في ذلك الصباح ............كنت أسير وحدي ........ في ساحة المدرسة ...............وأستغفر الله كثيرا ..........
فقد كنت حينها قد قرأت في كتاب رياض الصالحين ...ذو الأوراق الصفراء الخشنة...والطباعة القديمة .... ــ فهو الكتاب الديني الوحيد الذي كان في بيتنا حينذاك ــ
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
((من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ))
وبينما أنا على حالي إذ استوقفتني إحدى صديقاتي لتعرّفني على صديقة جديدة .. اسمها نجلاء وصديقتها ( منيرة ) ...وحقا إنها منيرة ......
كانتا نعم الصديقتين .... ونعم القرينتين ... بل ... نعم التوأمين .....
فمن عجيب ما صادفني منهما ...
أنني رأيتُ في أحد الأيام منيرة وحدها وهي تبكي فحزنْتُ عليها ثم سألتُها عن نجلاء.. فأخبرتني أنها متغيبة عن المدرسة لأنها مريضة ..
فقلت لها : وأنت ما الذي يبكيك ؟!! قالت : لمْ نفترق يوما عن بعضنا أبدا ... حتى عندما تغيب إحدانا تغيب الأخرى مشاركة لها ...!!!وأنا اليوم وحيدة!!
فتعجبتُ من صداقتهما !!! ثم قالت : نحن جسدان ولكننا بروح واحدة ....
وهكذا بدأت صداقتي معهما تثمر يوما بعد يوم ..... فنلتقي في الفسحة ... أو بين الحصص ...
مع أنني كنت حينها في الصف الثالث الثانوي ...وكانتا في الصف الأول الثانوي ....
ولكن لقاءاتنا غالبا ما تكون مبكرة جدا ... قبل طابور الصباح ....
فمنذ أن أدخل إلى المدرسة أجدهما تنتظران حضوري بشوق ....
في مرة من المرات .... رأيت مع منيرة ريحانا ....
فقلت لها : ما أجمل الريحان وما أزكى رائحته ..!!
و قد نهى رسول الله عن رد الريحان متى ما أُهدِي إليكم ....
ففرحتْ وأخذتْ تصبّحني كل يوم بريحانة أو أكثر .........
وكنتُ لا أردّها ..... عملا بأمر رسول الله ... ثم جبرا لخاطرها .....
وسألتها يوما : من أين لك بالريحان الذي تأتين به كل يوم ؟؟؟
فأجابتني : من حديقة منزلنا .... ومنذ أن علِمْتُ منك أنك تحبينه فلن أبخل به عليك ... فأنا أحبك جدا ....
وأحرجتـْني ....... فلم أجدْ ما أردّ به عليها سوى : أحبك الله الذي أحببتني من أجله ...
ومرت الأيام وأقبلتْ علينا أيام عشر ذي الحجة ... فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث حول ما اعتاد أهلنا فعله في أيام عيد الأضحى ... و المواقف المضحكة التي حدثت لنا من قبل ... ونحن نضحك ... ثم لمْ ننْس أن نتواصى على الطاعات من ذكر لله .. وصدقة وصلاة وصيام ..وغيرها .. .
و فجأة.. قاطعتـْني منيرة قائلة : ماذا تريدينني أن أحضر لك من مكة ؟؟؟
فأذهلني قولها وسؤالها وسألتها : هل ستؤدين فريضة الحج ؟!!
فأجابتني : ادعي لي .... ربما أستطيع أن أقنع أهلي بذلك لأن جميع عائلتي ستذهب .... وأنا أتمنى أن أحج فريضتي....
وأخذنا نقول لها : بعد عودتك بإذن الله لن نناديك إلا بــ (( الحجّة منيرة )) ونضحك ...
ثم دعونا الله لها بتقبل حجها ... وطلبنا منها أن تدعو لنا بالحج في العام المقبل ..
وهنأْنا بعضنا بعيد الحج الأكبر ........ وافترقنا على أجمل الذكريات ............
ومرّت الأيام العشر على الطاعات ... وصلة الأرحام ....
وأقبل عيد الأضحى بجميع ما فيه من ذبح الأضاحي وإظهار شعائر الله .....
وإطعام الجار ..... والصديق .... والأقارب .... والاجتماع على الموائد الدسمة ....
وهكذا انقضت الأعياد وأقبلت أيام الدراسة ....
وقمت بالاستعداد ليوم المدرسة بشوق ....
استيقظتُ مبكرة فرحة...
وأنا أتخيّل نجلاء و منيرة وهما يقفان بانتظاري وبمَ سأعايدهما ....
وصلتُ إلى مدرستي ....
ودخلتُ من الباب الرئيسي بحذر... وأخذت أُقلّب ناظريّ يمنة ويسرة ...
وأنا أسمع صوتي منيرة ونجلاء ....
وأشتمّ رائحة الريحان ... الذي اعتادتْ منيرة تقديمه لي كل صباح ...
ولكنني نويتُ اليوم الاختباء منهما ... حتى أباغتهما فجأة ...
ثم أخذتُ أبحث عن ( الحجّة ) منيرة وصديقتها نجلاء ... ولكنني لم أجدهما ...
فشككتُ في سمعي ... و تعجبتُ من نفسي ...
إلى أن رأيتُ نجلاء بصحبة صديقات أخريات فعادت إليّ ثقتي في سمعي ..
واقتربتُ منهن .... ولكنني ...
لاحظتُ عليهن آثار الحزن والدموع والبكاء .... فسألتهن : ماذا حلّ بكنّ ؟
و ناديت نجلاء وسألتها : أين منيرة ؟!! فأجهشتْ بالبكاء من جديد ....
فقلت لها : بالطبع ... هي متغيبة عن المدرسة وأنت تشعرين بالوحدة ؟!!
فازداد صوت بكاء نجلاء وأخذت تحتضنني بحسرة و بحزن .. لم أره منه من قبل ..
فأصابني الذعر.... ثم أخذت تصرخ و تقول لي : منيرة ... منيرة .. توفيتْ ....
توفيتْ وهي حاجّـة مع مجموعة من أهلها ومن الحجاج...
بسبب ضيق التنفس والزحام ...
ومنذ اليوم ... سأبقى وحيدة ... فقد ماتت صديقتي .... وتوأم روحي ....
فلم أتمالك نفسي ....
ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ في وجهها ..
وأقول لها : قبل لحظات سمعتُ صوتها و صوتك ....كيف ذلك ؟؟؟
فقالت :أنتِ سمعتِ صوتها لأنك الآن تقفين في نفس المكان الذي نقابلك فيه كل صباح ....
ثم قلتُ لها : ورائحة الريحان التي شممتها ؟؟؟
قالتْ : تعلقتْ رائحته لديك بنفس المكان ...
وحينها فاضتْ عيناي بالدموع الغزيرة التي لم تتوقف ...وأدركتُ صدق كلامها ....
و أخذتُ أدعو الله لها وأبكي بحرقة شديدة .....
جعل الله قبرك رَوْحا وريحانا يا منيرة ..
ومنّ عليك بالغفران ..عند رب غير غضبان ..
و مرّ ذلك اليوم ... بل ذلك الأسبوع .. كأنه سنة ....
وكلما مررتُ بالمكان الذي كانت تنتظرني فيه ... أتخيلها وهي تهديني الريحان... فتدمع عيناي .. وتُقَطِّع قلبي حسرة الفراق ......
وحتى هذا اليوم ....كلما رأيتُ الريحان دمعتْ عيناي ..... شوقا إليها .....
فاللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ...والمؤمنين والمؤمنات .. الأحياء منهم والأموات ....
اللهم اغفر لأختنا منيرة... وأدخلها الفردوس الأعلى... وأكرم نزلها ... وارحمها .... وحُطّ عنها خطيئاتها .....وأبدل سيئاتها حسنات ...
واجمعني وبنجلاء و بها في مستقر رحمتك .... يا أرحم الراحمين
مواقع النشر