ام سارة**
23-08-2017, 01:26 PM
https://forum.hawahome.com/clientscript/ckeplugins/picwah/images/extra5.png
فضيلة عشر ذي الحجة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، والقائمين بالقسط من الناس، أما بعد:
إن تعظيم ما عظمه الله تعالى، وتفضيل ما فضله رب السموات والأرض هو دأب الصالحين من الخلق، ذلك التعظيم الذي هو من تقوى القلوب قال تعالى:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [الحج: 32].
قال القرطبي - رحمه الله -: (الشعائر جمع شعيرة وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومنه شعار القوم في الحرب أي: علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم، فيكون علامة فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك) [تفسير القرطبي: 12/ 56].
قال ابن سعدي - رحمه الله -: (فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله) [تفسير السعدي: 538].
ومن نافلة القول أن نقول: أن ذلك التعظيم والتشريف لابد أن يكون مقيداً بقيد الشرع، بالإتباع لا بالابتداع.
أحبتي: لقد اصطفى الله سبحانه: (صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان، والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به، عند أهل الفهم وأهل العقل) [تفسير ابن كثير: 2/ 356].
وهذه الصفايا ومواسم الخير، لمن أفضل ما يسعى العبد لاغتنامها بمزيد طاعة وعبادة وعمل صالح، عسى أن يوفق العبد إلى أن يصاب بنفحة من نفحات الخالق جل وعلا فيأمن من لفحات النار ولهيبها.
يقول ابن رجب - رحمه الله -: (ما من هذه المواسم الفاضلة، موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُتَقَرَّبُ بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات) [لطائف المعارف: 6].
وها قد أقبل موسم خير، وأيام معظمة مشرفة، هي محل إجماع بين أهل العلم على فضلها وشرفها حتى أن البعض منهم قد أفردها بكتاب ومصنف أذكر منهم: الإمام الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني وسماه [فضل عشر ذي الحجة]، وكذلك الحافظ محمد بن ناصر الدمشقي وسماه: [فضل عشر ذي الحجة ويوم عرفة وإذا وافق يوم جمعة].
قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - على هذه الأيام العشر: (لما كان الله - سبحانه وتعالى - قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج).
إنها الأيام العشر من ذي الحجة، التي - كما سنرى - قد تضافرت الأدلة وتعاضدت على شرفها ومزيد فضلها وكونها من مواسم الخير ذات المزية والفضيلة، التي لا بد أن يغتنمها الإنسان ويخصها بمزيد عبادة وعمل صالح.
إن شهر ذي الحجة هو الشهر الثاني من الأشهر الحرم حسب الترتيب النبوي، وهو الشهر الثالث من أشهر الحج، كما تختم به السنة القمرية فهو الشهر الثاني عشر منها.
ويقال: (الحجة) بكسر الحاء وفتحها، قال ابن كثير - رحمه الله -: ([الحجة] بكسر الحاء، قلت: وفتحها، سمي بذلك لإقامتهم الحج فيه) ويجمع على (ذوات الحج) [تفسير ابن كثير: 2/ 355].
وبه تسمى السنة كلها فيقال مثلاً: تسع حجج، وعشر حجج، وتسعون حجة وهكذا.
والكلام في فضل عشر ذي الحجة يتناول، فضلها في نفسها، وفضل العمل فيها، حيث قد دلت الأدلة - كما سيأتي -: (على أن العمل في أيامه - ذي الحجة - أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله هو أفضل عنده)
[ابن رجب: لطائف المعرف: 276].
وهذا العشر قد امتازت عن غيرها من الأيام وشُرفت عليها لاجتماع أمهات العبادة فيها يقول ابن حجر - رحمه الله -: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: (الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج) ولا يتأتى ذلك في غيره، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال) [فتح الباري: 2/ 460].
وهذه الأيام المباركة يظهر فضلها من جهتين:
الأولى: كونها داخلة ومتعلقة بغيرها من مواسم الخير والفضل أعني: (الأشهر الحرم، وأشهر الحج) فهي من أشهر الحج، ومن الأشهر الحرم أيضاً، لهذا فالأدلة الدالة على أحكام وخصائص وفضائل أشهر الحج والأشهر الحرم تتناول الأيام العشر من ذي الحجة من باب أولى.
الثاني: خاص بها وخاصة بعض أيامها وأعني: (يوم عرفة، ويوم النحر).
ولا بأس بأن نتكلم ولو بشكل مجمل عن تعلق هذه الأيام بغيرها من مواسم الخير لنعلم ما لهذه الأيام من فضل وتشريف مع التطرق لبعض أحكامها الفقهية.
وأبدأ بالأشهر الحرم، فما هي الأشهر الحرم: المراد الأشهر الحرم هي التي ورد ذكرها في قول الله تعالى:( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وهن: (رجب مضر، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم).
وهذا التحديد تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " [البخاري].
وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وقتادة، وهو أيضا قول عامة أهل التأويل.
وباستعراضنا لبعض فضائل الأشهر الحرم نعلم ما لهذه الأيام من فضيلة ومزية:
إن الأشهر الحرم قد فضلها الله على سائر شهور العام، وشرفهن على سائر الشهور فخص الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصهن بالتشريف، وذلك نظير قوله تعالى: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ) [البقرة: 238]
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خص الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم).
وعن قتادة: (الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم في كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء).
قال قتادة: (فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل).
ومما تختص به الأشهر الحرم من أحكام ويدخل فيه الأيام العشر من ذي الحجة تبعاً:
1 - حرمت القتال فيها: كان القتال في الأشهر الحرم محرما في الجاهلية قبل الإسلام، فكانت الجاهلية تعظمهن وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه أو أخيه تركه.
وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرمون القتال فيها، ثم جاء الإسلام يؤيد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ) [البقرة: 217].
ثم هل نسخ القتال في الأشهر الحرم؟
اختلف أهل التأويل في الآية التي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) [البقرة: 217]
هل هو منسوخ أم ثابت الحكم؟
فقال بعضهم: إن ذلك حكم ثابت، لا يحل القتال لأحد في الأشهر الحرم؛ لأن الله جعل القتال فيه كبيراً.
وقال بعضهم: هو منسوخ بقول الله عز وجل: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ورد ذلك عن الزهري وعطاء بن ميسرة وصوبه الإمام الطبري - رحمهم الله جميعاً - ومن أراد التوسع فليراجع كتب التفسير.
2 - تغليظ الديات فيها: اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها، فالشافعية والحنابلة يرون تغليظ الدية للقتل في الأشهر الحرم.
وعند الحنفية والإمام مالك لا تغلظ الدية.
ومن قال بالتغليظ اختلف في صفتها، ومن أراد التفصيل فليرجع كتاب الديات عند أصحاب المذاهب.
ثانياً: أشهر الحج، ما هي أشهر الحج: جمهور الفقهاء على أن أشهر الحج هي: (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة)
لأن قوله تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) [البقرة: 197]
مقصود به وقت الإحرام بالحج، لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر، فدل على أنه أراد به وقت الإحرام.
وقد روي ذلك عن العبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير رضي الله عنهم.
ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات، وهذا يدل على أن المراد من الآية شهران وبعض الثالث لا كله، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله.
وذهب المالكية إلى أن أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
والمالكية - وإن كانوا يقولون إن أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة - إلا أن مرادهم بذلك أن وقت الإحرام يبدأ من شوال إلى فجر يوم النحر، أما الإحلال من الحج فيمتد إلى آخر ذي الحجة.
ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحج: ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحج، على ما ذكره ابن رشد، هي جواز تأخير طواف الإفاضة عند المالكية إلى آخر ذي الحجة، فإن أخره إلى المحرم فعليه دم.
وعند الحنفية إن أخره عن أيام النحر كان عليه دم.
أما عند الشافعية والحنابلة فإن آخره غير موقت، بل يبقى ما دام حياً ولا دم عليه.
وبناء على ما تقدم فهذه الأيام - العشر - المباركة تدخل في ما يعرف بالميقات الزماني للإحرام بالحج:
فقد ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم إلى أن وقت الإحرام بالحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وذهب مالك إلى أن وقت الحج شوال وذو القعدة وشهر ذي الحجة إلى آخره. وليس المراد أن جميع هذا الزمن الذي ذكروه وقت لجواز الإحرام، بل المراد أن بعض هذا الزمن وقت لجواز ابتداء الإحرام، وهو من شوال لطلوع فجر يوم النحر وبعضه وقت لجواز التحلل، وهو من فجر يوم النحر لآخر ذي الحجة.
وعلى هذا فالميقات الزماني بالنسبة للإحرام متفق عليه، إنما مرتب على مذهب المالكية جواز تأخير الإحلال إلى آخر ذي الحجة.
والأصل للفريقين قوله تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) [البقرة: 197]
فالجمهور فسروا الآية بأن المراد شهران وبعض الثالث. واستدلوا بالآثار عن الصحابة.
كما يدل لهم أن أركان الحج تؤدى خلال تلك الفترة.
وأما المالكية فدليلهم واضح، وهو ظاهر الآية ; لأنها عبرت بالجمع " أشهر " وأقل الجمع ثلاث، فلا بد من دخول ذي الحجة بكماله.
ثم اختلف الجمهور في نهار يوم النحر هل هو من أشهر الحج أو لا؟.
فقال الحنفية والحنابلة: هو من أشهر الحج.
وقال الشافعية: آخر أشهر الحج ليلة يوم النحر. وهو مروي عن أبي يوسف. وفي وجه عند الشافعية في ليلة النحر أنها ليست من أشهر الحج.
والأول هو الصحيح المشهور. ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب الحج في كتب أصحاب المذاهب الفقهية.
علاقة أشهر الحج بالأشهر الحرم: تبين لنا مما تقدم أن أشهر الحرم هي: (رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم).
وعلى ذلك فأشهر الحج تشترك مع الأشهر الحرم في ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، أما شوال فهو من أشهر الحج فقط، ورجب وبقية ذي الحجة من الأشهر الحرم فقط.
وتحديد أشهر الحج مقصود به أن الإحرام بالحج يتم في هذا الوقت، ولذلك يرى الحنفية والمالكية والحنابلة كراهة الإحرام بالحج في غير هذا الوقت، والمراد عند الحنفية بالكراهة كراهة التحريم، وبذلك صرح القهستاني.
أما الشافعية فلا ينعقد عندهم الإحرام بالحج في غير هذا الوقت، وإنما ينعقد عمرة لأن الحج عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد إحرامه بالنفل.
ونذكر الآن ما ورد بخصوصها من فضائل ومزايا وخصائص:
لقد دل كتاب الله سبحانه على فضل ومزية العشر الأُول من ذي الحجة على غيرها من أيام العام، ومن ذلك قوله تعالى:
1 -( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) [الفجر: 1 - 5].
فقد أقسم الله تعالى بالليالي العشر من ذي الحجة مع ما أقسم به من مخلوقاته في سورة الفجر، وكما هو معروف فإن قسمه سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته يعد تشريفاً منه، وتعظيماً لذلك المقسوم به.
وإن اختلف المفسرون على المراد بالليالي العشر إلا أن أقوال المفسرين الأثبات تجمع على أنها عشر ذي الحجة قال الطبري - رحمه الله -: (والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه وأن عبد الله بن أبي زياد القطواني حدثني قال ثني زيد بن حباب قال أخبرني عياش بن عقبة قال ثني جبير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله قال: " والفجر وليال عشر قال: عشر الأضحى") [تفسير الطبري: 30 / 169].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إن الليالي العشر التي أقسم الله بها هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة) [تفسير الطبري: 30/ 168].
و عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: ((وليال عشر) أول ذي الحجة إلى يوم النحر) [تفسير الطبري: 30/ 169].
وعن مسروق - رحمه الله - قال: (عشر ذي الحجة وهي التي وعد الله موسى) [تفسير الطبري: 30/ 169] وهو مروي أيضاً عن: عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد من السلف والخلف.
وعن مجاهد قال: (ليس عمل في ليال من ليالي السنة أفضل منه في ليالي العشر وهي عشر موسى التي أتمها الله له).
وعن مسروق قال: (ليال العشر هي أفضل أيام السنة)[تفسير الطبري: 30/ 169].
وعن ابن عباس قال: ((والفجر) يريد صبيحة يوم النحر لأن الله تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا بعده لأن يوم عرفة له ليلتان ليلة قبله وليلة بعده فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر فجر يوم النحر وهذا قول مجاهد) [تفسير القرطبي: 20/ 39].
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العشر عشر الأضحى والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر) قال ابن كثير: (وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة والله أعلم) [تفسير ابن كثير: 4/ 506].
2 - وقال أيضاً:( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) [الحج: 28].
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (الأيام المعلومات أيام العشر) وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به.
وقال ابن كثير - رحمه الله -: (وروي مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد وقتادة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وعطاء الخرساني، وإبراهيم النخعي وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل) [تفسير ابن كثير: 3/ 217].
3 - قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203].
على قول من قال أن يوم النحر منها، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (هي ثلاثة: يوم النحر، ويومان بعده أذبح في أيهن شئت وأفضلها أولها) [تفسير ابن كثير: 1/ 246].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة والمعدودات أيام التشريق) قال ابن حجر - رحمه الله -: (إسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق) [فتح الباري: 2/ 458].
والمشهور فيها - أي الأيام المعلومات - أنها أيام التشريق.
4 - وقال الله:( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف: 142].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة) [تفسير القرطبي: 7/ 274].
وعن مجاهد قال: (ذو القعدة، وعشر ذي الحجة) [تفسير الطبري: 9/ 47].
وعن مسروق (وأتممناها بعشر) قال: (عشر الأضحى)[تفسير الطبري: 9/ 48].
أدلة فضلها من السنة:
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه " قالوا: ولا الجهاد؟ قال: " ولا الجهاد. إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيءٍ) [البخاري برقم: 969].
قال ابن رجب - رحمه الله -: (ثم استثنى جهاداً واحداً هو أفضل الجهاد، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: " من عقر جواده وأهريق دمه "وصاحبه أضل الناس درجة عند الله، سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو يقول: اللهم أعاطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال: " إذن يعقر جوادك، وتستشهد " فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله - عز وجل - منها وكذلك سائر الأعمال.
وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره) [لطائف المعارف: 276].
وقال ابن حجر - رحمه الله - (واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد.
وأجيب: بأنه محمول على الغالب ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط) لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضاً) [فتح الباري: 2/ 460].
2 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام الدنيا أيام أحب إلى الله سبحانه أن يتعبد له فيها من أيام العشر وإن صيام يوم فيها ليعدل صيام سنة وليلة فيها بليلة القدر " [ابن ماجه برقم: 1728].
3 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام العمل فيه أفضل من عشر ذي الحجة " قيل ولا الجهاد في سبيل الله قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا من عقر جواده، وأهريق دمه " [مسند أبي عوانة: 2/ 245].
4 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من: التهليل، والتكبير والتحميد " [مسند أحمد بن حنبل: 2/ 131].
5 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام الدنيا أيام العمل فيها أفضل من أيام العشر" قال رجل: ولا مثلها في سبيل الله ثلاثاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة " إلا أن لا يرجع " [الطبراني: المعجم الكبير: 12/ 14].
6 - عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا من بشره شيئاً "[النسائي: 3/ 52].
ما جاء عن بعض السلف في تعظيمها:
1 - فقد كان ابن عمر وأبو هريرة - رضي الله عنهما - يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. [البخاري].
2 - وكان سعيد بن جبير - رحمه الله - إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه.[سنن الدارمي: 2/ 41] وكان - رحمه الله - يقول: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) تعجبه العبادة فيها[ابن رجب: لطائف المعارف: 278].
3 - وعن مسكين قال: (سمعت مجاهداً وكبر رجل أيام العشر، فقال مجاهد: أفلا رفع صوته فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي، حتى يبلغ الأبطح فيرتج بها أهل الأبطح، وإنما أصلها من رجل واحد) [مصنف ابن أبي شيبة: 3/ 250].
4 - وعن مجاهد قال: (ما من عمل في أيام السنة أفضل منه في العشر من ذي الحجة قال: وهي العشر الذي أتمها الله لموسى) [مصنف عبد الرزاق: 4/ 375].
5 - وعن أبي الضحى قال: سُئل مسروق عن الفجر وليال عشر: قال: (هي أفضل أيام السنة) [مصنف عبد الرزاق: 4/ 376].
فضيلة عشر ذي الحجة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، والقائمين بالقسط من الناس، أما بعد:
إن تعظيم ما عظمه الله تعالى، وتفضيل ما فضله رب السموات والأرض هو دأب الصالحين من الخلق، ذلك التعظيم الذي هو من تقوى القلوب قال تعالى:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [الحج: 32].
قال القرطبي - رحمه الله -: (الشعائر جمع شعيرة وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومنه شعار القوم في الحرب أي: علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم، فيكون علامة فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك) [تفسير القرطبي: 12/ 56].
قال ابن سعدي - رحمه الله -: (فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله) [تفسير السعدي: 538].
ومن نافلة القول أن نقول: أن ذلك التعظيم والتشريف لابد أن يكون مقيداً بقيد الشرع، بالإتباع لا بالابتداع.
أحبتي: لقد اصطفى الله سبحانه: (صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان، والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به، عند أهل الفهم وأهل العقل) [تفسير ابن كثير: 2/ 356].
وهذه الصفايا ومواسم الخير، لمن أفضل ما يسعى العبد لاغتنامها بمزيد طاعة وعبادة وعمل صالح، عسى أن يوفق العبد إلى أن يصاب بنفحة من نفحات الخالق جل وعلا فيأمن من لفحات النار ولهيبها.
يقول ابن رجب - رحمه الله -: (ما من هذه المواسم الفاضلة، موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، يُتَقَرَّبُ بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات) [لطائف المعارف: 6].
وها قد أقبل موسم خير، وأيام معظمة مشرفة، هي محل إجماع بين أهل العلم على فضلها وشرفها حتى أن البعض منهم قد أفردها بكتاب ومصنف أذكر منهم: الإمام الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني وسماه [فضل عشر ذي الحجة]، وكذلك الحافظ محمد بن ناصر الدمشقي وسماه: [فضل عشر ذي الحجة ويوم عرفة وإذا وافق يوم جمعة].
قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - على هذه الأيام العشر: (لما كان الله - سبحانه وتعالى - قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج).
إنها الأيام العشر من ذي الحجة، التي - كما سنرى - قد تضافرت الأدلة وتعاضدت على شرفها ومزيد فضلها وكونها من مواسم الخير ذات المزية والفضيلة، التي لا بد أن يغتنمها الإنسان ويخصها بمزيد عبادة وعمل صالح.
إن شهر ذي الحجة هو الشهر الثاني من الأشهر الحرم حسب الترتيب النبوي، وهو الشهر الثالث من أشهر الحج، كما تختم به السنة القمرية فهو الشهر الثاني عشر منها.
ويقال: (الحجة) بكسر الحاء وفتحها، قال ابن كثير - رحمه الله -: ([الحجة] بكسر الحاء، قلت: وفتحها، سمي بذلك لإقامتهم الحج فيه) ويجمع على (ذوات الحج) [تفسير ابن كثير: 2/ 355].
وبه تسمى السنة كلها فيقال مثلاً: تسع حجج، وعشر حجج، وتسعون حجة وهكذا.
والكلام في فضل عشر ذي الحجة يتناول، فضلها في نفسها، وفضل العمل فيها، حيث قد دلت الأدلة - كما سيأتي -: (على أن العمل في أيامه - ذي الحجة - أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله هو أفضل عنده)
[ابن رجب: لطائف المعرف: 276].
وهذا العشر قد امتازت عن غيرها من الأيام وشُرفت عليها لاجتماع أمهات العبادة فيها يقول ابن حجر - رحمه الله -: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: (الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج) ولا يتأتى ذلك في غيره، وعلى هذا هل يختص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال) [فتح الباري: 2/ 460].
وهذه الأيام المباركة يظهر فضلها من جهتين:
الأولى: كونها داخلة ومتعلقة بغيرها من مواسم الخير والفضل أعني: (الأشهر الحرم، وأشهر الحج) فهي من أشهر الحج، ومن الأشهر الحرم أيضاً، لهذا فالأدلة الدالة على أحكام وخصائص وفضائل أشهر الحج والأشهر الحرم تتناول الأيام العشر من ذي الحجة من باب أولى.
الثاني: خاص بها وخاصة بعض أيامها وأعني: (يوم عرفة، ويوم النحر).
ولا بأس بأن نتكلم ولو بشكل مجمل عن تعلق هذه الأيام بغيرها من مواسم الخير لنعلم ما لهذه الأيام من فضل وتشريف مع التطرق لبعض أحكامها الفقهية.
وأبدأ بالأشهر الحرم، فما هي الأشهر الحرم: المراد الأشهر الحرم هي التي ورد ذكرها في قول الله تعالى:( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وهن: (رجب مضر، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم).
وهذا التحديد تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " [البخاري].
وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وقتادة، وهو أيضا قول عامة أهل التأويل.
وباستعراضنا لبعض فضائل الأشهر الحرم نعلم ما لهذه الأيام من فضيلة ومزية:
إن الأشهر الحرم قد فضلها الله على سائر شهور العام، وشرفهن على سائر الشهور فخص الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصهن بالتشريف، وذلك نظير قوله تعالى: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ) [البقرة: 238]
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خص الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم).
وعن قتادة: (الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم في كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء).
قال قتادة: (فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل).
ومما تختص به الأشهر الحرم من أحكام ويدخل فيه الأيام العشر من ذي الحجة تبعاً:
1 - حرمت القتال فيها: كان القتال في الأشهر الحرم محرما في الجاهلية قبل الإسلام، فكانت الجاهلية تعظمهن وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه أو أخيه تركه.
وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرمون القتال فيها، ثم جاء الإسلام يؤيد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ) [البقرة: 217].
ثم هل نسخ القتال في الأشهر الحرم؟
اختلف أهل التأويل في الآية التي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) [البقرة: 217]
هل هو منسوخ أم ثابت الحكم؟
فقال بعضهم: إن ذلك حكم ثابت، لا يحل القتال لأحد في الأشهر الحرم؛ لأن الله جعل القتال فيه كبيراً.
وقال بعضهم: هو منسوخ بقول الله عز وجل: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ورد ذلك عن الزهري وعطاء بن ميسرة وصوبه الإمام الطبري - رحمهم الله جميعاً - ومن أراد التوسع فليراجع كتب التفسير.
2 - تغليظ الديات فيها: اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها، فالشافعية والحنابلة يرون تغليظ الدية للقتل في الأشهر الحرم.
وعند الحنفية والإمام مالك لا تغلظ الدية.
ومن قال بالتغليظ اختلف في صفتها، ومن أراد التفصيل فليرجع كتاب الديات عند أصحاب المذاهب.
ثانياً: أشهر الحج، ما هي أشهر الحج: جمهور الفقهاء على أن أشهر الحج هي: (شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة)
لأن قوله تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ) [البقرة: 197]
مقصود به وقت الإحرام بالحج، لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر، فدل على أنه أراد به وقت الإحرام.
وقد روي ذلك عن العبادلة الأربعة: ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن الزبير رضي الله عنهم.
ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات، وهذا يدل على أن المراد من الآية شهران وبعض الثالث لا كله، لأن بعض الشهر يتنزل منزلة كله.
وذهب المالكية إلى أن أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
والمالكية - وإن كانوا يقولون إن أشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة - إلا أن مرادهم بذلك أن وقت الإحرام يبدأ من شوال إلى فجر يوم النحر، أما الإحلال من الحج فيمتد إلى آخر ذي الحجة.
ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحج: ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحج، على ما ذكره ابن رشد، هي جواز تأخير طواف الإفاضة عند المالكية إلى آخر ذي الحجة، فإن أخره إلى المحرم فعليه دم.
وعند الحنفية إن أخره عن أيام النحر كان عليه دم.
أما عند الشافعية والحنابلة فإن آخره غير موقت، بل يبقى ما دام حياً ولا دم عليه.
وبناء على ما تقدم فهذه الأيام - العشر - المباركة تدخل في ما يعرف بالميقات الزماني للإحرام بالحج:
فقد ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم إلى أن وقت الإحرام بالحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وذهب مالك إلى أن وقت الحج شوال وذو القعدة وشهر ذي الحجة إلى آخره. وليس المراد أن جميع هذا الزمن الذي ذكروه وقت لجواز الإحرام، بل المراد أن بعض هذا الزمن وقت لجواز ابتداء الإحرام، وهو من شوال لطلوع فجر يوم النحر وبعضه وقت لجواز التحلل، وهو من فجر يوم النحر لآخر ذي الحجة.
وعلى هذا فالميقات الزماني بالنسبة للإحرام متفق عليه، إنما مرتب على مذهب المالكية جواز تأخير الإحلال إلى آخر ذي الحجة.
والأصل للفريقين قوله تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) [البقرة: 197]
فالجمهور فسروا الآية بأن المراد شهران وبعض الثالث. واستدلوا بالآثار عن الصحابة.
كما يدل لهم أن أركان الحج تؤدى خلال تلك الفترة.
وأما المالكية فدليلهم واضح، وهو ظاهر الآية ; لأنها عبرت بالجمع " أشهر " وأقل الجمع ثلاث، فلا بد من دخول ذي الحجة بكماله.
ثم اختلف الجمهور في نهار يوم النحر هل هو من أشهر الحج أو لا؟.
فقال الحنفية والحنابلة: هو من أشهر الحج.
وقال الشافعية: آخر أشهر الحج ليلة يوم النحر. وهو مروي عن أبي يوسف. وفي وجه عند الشافعية في ليلة النحر أنها ليست من أشهر الحج.
والأول هو الصحيح المشهور. ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب الحج في كتب أصحاب المذاهب الفقهية.
علاقة أشهر الحج بالأشهر الحرم: تبين لنا مما تقدم أن أشهر الحرم هي: (رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم).
وعلى ذلك فأشهر الحج تشترك مع الأشهر الحرم في ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، أما شوال فهو من أشهر الحج فقط، ورجب وبقية ذي الحجة من الأشهر الحرم فقط.
وتحديد أشهر الحج مقصود به أن الإحرام بالحج يتم في هذا الوقت، ولذلك يرى الحنفية والمالكية والحنابلة كراهة الإحرام بالحج في غير هذا الوقت، والمراد عند الحنفية بالكراهة كراهة التحريم، وبذلك صرح القهستاني.
أما الشافعية فلا ينعقد عندهم الإحرام بالحج في غير هذا الوقت، وإنما ينعقد عمرة لأن الحج عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد إحرامه بالنفل.
ونذكر الآن ما ورد بخصوصها من فضائل ومزايا وخصائص:
لقد دل كتاب الله سبحانه على فضل ومزية العشر الأُول من ذي الحجة على غيرها من أيام العام، ومن ذلك قوله تعالى:
1 -( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) [الفجر: 1 - 5].
فقد أقسم الله تعالى بالليالي العشر من ذي الحجة مع ما أقسم به من مخلوقاته في سورة الفجر، وكما هو معروف فإن قسمه سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته يعد تشريفاً منه، وتعظيماً لذلك المقسوم به.
وإن اختلف المفسرون على المراد بالليالي العشر إلا أن أقوال المفسرين الأثبات تجمع على أنها عشر ذي الحجة قال الطبري - رحمه الله -: (والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه وأن عبد الله بن أبي زياد القطواني حدثني قال ثني زيد بن حباب قال أخبرني عياش بن عقبة قال ثني جبير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله قال: " والفجر وليال عشر قال: عشر الأضحى") [تفسير الطبري: 30 / 169].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (إن الليالي العشر التي أقسم الله بها هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة) [تفسير الطبري: 30/ 168].
و عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: ((وليال عشر) أول ذي الحجة إلى يوم النحر) [تفسير الطبري: 30/ 169].
وعن مسروق - رحمه الله - قال: (عشر ذي الحجة وهي التي وعد الله موسى) [تفسير الطبري: 30/ 169] وهو مروي أيضاً عن: عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد من السلف والخلف.
وعن مجاهد قال: (ليس عمل في ليال من ليالي السنة أفضل منه في ليالي العشر وهي عشر موسى التي أتمها الله له).
وعن مسروق قال: (ليال العشر هي أفضل أيام السنة)[تفسير الطبري: 30/ 169].
وعن ابن عباس قال: ((والفجر) يريد صبيحة يوم النحر لأن الله تعالى جل ثناؤه جعل لكل يوم ليلة قبله إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا بعده لأن يوم عرفة له ليلتان ليلة قبله وليلة بعده فمن أدرك الموقف ليلة بعد عرفة فقد أدرك الحج إلى طلوع الفجر فجر يوم النحر وهذا قول مجاهد) [تفسير القرطبي: 20/ 39].
وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن العشر عشر الأضحى والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر) قال ابن كثير: (وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة والله أعلم) [تفسير ابن كثير: 4/ 506].
2 - وقال أيضاً:( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) [الحج: 28].
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (الأيام المعلومات أيام العشر) وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به.
وقال ابن كثير - رحمه الله -: (وروي مثله عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد وقتادة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وعطاء الخرساني، وإبراهيم النخعي وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل) [تفسير ابن كثير: 3/ 217].
3 - قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203].
على قول من قال أن يوم النحر منها، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (هي ثلاثة: يوم النحر، ويومان بعده أذبح في أيهن شئت وأفضلها أولها) [تفسير ابن كثير: 1/ 246].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة والمعدودات أيام التشريق) قال ابن حجر - رحمه الله -: (إسناده صحيح وظاهره إدخال يوم العيد في أيام التشريق) [فتح الباري: 2/ 458].
والمشهور فيها - أي الأيام المعلومات - أنها أيام التشريق.
4 - وقال الله:( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف: 142].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة) [تفسير القرطبي: 7/ 274].
وعن مجاهد قال: (ذو القعدة، وعشر ذي الحجة) [تفسير الطبري: 9/ 47].
وعن مسروق (وأتممناها بعشر) قال: (عشر الأضحى)[تفسير الطبري: 9/ 48].
أدلة فضلها من السنة:
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه " قالوا: ولا الجهاد؟ قال: " ولا الجهاد. إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيءٍ) [البخاري برقم: 969].
قال ابن رجب - رحمه الله -: (ثم استثنى جهاداً واحداً هو أفضل الجهاد، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: " من عقر جواده وأهريق دمه "وصاحبه أضل الناس درجة عند الله، سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو يقول: اللهم أعاطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال: " إذن يعقر جوادك، وتستشهد " فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله - عز وجل - منها وكذلك سائر الأعمال.
وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره) [لطائف المعارف: 276].
وقال ابن حجر - رحمه الله - (واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل، واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد.
وأجيب: بأنه محمول على الغالب ولا يرد على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قط) لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته كما رواه الصحيحان من حديث عائشة أيضاً) [فتح الباري: 2/ 460].
2 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام الدنيا أيام أحب إلى الله سبحانه أن يتعبد له فيها من أيام العشر وإن صيام يوم فيها ليعدل صيام سنة وليلة فيها بليلة القدر " [ابن ماجه برقم: 1728].
3 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام العمل فيه أفضل من عشر ذي الحجة " قيل ولا الجهاد في سبيل الله قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا من عقر جواده، وأهريق دمه " [مسند أبي عوانة: 2/ 245].
4 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من: التهليل، والتكبير والتحميد " [مسند أحمد بن حنبل: 2/ 131].
5 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أيام الدنيا أيام العمل فيها أفضل من أيام العشر" قال رجل: ولا مثلها في سبيل الله ثلاثاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة " إلا أن لا يرجع " [الطبراني: المعجم الكبير: 12/ 14].
6 - عن أم سلمة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره، ولا من بشره شيئاً "[النسائي: 3/ 52].
ما جاء عن بعض السلف في تعظيمها:
1 - فقد كان ابن عمر وأبو هريرة - رضي الله عنهما - يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما. [البخاري].
2 - وكان سعيد بن جبير - رحمه الله - إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه.[سنن الدارمي: 2/ 41] وكان - رحمه الله - يقول: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) تعجبه العبادة فيها[ابن رجب: لطائف المعارف: 278].
3 - وعن مسكين قال: (سمعت مجاهداً وكبر رجل أيام العشر، فقال مجاهد: أفلا رفع صوته فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد، ثم يخرج الصوت إلى أهل الوادي، حتى يبلغ الأبطح فيرتج بها أهل الأبطح، وإنما أصلها من رجل واحد) [مصنف ابن أبي شيبة: 3/ 250].
4 - وعن مجاهد قال: (ما من عمل في أيام السنة أفضل منه في العشر من ذي الحجة قال: وهي العشر الذي أتمها الله لموسى) [مصنف عبد الرزاق: 4/ 375].
5 - وعن أبي الضحى قال: سُئل مسروق عن الفجر وليال عشر: قال: (هي أفضل أيام السنة) [مصنف عبد الرزاق: 4/ 376].