تابع للجزء الثاني
تغيّر
القبلة: إختيار للطاعة وأمر بالتميّز





يبدأ الجزء الثاني
بالتعقيب على الحادثة التي أمر الله بها المسلمين بتغيير
القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة
المشرّفة، وتشكيك اليهود في المدينة بهذا الأمر: (سَيَقُولُ
ٱلسُّفَهَاء مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّـٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى
كَانُواْ عَلَيْهَا... (142).

وهنا سؤال يطرح: ما علاقة هذا الربع بما
قبله؟ لقد تناول الجزء الأول ثلاث قصص لآدم عليه السلام، وبني إسرائيل،
وإبراهيم عليه السلام. إن العامل المشترك هو أن كل هذه القصص إختبار
للطاعة... فجرى إختبار آدم عليه السلام بالأكل من الشجرة، وبني إسرائيل في
ذبح البقرة وخضع إبراهيم عليه السلام لاختبارات كثيرة في طاعة الله عز وجل
فأتمها (وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَـٰتٍ فَأَتَمَّهُنَّ (124).



فبعد أن أخبرنا عن أحوال الأمم السابقة وأراد رسم
المنهج لهذه الأمة، كانت أول مقومات المنهج هي الأمر بالطاعة. فالله تعالى
لم يقصّ علينا القصص إلا لحكمة، وهي ترسيخ مفهوم الطاعة عند الأمة المسؤولة
عن الأرض، فجاءت حادثة تغيير القبلة كإمتحان عملي.

ولذلك كانت الآية 143 واضحة جداً في بيان هذا المعنى (وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ
لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ
(143).
وقد يظن البعض أن المسألة كانت سهلة لكن الواقع غير ذلك، فالعرب كانت تقدّس
الكعبة من عهد سيدنا إبراهيم، فجعل الله قبلة المسلمين لبيت المقدس، ثم
جاء الأمر بالإتجاه للكعبة مرة ثانية، طاعة لله.
لاحظ معي علاقة الأرباع السابقة من الجزء الأول بهذا الربع:

-الربع السابع مهّد لفكرة النسخ (وهو تغيير الأحكام)
في بدايته (مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (106).ثم يأتي الربع الثامن
ليتحدث عن بناء الكعبة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ
ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ (127).
وكانت آخر حلقات السلسلة بيان أن نسخ الحكم سيكون بتغيير إتجاه القبلة،
فانظر إلى جمال ترابط الآيات ببعضها!

تمييز الأمة حتى في مصطلحاتها



ولكن الربع هذا ينبّه إلى هدف آخر غير إختبار الطاعة.
فكما سبق في الجزء الأول التنبيه إلى أهمية التميز عن الأمم الأخرى في
المصطلحات: (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ
تَقُولُواْ رٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرْنَا (104) ففي هذه الآية أيضاً
أمر بالتميز عن الآخرين في إتجاه القبلة..
فاليهود كانوا يصلّون باتجاه بيت المقدس، فأمر المسلمون
بمخالفتهم والتوجّه للكعبة. وكأن الرسالة هنا: كيف تستخلف أمة على هذه
الأرض وهي ليست متميّزة عن غيرها؟ كيف يكون التابع والمقلّد مسؤولاً عن
الأرض؟... فكان لا بد قبل الاتيان بأي أمر أو نهي في المنهج أن يأتي الأمر
بالتميز عن طريق تغيير اتجاه القبلة! ليتميّز المسلمون فلا يشعروا بالتقليد
والتبعية للأمم الأخرى.

وسطية التميز





أما الربع الثاني من هذا الجزء فيبدأ بالآية 128 والتي
يقول الله تعالى فيها (إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ
مِن شَعَائِرِ ٱلله فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا (158) بعض الناس يفهم هذه الآية أن
لابأس بالطواف وأن الطواف إختياري. لكن لكي نفهم معنى الآية لا بد من
معرفة سبب نزولها، فالواقع أن الصحابة عندما سمعوا خطاب القرآن يأمرهم
بالتمييز (سواء بتغيير المصطلحات أو بتغيير إتجاه القبلة)، ووجدوا أن
المشركين يطوفون بين الصفا والمروة (ويضعون صنمين على جبلي الصفا والمروة
(آساف ونائلة) وكانوا يسعون بينهما)،

عندها شعر الصحابة بحرج من السعي بين الصفا والمروة
وأنه ينافي التميز الذي أمروا به، فجاءت الآية لتخبرهم أن ليس كل ما يفعله
الكفار خطأ، فإن أصل السعي بين الصفا والمروة أمر رباني واتباع لسيدنا
إبراهيم. وبهذا تتضح الرسالة:
لا بد من التوازن في التميز لأن هذه الأمة أمة وسط فليس كل ما يفعله الكفار
مرفوض...ولذلك تأتي في هذا الربع آية هامة في رسم المنهج: (وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ
شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ (143).

أنت منتمي إلى أمة متميزة:


تخيل أنك أنت ستشهد على البشرية التي تعاصرها، وأنت
ستقول يوم القيامة أين الحق وأين الضلال، فتأمل حجم المسؤولية الملقاة على
عاتقك يوم القيامة، وتابع معي قراءة سورة البقرة حتى تتبيّن معالم مسؤوليتك
وشهادتك على الأمم.

الإسلام
والإصلاح الشامل


في الربع الثالث تبدأ سلسلة من الأوامر الشاملة لكل
نواحي الإصلاح في المجتمع.

فيبدأ بقول لله تعالى: (لَّيْسَ
ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ
وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱلله وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ
وَٱلْمَلَـئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيّينَ وَءاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ
حُبّهِ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ
وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّائِلِينَ وَفِي ٱلرّقَابِ
وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءاتَى ٱلزَّكَوٰةَ
وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـٰهَدُواْ
وَٱلصَّابِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَاء وٱلضَّرَّاء وَحِينَ ٱلْبَأْسِ... (177)


يقول العلماء أن هذه الآية شاملة للإسلام، فقد شملت
العقائد (الإيمان بالله والملائكة والكتاب)
والعبادات (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة)
والمعاملات (الوفاء بالعهد) والأخلاق.

لاحظ هنا التدرج الرائع الذي جاءت به هذه السورة:


1.تغيير القبلة (لتحقيق التميز) (فَوَلّ
وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ (144).

2.التوازن في التميز ({إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم}(158).

3.الاتجاه ليس كل شيء: (لَّيْسَ
ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ
(177).

فبعد ان رسخ الله تعالى لدى الصحابة الطاعة والتميز في
الربع الأول، بيّن لهم أن المسألة ليست مسألة إتجاه وإنما هي قضية إصلاح
شاملة. فحين جاء الأمر بالتوجه للكعبة كان ذلك فقط لاختبار الطاعة والتميز،
بينما الأصل هو عمل البر بكل أشكاله التي وردت في الآية 177.

مفردات الإصلاح الشامل



ومن أول
الربع الثالث في الجزء الثاني تبدأ الأوامر والنواهي للأمة لترسم شمول
المنهج:


تشريع جنائي:

(يـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى (178). وبعدها يأتي قوله تعالى(وَلَكُمْ فِي
ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلالْبَـٰبِ (179).

مواريث:

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ
إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلاْقْرَبِينَ (180)
وبعد هذا




تشريع تعبدي:



(يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)..




التقوى مصباح الطريق


والملاحظ أن كل الأحكام الواردة هنا قد ركزت بشكل
أساسي على تقوى الله تعالى، قتجد في آية القصاص: (وَلَكُمْ
فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلالْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(179) وفي آيات المواريث (إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوٰلِدَيْنِ
وَٱلاْقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ (180) وفي آيات
الصيام (يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) وفي
ختام عرض الأحكام: (كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱلله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (187).

فهذا المنهج لا بد له من أناس طائعين، متميزين عن
غيرهم، ومتّقين يريدون إرضاء الله تعالى، فهذه المحاور الثلاثة هي سياج
يحمي المنهج، ذكرت بطريقة مترابطة ومدهشة لا تشبه طريقة البشر في الشرح
والعرض.

وكلما تقدمت أخي المسلم في قراءة السورة تتفتح عيناك
على بقية أجزاء المنهج، فتتضح أمامك شموليته.

فالقرآن بدأ بالتشريع الجنائي ثم التشريع التعبدي. وقد
يتساءل البعض عن العلاقة بينها. وهنا ينبغي التنبيه إلى أنك حين تجد
موضوعات متتابعة ولكن متفرقة فهي إشارة إلى أن الدين يشملها كلها. فلم يأت
تشريع العبادات منفصلاً عن غيره من الأحكام للتأكيد على شمول المنهج
وتناوله لكل مظاهر الحياة.


يتبع منقول