هذه مسائل قد يجهلها البعض من و لا يعرفها اعتمدت فى الاجابة عنها بالشيخ المحدث العلامة ناصر الدين الالبانى رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين ، أما بعد :

جاء في كتاب " نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد " لعبد اللطيف بن محمد بن أبي ربيع ( 1 / 530 ـ 534 ) طبعة مكتبة المعارف بالرياض ما يلي :

باب / هل الكحل والحقنة ( الإبرة ) من المفطرات ؟

يروى عن معبد بن هوذة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليتقه الصائم . يعني الكحل " .

منكر . " الصعيفة " برقم ( 1014 ) .

* فائدة :

وقد ثبت عن أنس ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه كان يكتحل وهو صائم .أخرجه أبو داود بسند حسن .وقال الحافظ في " التلخيص " ( 189 ) : " لا بأس به " .

وفي معناه أحاديث مرفوعة لا يصح منها شيء ـ كما قال الترمذي وغيره ـ ؛ ولكنها موافقة للبراءة الأصلية ، فلا ينقل عنها إلا بناقل صحيح ، وهذا مما لا وجود له ، وقد اختلف العلماء في الكحل للصائم ، وكذا الحقنة ونحوها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة " الصيام " ( ص 47 ) :

( فنهم من لم يـُفطّر بشيء من ذلك ؛ ومنهم من فطر بالجميع إلا الكحل .والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك ؛ فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام ، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها ، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه ، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً صحيحاً مسنداً ولا مرسلاً ، عُـلِم أنه لم يذكر شيئا‌ً من ذلك ، والحديث المروي في الكحل ضعيف ، رواه أبو داود ، ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب ) .

ثم ساق هذا الحديث ، ثم قال :

( والذين قالوا : إن هذه الأمور تُـفطر ، لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس ، وأقوى ما احتجوا به قوله صلى الله عليه وسلم : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " ، قالوا : فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يُـفطّر الصائم إذا كان يفعله .

وعلى القياس : كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه .

والذين استثنوا الكحل قالوا : العين ليست كالقـُـبُـل والدُّبـُر ، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء ) . ثم قال : ( وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يَـجُـرْ إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه :

أحدها : إن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته ، فقد قلنا في"الأصول" : إن الأحكام الشرعية بينتها النصوص أيضاً ، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية . فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه ، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب ، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد ، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مُـفطرة .

الثاني : أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ، ولا بد أن تنقلها الأمة ، فإذا انتفى هذا ، عُـلِم أن هذا ليس من دينه .

وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان ، ولا حج ببيت غير البيت الحرام ، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس . وإن كان في مظنته خروج الخارج ، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة ، كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت .

وبهذه الطرق يُـعلم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين ، من لم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك ، مع العلم بأن الناس كانوا ولا يزالون يحتجمون ويتقيؤون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك ، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد ، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك ) ( قال ) : ( فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى ، لا بد أن يبنها الرسول صلى الله عليه وسلم بيناناً عاماً ، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك ، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى ، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب ، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره . فلما لم يبين ذلك ، علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن , والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ ، وينعقد أجساماً ، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ، ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة ، فلما لم يُـنـْهَ الصائم عن ذلك ، دل على جواز تطيبه وتبخره وادهانه ، وكذلك اكتحاله .

الوجه بالثالث : إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحاً وذلك إما قياس على بابه الجامع ، وإما بإلغاء الفارق ، وإما أن يدل دليل على العلة في الأصل معد لها إلى الفرع ، وإما أن يُـعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع ، وهذا القياس هنا منتف . وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف ، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله .

الوجه الرابع :إن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم إذا سبرنا أوصاف الأصل ، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين . ( قال ) : فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول بالحكم بهذا دون هذا . ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض . والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى المتوضىء عن المبالغة في الإستنشاق إذا كان صائماً ، وقياسهم على الإستنشاق أقوى حججهم كما تقدم . وهو قياس ضعيف لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه ، وإلى جوفه ، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفم ، ويغذي بدنه من ذلك الماء ، ويزول العطش ، ويُـطْـبَخُ الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء فلو لم يرد النص بذلك ، لَعُـلِمَ بالعقل أن هذا من جنس الشرب ، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم ، وذلك غير معتبر ، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يُـفطّر ، فليس هو مُفطراً ولا جزءاً من المفطر لعدم تأثيره ، بل هو طريق إلى الفطر وليس كذلك الكحل والحقنة ، فإن الكحل لا يغذي ألبتة ، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من أنفه ولا من فمه ، وكذلك الحقنة لا تغذي ، بل تستفرغ ما في البدن ، كما لو شم شيئاً من المسهلات ، أو فـَزِع فزعاً أوجب استطلاق جوفه ، وهي لا تصل إلى المعدة .فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع ، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف ، معارض لهذه الأوصاف ، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة ، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا .

الوجه الخامس : أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الشيطان يجري من إبن أدم مجرى الدم " ( 1 ) . ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب . وإذا أكل وشرب اتسعت مجاري الشياطين ، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات ، وإلى ترك المنكرات ، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب ، والحكم ثابت على وفقه ، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره ، وهذا منتف في الحقنة والكحل وغير ذلك .

فإن قيل : بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دماً ؟

قيل : هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من إلى الدماغ فيستحيل دماً ، وكالدهن الذي يشربه الجسم . والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دماً ويتوزع على البدن .

الوجه السادس : ونجعل هذا وجهاً سادساً ( الأصل خامساً ) فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك ، لجامع ما يشتركان فيه ، مع أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل في المعدة دماً . وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة . وهذا موجود في محل النزاع " .

هذا كله من كلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ مع شيء من الإختصار ، أثرت نقله على ما فيه من بسط وتطويل ، لما فيه من الفوائد والتحقيقات التي لا توجد عند غيره ، فجزاه الله خيراً .

ومنه يتبين أن الصواب أن الكحل لا يفطر الصائم ، فهو بالنسبة إليه كالسواك يجوز أن يتعاطاه في أي وقت شاء ، خلافاً لما دل عليه هذا الحديث الضعيف الذي كان سببا مباشراً لصرف كثير من الناس عن الأخذ بالصواب الذي دل عليه التحقيق العلمي ، ولذلك عُـنيت ببيان حال إسناده ، ومخالفته للفقه الصحيح ، والله الموفق .

ومما سبق يمكننا أن نأخذ حكم ما كثير السؤال عنه في هذا العصر ، وطال النزاع فيه ، ألا وهو حكم الحقنة ( الإبرة ) في العضل أو العِـرق ، فالذي نرجحه أنه لا يفطر شيء من ذلك ، إلا ما كان المقصود منه تغذية المريض ، فهذه وحدها هي التي تفطر والله أعلم .

ـــــــــــــــــــ

هامش :

(1) قلت : هذا حديث صحيح ، أخرجه الشيخان من حديث أنس وصفيه ـ رضي الله عنهما ـ هكذا ، وقد ذكره ابن تيمية في مكان آخر من رسالته في الصيام ( ص 75 ) بزيادة : " فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم " ولا أصل لها في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها ، وإنما هي في كتاب " الإحياء " للغزالي فقط ، كما نبهت عليه في التعليق على الرسالة المذكورة ) اهـ .