كل الناس يذكرون الله عند الشدائد ..
لكن منهم من يذكره ويطيعه .. فإذا زالت الشدة عصاه ونساه ..
ومنهم من يستمر صلاحه وتوبته ..
يونس عليه السلام .. دعا قومه إلى الإيمان .. فأعرضوا وتكبروا .. فغضب .. وركب البحر مع سفينة .. فلما ثقلت بهم خافوا أن يغرقوا جميعًا .. فعلموا أنه لابد أن يخففوا الحمل بإلقاء أحد ركباها إلى البحر .. عملوا القرعة مرارًا فوقعت على يونس .. فألقوه في البحر .. فالتقمه الحوت .. ثم نزل به إلى الأعماق ...
كل شيء حدث في سرعة ... يونس في الظلمات ..
تسمع حوله ... فإذا به يسمع تسبيح الحصى الذي في قعر البحر .. فانتفض ..
( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ..
فقرعت كلماته أبواب السماء .. فنزل عليه الفرج ..
هذا خبر يونس النبي عليه الصلاة والسلام ...
أما يونس اليوم فيقول ...
كنت شابًا أظن أن الحياة .. مال وفير .. وفراش وثير ,, ومركب وطيء ..
وكان يوم جمعة .. جلست مع مجموعة من رفقاء الدرب على الشاطئ .. وهم كالعادة مجموعة من القلوب الغافلة ..
سمعت النداء .. حي على الصلاة .. حي على الفلاح ..
أقسم أني سمعت الأذان طوال حياتي .. ولكني لم أفقه يومًا معنى كلمة فلاح ..
طبع الشيطان على قلبي .. حتى صارت كلمات الأذان كأنها تقال بلغة لا أفهمها ..
كان الناس حولنا يفرشون .. سجاداتهم .. ويجتمعون للصلاة ..
ونحن كنا نجهز عدة الغوص وأنابيب الهواء ..
استعدادًا لرحلة تحت الماء .. لبسنا عدة الغوص .. ودخلنا البحر .. بعدنا عن الشاطئ .. حتى صرنا في بطن البحر ..
كان كل شيء على ما يرام .. الرحلة جميلة ..
وفي غمرة المتعة .. فجأة تمزقت القطعة المطاطية التي يطبق عليها الغواص بأسنانه وشفتيه لتحول دون دخول الماء إلى الفم .. ولتمده بالهواء من الأنبوب ...
وتمزقت أثناء دخول الهواء إلى رئتي .. وفجأة أغلقت قطرات الماء المالح المجرى التنفسي .. وبدأت أموت ..
بدأت رئتي تستغيث وتنتفض .. تريد هواء .. أي هواء ..
أخذت أضطرب . البحر مظلم .. رفاقي بعيدون عني ..
بدأت أدرك خطورة الموقف .. إنني أموت .. بدأت أشهق .. وأشرق بالماء المالح .. بدأ شريط حياتي بالمرور أمام عيني .. مع أول شهقة .. عرفت كم أنا ضعيف ..
بضع قطرات مالحة سلطها الله علي ليريني أنه هو القوي الجبار ..
آمنت أنه لا ملجأ من الله إلا إليه .. حاولت التحرك بسرعة للخروج من الماء .. إلا أني كنت على عمق كبير .. ليست المشكلة أن أموت .. المشكلة كيف سألقي الله ؟!
إذا سألني عن عملي .. ما ذا سأقول ؟
أما أول ما أحاسب عنه .. الصلاة .. وقد ضيعتها .. تذكرت الشهادتين .. فأردت أن يختم لي بهما ...
فقلت أشهـــ .. فغص حلقي ..
وكأن يدًا خفية تطبق على رقبتي لتمنعني من نطقها ..
حاولت .. جاهدت .. أشهــ .. أشهـــ...
بدأ قلبي يصرخ .. رب ارجعون .. رب ارجعون .. ساعة .. دقيقة .. لحظة .. ولكن هيهات ..
بدأت أفقد الشعور بكل شيء .. أحاطت بي ظلمة غريبة ..
هذا آخر ما أتذكر ..
لكن رحمة ربي كانت أوسع ..
فجأة بدأ يتسرب إلى صدري مرة أخرى ..
انقشعت الظلمة .. فتحت عيني .. فإذا أحد الأصحاب .. يثبت خرطوم الهواء في فمي .. ويحاول إنعاشي ..
ونحن ما زلنا في بطن البحر ..
رأيت ابتسامة على محياة ... فهمت منها أنني بخير ..
عندها صاح قلبي .. ولساني .. وكل خلية في جسدي ..
أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمد رسول الله .. الحمد لله ..
خرجت من الماء .. وأنا شخص آخر .. تغيرت نظرتي للحياة .
أصبحت الأيام تزيدني من الله قربا .. أدركت سر وجودي في الحياة ..تذكرت قول الله تعالى ( إلا ليعبدون )
صحيح .. ما خلقنا عبثا .. مرت أيام .. فتذكرت تلك الحادثة .. فذهبت إلى البحر ولبست لباس الغوص .. ثم أقبلت إلى الماء وحدي .. وتوجهت إلى المكان نفسه .. في بطن البحر .. وسجدت لله سجدة ما أذكر أني سجدت مثلها في حياتي .. في مكان لا أظن أن إنسانًا قبلي قد سجد فيه لله تعالى .. عسى أن يشهد لي هذا المكان يوم القيامة فيرحمني الله بسجدتي في بطن البحر ويدخلني جنته .. اللهم آميين ..
ــــــــــــــــ
من كتيب " في بطن الحوت " للشيخ محمد العريفي حفظه الله تعالى ..
مواقع النشر