المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ياقاتلى اين المفر ج29



Miss.Reem
25-04-2017, 11:41 PM
الجزء التاسع و العشرون






انطلقت السيارة بسرعة و هي تقل الراكبتين الجديدتين. التفتت ليلى إلى الخلف في توجس فلمحتعبر البلور الخلفي المظلل فراس الذي خرج راكضا قد وقف يلهث أمام البوابة الخلفية و هو يرى السيارة تبتعد عن القصر و تنحرف في شارع ضيق دون أن يقدر على اللحاق بها... و في لحظات كانت قد اختفت عن ناظريه دون أدنى أثر. تنهدت في إعياء و هي تزيح عنها الوشاح الأسود الذي كان يغطي معظم وجهها و يخفي ملامحها، في حين ربتت هالة على كفها مطمئنة و هي تبادلها ابتسامتها العذبة المريحة. طالعها مأمون من خلال المرآة العاكسة و قال و على شفتيه ابتسامة هادئة :

ـ ستكونين بخير...

ترددت نظراتها بين وجهي هالة و مأمون كأنها تبحث عن إجابة فيهما. لكن لم يبد أن أحدهما كان ينوي الكلام في تلك الآونة تاركين إياها تبحر في حيرتها. بعد دقائق قليلة كانت السيارة تخرج من مركز المدينة و تأخذ طريقا سريعة. طوت العجلات الأرض طيا في اتجاه الضاحية الجنوبية و خيم الصمت على الركاب الثلاثة طوال الرحلة. سرحت ليلى و هي تتأمل المناظر الطبيعية التي تحف الطريق السيارة من الجانبين، لكن أفكارا كثيرة كانت تشغلها و تمنعها من الاستمتاع بالمناظر الخلابة... هاهي قد فرت من منزل خالها. فهل كان ذلك القرار الصواب؟

انتبهت من تخيلاتها حين هدأت سرعة السيارة بدخولها إلى حي سكني. رغم كون المباني المحيطة كانت في حال جيدة، إلا أنه لم يخف عنها أن المكان لا يقارن بالحي الفاخر الذي يقع فيه قصر عائلة خالها، حيث كل الممتلكات من صنف القصور و تحيط بها حدائق شاسعة تخفي واجهات المباني التي تتوسط المساحة. أما هنا، فالمنازل الصغيرة البيضاء تتلاصق فيما بينها في حميمية و الحدائق الصغيرة التي تتقدم بعض الديار تتميز برونقها البديع و تصميمها الجذاب... استأنست نفسها بالمكان و بجماله البسيط و نظافة شوارعه الضيقة التي كانت السيارة تتقدم خلالها ببطء...

أخيرا توقفت أمام أحد المنازل. سبقتها هالة بالنزول و أخذت عنها حقيبتها الصغيرة. ما إن خرجت من السيارة حتى استنشقت هواءا رطبا ذا عبق مميز... لا شك أن البحر قريب! قادتها مضيفتها عبر ممر ضيق تحفه من الجانبين حديقة متواضعة، لكنها بدت في غاية الترتيب و التنسيق. تبعتها و هي تجيل عينيها في المكان في حياء في حين تأخر مأمون في الخارج ريثما يركن السيارة في وضع مناسب، فلم يكن هناك مرآب إضافي. ابتسمت هالة و هي تدخلها إلى قاعة الجلوس و قالت :
ـ أهلا بك في منزلي... صحيح أنه لا يشبه في شيء قصر آل القاسمي، لكنني سعيدة فيه... و آمل أن تجدي بيننا راحتك...

ابتسمت ليلى في امتنان و خجل و هي تتخذ مجلسها على أريكة قريبة. نادت هالة بصوت عال :
ـ فرح، هشام... تعاليا لتسلما على الخالة ليلى...

ثم التفتت إلى ليلى و هي تغمز بعينها قبل أن يظهر الأطفال :
ـ أحمد زوجي مسافر في رحلة عمل لبضعة أيام و لن يعود قبل نهاية الأسبوع... خذي راحتك تماما...

و ما هي إلا لحظات حتى كان الصغيران يقفزان أمامها و يقفان في احترام و هما يرددان بصوت طفولي مضحك كأنه وقع تلقينهما ما يجب قوله بصفة مسبقة :
ـ مرحبا خالة ليلى...

كانت فرح تقترب من السادسة أما هشام فهو لا يتجاوز الرابعة. كانا طفلين جميلين موفوري الصحة، يشبهان أمهما كثيرا. قبلت ليلى وجناتهما في حنو، ثم اتخذ كلاهما مجلسه على أحد جانبيها و لبثا يتأملانها في فضول طفولي بريء... جلست هالة قبالتها و هي تقول في عتاب رقيق :
ـ كان يجب أن تزوريني منذ زمن...

هزت ليلى رأسها و هي تعبث بأناملها في خجل بخصلات هشام القصيرة و قالت :
ـ أعلم أنني مقصرة، لكنني انشغلت في الفترة الماضية بحياتي الجديدة مع عائلة خالي و لم يخطر ببالي أن أتصل بك... كان يجب أن أفعل...

في تلك اللحظة، دخل مأمون القاعة. التفتت إليه هالة و قالت و هي تقوم من فورها :
ـ سأعد لكما الشاي حالا...

ثم التفتت إلى الصغيرين محذرة قبل أن تبتعد في اتجاه المطبخ :
ـ و أنتما... اجلسا هادئين!

جلس مأمون في ارتباك على الأريكة المقابلة و لبث مطرقا لبضع ثوان قبل أن يرفع رأسه و علامات الحزن واضحة على محياه :
ـ عظم الله أجرك... في المرحوم...

تجمعت الدموع في عيني ليلى و هي تهمس في صوت ضعيف :
ـ و أجرك... كان والدك مثلما كان والدي...

هز رأسه ببطء و تنهد في ألم و هو يضيف مداريا دموعه :
ـ فقدت والدي مرتين... مرة بوالدي الحقيقي... و مرة بعمي نجيب... رحمهما الله...

خيم عليهما صمت حزين للحظات قبل أن يستطرد مأمون و هو يرفع رأسه :
ـ كنت عنده البارحة... وصلت بعد دقائق من رحيلك...

نظرت إليه في اهتمام و هي تسأل في لهفة :
ـ هل شهدت لحظاته الأخيرة؟

هز رأسه علامة الإيجاب وعض على شفته السفلى و هو يسترجع ذكريات الأمس القريب :
ـ كان يحس بدنو أجله، لذلك استبقاني إلى جانبه لبعض الوقت حتى... يوصيني عليك... لكنني لم أستطع أن أبلغك الخبر بنفسي بعد رحيله، فلم تكن نفسيتي مناسبة أبدا... لذلك طلبت من الطبيب أن يتصل بالعائلة...

تنهد من جديد، ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يواصل بصوت جاد :
ـ لعلك تتساءلين عن سبب إحضارك إلى هنا و عن وصية والدك في لحظاته الأخيرة... لكن قبل أن أحدثك عن ذلك، يجب أن أقص عليك كل شيء بالتفصيل، منذ اتخاذ عمي نجيب قرار سفرك للإقامة عند خالك...

ضمت ليلى كفيها المرتجفتين في حجرها و رنت إليه في انتباه شديد مصغية بكل جوارحها. عقد مأمون حاجبيه و هو يستطرد :
ـ كل شيء بدأ منذ ثلاث سنوات تقريبا، بعد وفاة حنان بفترة وجيزة. لم يكن عمي نجيب قد حضر جنازتها، و تألم كثيرا لاتصال السيد نبيل المتأخر. فهو و إن كان قد ابتعد عنها منذ سنوات طويلة إلا أنه يظل والدها و من حقه توديعها... لبث حزينا لفترة طويلة، كأنه يراجع نفسه ويلومها على ما فرط فيه من تخل عن حنان حتى ألقت بنفسها إلى الانتحار... لكنه سرعان ما استعاد هدوءه و عاد إلى حياته العادية... بعد بضعة أسابيع تلقى اتصالا من مجهول... يخبره بأشياء غريبة عن ابنته الراحلة...

هتفت ليلى على الفور في دهشة :
ـ اتصال من مجهول؟

استرجعت بسرعة ما رواه فراس عن الاتصال الذي ورده من شخص مجهول الهوية يدعوه إلى اللحاق بحنان في الحانة الشعبية. تعلقت نظراتها بشفتي مأمون حاثة إياه على المواصلة... أصبحت تنتظر مفاجآت أكبر من حديثه.

ـ المتصل لم يرض أن يكشف عن شخصيته الحقيقية، و كان من الواضح أنه يستعمل أداة لتغيير الصوت إمعانا في الحيطة و الحذر... كان يتحدث عن مؤامرات و جرائم قتل و أشياء أخرى لم يفهمها عمي نجيب منه جيدا، لكن ما شده في كلامه هو ادعاؤه أن حنان لم تنتحر بل كانت ضحية جريمة قتل مدبرة للخلاص منها... بل أن المتصل اتهم أشخاصا بعينهم...

انخفض صوت مأمون ليصبح أقرب إلى الهمس و هو يقول :
ـ من العائلة...

تسارعت أنفاس ليلى في توتر و هي تذكر تحليلات سحر و تحذيراتها... رباه، هل تكون محقة؟!!

واصل مأمون بوضوح أكبر و هو يعقد حاجبيه في تركيز محاولا تذكر كل التفاصيل :

ـ عمي نجيب لم يرد تصديق الكلام الذي سمعه مع أنه كان مثيرا للشكوك ـ خاصة مع التفاصيل الدقيقة التي ذكرها المتصل و التي ليس من الممكن أن يعرفها إلا شخص قريب جدا من حنان و من العائلة ـ لكن تعوده على الاتصالات السخيفة المشاغبة إضافة إلى أن علاقته بالعائلة كانت شبه مقطوعة بعد طلاقه، جعلاه يخمن أن شخصا ما يحاول استغلال وفاة ابنته لإدخال بعض البلبلة على حياته... و سرعان ما نسي أمر الاتصال برمته مع انشغاله بأعماله الكثيرة... و مضت فترة طويلة بعد ذلك دون أن يفكر في الموضوع مجددا أو يذكره لأحد، و لم يسمع عن تلك القصة شيئا جديدا... و منذ قرابة ستة أشهر، وصلته دعوة من شركة أجنبية تمتلك فرعا هنا في بلادنا و تعرض عليه صفقة ما... فسافر إلى هنا لبضعة أيام.

هزت ليلى رأسها موافقة و هي تقول :
ـ نعم، أذكر جيدا تلك السفرة...

ـ في اليوم الأخير من إقامته في المدينة، خطر بباله أن يعيد العلاقات و يتصل بالسيد نبيل. كان بينهما لقاء وجيز، حضرته معهما... بدا فاترا في البداية لكن سرعان ما اتصل بينهما الحديث و تحدثا في أمور المال و الأعمال و عن إمكانية التعامل بينهما... و في سياق الحوار، تحدث عمي نجيب عنك. فبهت السيد نبيل الذي لم يكن يعلم حتى تلك الساعة بوجود ابنة ثانية لشقيقته المتوفاة و أبدى رغبته في التعرف عليك و توثيق العلاقات العائلية من جديد... و بقي الحديث معلقا دون أن يعد عمي نجيب بشيء...

سرحت بنظراتها و هي تذكر كلام الخالة مريم عن والدتها... كانت حريصة على نسيان كل ما يتعلق بها، حتى أنها أخفت حقيقة وجودها عن الجميع. لم تكن تعني شيئا بالنسبة إليها!

ـ كان من المقرر أن نسافر إلى فرنسا في مساء ذاك اليوم. قبل مغادرة الطائرة ببضع ساعات، تلقى عمي نجيب اتصالا جديدا على رقمه الدولي من الشخص المجهول عينه و أعاد على مسامعه نفس الكلمات... هذه المرة كان عمي نجيب أكثر انتباها و قد بدأت تساوره الشكوك، فأعلمه بوجوده في المدينة و برغبته في لقائه في نفس اليوم قبل موعد الطائرة حتى يستمع إلى روايته و يبرهن على صدق كلامه... كان الموعد في صالة استقبال الفندق الذي أقمنا فيه طيلة فترة الزيارة للبلاد. لم يكن عمي نجيب قد أخبرني بشيء من تفاصيل الحكاية إلى ذلك الحين، فنزل بمفرده إلى البهو و لبث ينتظر وصول الزائر المجهول... لكن الوقت مر بسرعة و اقترب موعد الطائرة دون أن يظهر أحد. و حين كنا نسلم مفاتيح الغرف إلى موظف الاستقبال، أخرج من الدرج مظروفا و أخبر عمي نجيب بأن شخصا ما طلب منه تسليمه إياه حين مغادرته... فض عمي نجيب المظروف على الفور فوجد بداخله بضعة أوراق ممزقة ألقى عليها نظرة سريعة ثم أخفاها عني و لم يقل شيئا عنها حتى عودتنا إلى فرنسا...

قاطعته ليلى في اهتمام :
ـ ألم يطلعك على ما في تلك الأوراق؟ أو عن الشخص المتهم في جريمة القتل؟

هز مأمون رأسه نافيا و هو يضيف :
ـ كان حتى تلك اللحظة يعتزم الاحتفاظ بالأمر لنفسه و أخفى شكوكه عن الجميع... لكن ظهور المتصل المجهول في ذلك اليوم بالذات جعله يشك في علاقته بالعائلة... فهو بلا شك قد علم بلقائه بالسيد نبيل و اتصل به على الفور ليذكره بالقصة القديمة... و بعد عودته إلى فرنسا ظلت الحكاية تؤرقه لفترة طويلة و شكوكه تزداد يوما عن يوم... ثم حصل أن أخذت صحته تتدهور، و بدأت مخاوف جديدة تشغله... مخاوف بشأن مستقبلك و حياتك من بعده... و كان في الأثناء قد تبادل بضعة اتصالات مع السيد نبيل و في كل مرة كان خالك يسأل عنك و يطلب منه اصطحابك في زيارة مقبلة... و كان اليوم حاسم حين ذهب للقيام بالكشف الصحي بعد أن ازداد سعاله و هاجمته آلام في الصدر... في ذاك اليوم عاد إلى الشركة متعبا و أغلق على نفسه المكتب لساعات طويلة ملغيا جميع ارتباطاته و مانعا أي نوع من الاتصال... ظللت في مكتبي لوقت متأخر، فلم أكن أستطيع المغادرة و أتركه على تلك الحال، لأنه لم يتعود أن يخفي عني شيئا من أمور العمل... و كأنه قد علم بتواجدي في الشركة رغم تأخر الوقت، طلبني إلى مكتبه و أغلق الباب من جديد... و بصوت حزين و حازم أطلعني على مشروعه الجديد...

تابعته ليلى في ترقب و نفاد صبر، فتابع :
ـ أخرج من مكتبه المظروف الذي استلمه من موظف الاستقبال منذ أشهر و وضع الورقة الممزقة أمام عيني... كانت ملطخة ببقع متناثرة من الدماء و قد كتبت عليها بضع كلمات مبعثرة... بخط مرتجف غير ثابت...

ـ أية كلمات؟

رفع مأمون عينيه إلى وجهها المتشنج و ملامحها المضطربة في تردد، ثم قال بعد صمت قصير :
ـ بعض الأسماء... لكنها ليست واضحة كفاية... الظرف موجود... يمكنك الاطلاع عليه حين نذهب لاستلام حاجيات عمي من المستشفى...

عقد ذراعيه أمام صدره هو يواصل :
ـ كان الأمر محيرا بالفعل، و لم يكن هناك دليل على أن حنان كتبت الورقة قبل وفاتها و لا على أنها كتبت اسم قاتلها... لكن بدا أن صاحب الاتصال أراد إقناع عمي نجيب بذلك. بل المثير للشك هو أنه لم يسلم "الدليل" إلى الشرطة و احتفظ به كل تلك السنين حتى يرسله إلى والد الضحية التي لم يكن له علاقة بها يوما... كان كل ذلك مريبا. لكن عمي نجيب كان متأثرا بما حصل لابنته، و بدأ يقتنع بأن انتقامه لها و كشف حقيقة ما حصل معها سيكفر عن ذنبه تجاهها و يخفف عنه عذاب الضمير... و مع إحساسه بقرب أجله فقد أصبح شغله الشاغل هو اكتشاف الحقيقة... لذلك انقاد بسهولة إلى تلك الأفكار و طلب مساعدتي في تنفيذ المخطط الذي وضع خطوطه العريضة بنفسه...

أطرقت ليلى و همست في خفوت :
ـ و أنا كنت جزءا من مخطط الانتقام...

هز مأمون رأسه بشدة علامة النفي و هو يضيف :
ـ لم تكوني كذلك في البداية... كانت الخطة تقتضي أن يتظاهر عمي نجيب باهتمامه بمشروع شراكة مع صهره ثم يرسلك للإقامة عند خالك... كان يريد توجيهك للبحث عن المعلومات التي يريدها دون أن ترتابي في شيء... لكن عوامل أخرى تدخلت لتسير الأمور بشكل مختلف... السيد نبيل فاتح عمي نجيب في موضوع المصاهرة... و وقع اختياره على فراس! لم يكن يريد تعريضك للخطر... لكنه كان يثق في ذكائك و نباهتك... و اعتقد أنك ستتمكنين من اكتشاف أشياء كثيرة بوجودك داخل العائلة... و قد وجد أن زواجك من فراس سيكون الطريقة المثلى لتحقيق الهدف...

قاطعته ليلى في احتجاج و قد لمعت الدموع في عينيها من جديد :
ـ لكن كيف... كيف يفكر في تزويجي من فراس و هو يشك في تورط أحد أفراد العائلة في قتل حنان؟ كان يجب أن يحدثني بكل شيء! كان يجب أن يوضح الأمر لي أكثر! كيف يضعني في موقف كهذا؟!!

أطرق مأمون و هو يجيب في هدوء :
ـ زواجك من فراس كان سيجعلك أقرب إلى العائلة... و الأهم، أقرب من فراس الذي كان زوج حنان و أعلم أفراد العائلة بحالها... و ربما كان فراس أكثر من يثق فيه عمي نجيب من بين أفراد العائلة، لذلك لم يجد ضررا في زواجك منه ـ رغم كل المخاطر التي قد تنتج عن هذا الارتباط ـ و ربما لم يكن في نيته أن يمضي إلى نهاية المطاف و الارتباط الرسمي، بل ربما كان ليطلب منك الانسحاب حالما يتوصل إلى النتيجة المبتغاة... كما أنه كان ينوي إطلاعك على كل شيء في مرحلة متقدمة من تحقيقه... حين يحتاج مساعدة حقيقية من داخل القصر...

رفع عينيه و أضاف في حرارة :
ـ صدقيني يا ليلى... لم أكن موافقا على كل هذا... لكنني لم أملك أن أقف في وجهه و أنا أرى كل ذلك التصميم منه... و قررت أن أقوم بتحقيقي الخاص و بطريقتي الخاصة... حتى تكوني في أمان...

هتفت ليلى مجددا و هي لا تزال تحت وقع الصدمة :
ـ لكن كان يجب أن يعلمني بكل شيء! كيف يخفي عني أمرا هاما كهذا؟ كيف يتركني أتخبط وسط شكوك غامضة و هو يمسك ببعض خيوط الحقيقة؟!

رفع مأمون صوته و هو يقول مؤكدا :
ـ لم يرد أن يعلمك بشأن الاتهامات التي وصلته عن طريق المتصل المجهول لأنه لم يكن يثق في صحتها... و كان من الممكن أن توجهك توجيها خاطئا... كما أنه لم يرد إرباكك قبل أن تتعرفي على أفراد العائلة و تتقربي منهم... كان واثقا من أنك لن تمانعي في التضحية إن علمت بالهدف من وراء ذلك... فقد كانت رغبته الصادقة في التكفير عما جناه في حق حنان مسيطرة على تفكيره...

غطت وجهها بكفيها تخفي العبرات التي سالت على وجنتيها في سخاء، و هي تردد بصوت متقطع :
ـ لماذا فعلت ذلك يا أبي؟ لماذا؟!

في تلك اللحظة، دخلت هالة و هي تعلن بصوتها الدافئ المبحوح :
ـ الشاي حضر...

لكن سرعان ما تقلصت ابتسامتها و هي ترى حال ليلى المؤثرة. وضعت الطبق على المائدة القريبة و سارعت بالجلوس بقربها. احتضنتها في حب و هي تهتف :
ـ ما بال صغيرتي؟ هوني عليك يا حبيبتي...

ثم رفعت رأسها إلى مأمون و هتفت في استياء :
ـ مأمون! بم أزعجتها؟

وقف مأمون في ارتباك و هم بالانصراف دون أن يعلق. كان قد تجاوز باب قاعة الجلوس حين استوقفته ليلى و هي تهتف بصوت مختنق :
ـ انتظر...

استدار ليواجهها في صمت، فأضافت و هي تشير إليه بالجلوس :
ـ أرجوك، أخبرني بكل شيء... و لا تخف عني شيئا واحدا...

أومأ برأسه موافقا و هو يعود أدراجه إلى الأريكة. جلس في هدوء و لبث صامتا ينتظر أن تتمالك نفسها و تستعيد سكينتها... ثم قال :
ـ ما حصل هو أنه أرسلني إلى هنا قبل مجيئك بأيام قليلة، حتى أقوم ببعض التحقيقات عن الشركة... و عن العائلة... عرفت بسهولة أن الشركة رغم نجاحها تمر بين الحين و الآخر باضطرابات مالية، و السيد نبيل يبحث باستمرار عن مساهمين جدد و مصادر تمويل. لذلك فقد كان عرض عمي نجيب مغريا جدا بالنسبة إليه. و استوثقت من أن عرض المصاهرة لم يكن إلا لضمان ديمومة العلاقة و استمرارها...

هزت ليلى رأسها في أسى تسأله المتابعة فقال :
ـ لكنني لم أتوقف عند ذلك الحد، بل استغللت زياراتي المتكررة إلى الشركة حتى أبحث عن أسباب هذه الاضطرابات المتكررة، مع أن السوق تعتبر مستقرة نسبيا و الأسعار في ارتفاع مستمر... لم تكن عملية البحث سهلة، لذلك كان علي الاستعانة بأشخاص من داخل الشركة... أو ممن يمكنه التجوال بين جميع مكاتبها دون رقابة... و هنا التقيت رجاء عبد الفتاح... رجاء هي ابنة شقيقة زوجة السيد نبيل الثانية. و هي كثيرة التردد على الشركات و لها علاقات متشعبة مع جميع الموظفين. كانت هي من لاحظني في البداية، فأثار اهتمامها تواجدي هناك مع أن الشراكة الفعلية لم تبدأ بعد... و بعد بضعة محادثات قصيرة اكتشفنا أننا نبحث عن نفس الشيء. لكن الفرق هو أن رجاء كانت تبحث بعشوائية و دون خطة مسبقة، في حين كنت في حاجة إلى معلومات معينة... و هي كانت قادرة على إيجاد تلك المعلومات! لا أعلم أي الأساليب اتبعت... لكنه كان سريعا و مجديا! و خلال الأسابيع القليلة الماضية اكتشفنا أشياء رهيبة!!

انحنى إلى الأمام و هو يقول حدة :
ـ فساد كبير و صفقات مشبوهة و تبييض أموال و أشياء كثيرة أخرى!!

حدقت فيه ليلى مصدومة، فتابع مؤكدا :
ـ القضية معقدة جدا، و الشبكة كبيرة... و لولا مهارة رجاء لما وصلنا إلى الخيط الذي قادنا إلى كل هذا... لم أكن قد حصلت على الأدلة إلا مساء البارحة، فذهبت إلى المستشفى لإعلام عمي نجيب بكل ما حصل... وجدته في حالة سيئة جدا... و رغم ألمه فقد أصر على قراءة التقرير كاملا... بعد ذلك، رفع رأسه مبتسما و أخبرني بأنك كنت على حق حين رفضت الزواج من فراس... و من ألطاف الله أن عقد الشراكة لم يوقع بعد، مع أن الإجراءات قد قطعت شوطا هاما... لذلك لا يزال بإمكاننا أن ننسحب دون أضرار. خالك سيصر على إتمام العقد على أنها رغبة المرحوم و لم يكن بإمكاني أن أتحدث إليك و أنت بينهم، و ربما كنت ستوافقين على إمضاء العقد و المضي في الإجراءات دون دراية بالحقيقة... لذلك كان يجب أن أخرجك من هناك...

ابتسم ابتسامة باهتة و هي يضيف :
ـ كانت مخاطرة حقيقية، لكنك الآن في أمان... إن شاء الله...

فاجأته ليلى بسؤالها :
ـ و ماذا عن قاتل حنان؟

التمعت في عينيه نظرة واثقة و اتسعت ابتسامته و هو يقول مطمئنا :
ـ سنصل إليه... قريبا إن شاء الله...