المكان... و ظروف غير تلك الظروف...

ـ الحمد لله على كل حال...
قالت ذلك و هي تتنهد... آه لو تعلم يا عمر كم يحمل هذا القلب الصغير من العذاب... لا يمكنها أن تسترسل في الحديث و تفضي إليه بمكنونات صدرها...

ـ إذن والدك في المستشفى؟ عسى أن يكون بخير...

هزت رأسها نافية، و سالت العبرات على وجنتيها في هدوء. قالت بصوت تخالطه الغصة :
ـ أبي مريض... مريض جدا...

أخذ يدعك جبينه بأصابعه في توتر. لم يكن يتوقع أن يجدها في مثل هذه الحال. ربما لم يكن الوقت مناسبا... هل استعجل المجيء؟ نظر إليها في عطف، و قال مترفقا :
ـ شفاه الله... أنا آسف حقا... يبدو أن توقيتي ليس مناسبا... لكنني أريد أن أكون إلى جانبكم في هذه الظروف...

أضافت موضحة، لعله يفهم... أي توقيت آخر قد يعني فوات الأوان!
ـ إنه يموت يا عمر! أصابه المرض الخبيث في رئتيه!

نزل الخبر كالصاعقة عليه... ما الذي يمكنه أن يفعله من أجلها؟
ـ أنا آسف حقا...

بماذا يفيدها أسفك؟ كان مرتبكا، لا يجد الكلمات المناسبة ليخفف عنها... و هل هناك ما يخفف عنها في هذه الحال؟ فجأة رآها تترنح، تكاد تفقد توازنها... هب بسرعة ليدني منها المقعد القريب... ألقت بنفسها على المقعد في إعياء... لم تأكل شيئا منذ صباح الأمس، و البكاء و التفكير و السهاد... كل ذلك زاد من ضعفها. وقف عمر أمامها، يطالعها في قلق
ـ ليلى أنت بخير؟

هزت رأسها في صمت، لتطمئنه، ثم قالت بصوت هامس :
ـ أحس ببعض الضعف... لم آكل جيدا...

تناول على الفور فنجان القهوة الذي كان أمامه على طاولة المشرب. جلس على المقعد المجاور و قرّب الفنجان من فمها. قال بصوت حنون :
ـ اشربي هذا... القهوة الدافئة ستشعرك بتحسن...

تناولت من يده الفنجان و ابتسمت في ذبول
ـ شكرا لك...

في تلك اللحظة حانت منها التفاتة إلى مدخل المقهى... تسمرت مكانها حين رأت الشخص الذي يقف عند المدخل دون أن يبدي حراكا، كأنه تمثال من الشمع. كان فراس يطالعهما بنظرة غريبة، لكنها واثقة بأن فراس الذي أمامها هو فراس المرعب الذي عرفته... لا يمت بصلة إلى فراس الذي ظهر للحظات في ظلمة تلك الليلة...

كان فراس قد وصل إلى المستشفى منذ لحظات... إحساسه بواجبه تجاه السيد نجيب و معرفته الوثيقة بالطبيب المعالج جعلاه يعوده يوميا، ليطمئن على تطور حالته... خرج من مكتب الطبيب و هو يحس بألم شديد في رأسه. كلامه كان قاسيا و مخيفا... كان يفكر في ليلى و في مصيرها إن حصل مكروه لوالدها... أحس بحاجة إلى فنجان من القهوة، مع أنه ليس من مدمنيها... قدره ساقه إلى ذاك المكان، و في تلك اللحظات بالذات. ما إن خطا داخل المقهى، حتى أوقفته الصدمة في مكانه. رآها تجلس على أحد المقاعد، و شاب يجلس قبالتها، شاب آخر غير صاحب الباقة! يميل عليها و يدني فنجانه من شفتيها و هي تأخذه من يده مبتسمة! كان الموقف قاسيا... قاسيا جدا عليه... ليلى!! إنه لا يصدق ما تراه عيناه... ظننتك مختلفة... ظننتك طاهرة نقية... فتاة عفيفة، نادر وجودها في هذا الزمان! و لكن لا... تاه عنه أنها ابنة نجاة، و توأم حنان! مهما اختلفت المظاهر، فنفس الدم الفاسد يجري في عروقها! كان يجب يعلم أنها لا تختلف عنهن... كيف خدع فيها؟ كيف؟!!! والدها على فراش الموت و هي تجلس إلى الرجال في المقاهي، تشرب من يد هذا، و تتلقى الورود من ذاك!

لبث للحظات ينظر إليها في ذهول... لم يعد هناك أدنى شك... ذاك الشيء الذي في صدره، يجب أن يسكت إلى الأبد... إلى الأبد... تراجع بسرعة و غادر المكان لا يلوي على شيء...

انتبهت ليلى على صوت عمر و هو يقول ثانية :
ـ ليلى... أنت على ما يرام؟

هزت رأسها في ذهول... لكن عقلها سرح بعيدا... و عشرات من الأسئلة تتاقذفها...