الغيمه..../جبير المليحان

في كل مرة تسلك الغيـمـة الـكـبـيرة الملونة - بالأبيض ، والرصاصي ، والبني ، والأسود … - الممتلئة بالماء الغزير ، طريقها ، في سفرها الطويل في دروب الهواء العالي ، و هـي تنظر من علوٍ شاهقٍ فترى أرضاً صغيرةً صفراء ، تحدق بها بعيونها التي تشبه النجوم ، فلا ترى فيها لا حشرات تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك ....... لا شيء !
تتابع الغيمة طريقها ، كالعادة ، مخلفة هذه الأرض ، ولكنها تلتفت إليها ، و تلتفت و تفكر بها حتى تغيب ، وتسأل نفسها : لماذا لا توجد حياة بها ؟ حتى الأعشاب و الأشجار لا أثر لها !

- هل هي نائمة هذه الأرض ؟!

هكذا تقول الغيمة في كل مرةٍ تسافر عابرة فوق الأرض القاحلة ..

و هكذا قالت الغيمة ، في المرة الأخيرة ، و هي تعبر منحدراً ضيقاً في وادي السماء العالي !

- سوف أوقظها !

أكدت الغيمة لنفسها ، وهي ترى الأرض النائمة تختفي خلفها .


* * *
مرّ دهر طويل ، كانت الغيمة قد سلكت فيه الكثير من الطرق الطويلة، في شرق الأرض و غربها ، ورأت دروباً يانعة ، وأخرى يابسة ، غنية وفقيرة ، دروباً صغيرة ، و أخرى كبيرة ، رأت الأنيس والموحش ، النظيف والموحل ، حتى خالت نفسها تعرف طرق الدنيا كلها ، ولكنها ترى دروباً جديدة في كل رحلة ، و كانت تهمس لنفسها بالقول :

- هل هي طرق جديدة بالفعل تنشأ دوماً ، أم أن خيالي هو من يرى ذلك ؟!

و تمضي دون أن تمعن النظر في السؤال ، أو حتى تبحث عن إجابةٍ له .


* * *
الآن : و الغيمة ترى الأرض الصفراء تتمدد تحتها ، هناك في الأسفل ، دون حراك .. في هذا الوقت ، حيث تصفرّ حتى أشعة الشمس ، وهي تكاد تغرب ، تشعر الغيمة بالغيظ ، وتفكر بصوتها الراعد :

- هذه أرض كسلى ، لا تشبع من النوم !

وتـتـساءل :

- ماذا لو كانت أرضاً ميتة ؟!

غير أن هذا الخاطر لم يلبث طويلاً ، إذ في الوقت الذي بدأت فيه الشمس تلملم لونها الأصفر من فوق الأرض ، وتـنثر لوناً داكناً يزحف رويداً رويداً نحو السمرة والسواد حتى يغطي الأشياء .. و في الوقت الذي حجبت فيه الغيمة وجه النجوم ، و هي تحطّ أحمالها مقررة تنفيذ خطتها في ظلام الليل ، و في هذه الليلة بالذات !!

في هذا الوقت بالذات :

بعد أن تمكن الليل من ألوان النهار ، و استطاع أن يجمعها كلها في كيسه الكبير :

( تمّ كل ذلك بشكل ماكرٍ و بهدوء شديد : بدأ الليل ينفث لوناً رصاصياً ماداً إياه باتجاه النهار ، حتى يختلط بالأبيض ، ثم يزيد كميته حتى يصبح رمادياً - تساعده الرياح في ذلك - ثم تزداد كمية الرمادي حتى يتحول إلى الفاحم فالأسود ، في هذا الوقت تكون ألوان النهار ، قد انخدعت بلعبة الرياح التي تتغنى لها ، و تنشد الأناشيد ، وبألوان الليل التي تتراقص لها ، و تلتف من حولها ، وهي تسوقها إلى عباءة الليل : واسعة الفم ، حيث تسقط هناك .. و يتم حبسها حتى ينهي الليل مكائده ، ويغفو ، فيثب عليه الصباح خانقاً إياه ، فاتحاً فم الكيس …. تفر الأشعة من الفم الواسع ..وتأخذ بمطاردة ألوان الليل ……… ) .

في هذا الوقت بالذات أخذت الغيمة… تهزّ رأسها ، و استعادت صفوَ تفكيرها ، بعد أن انساقت لخواطر شتى .. الغيمة تقول :

- هذا هو الوقت المناسب لأوقظ هذه الأرض !

تضحك بسخرية وهي تقول :

- و إلى متى؟!!

تنظر إلى الأرض في سباتها ، هاهي تحتها الآن تغط بالسكون ، تحـوم حولها ، الظلام يغطيها تماماً ، تقدح قليلاً من برقها ، فتلمع الأرض صفراء نائمة ، تناديها ، لكنها لا تتحرك ، تبرق أكثر ، وترعد ، لكنّ هذه الأرض نائمة، تبرق ، وتزمجر …حتى تتعب ، تأخذ عيونها الكبيرة الواسعة بالبكاء ، تسكب كميات غزيرة من الدموع فوق الأرض ، تبكي الغيمة بحسرةٍ و أسى ، تبكي .

الأرض مازالت نائمة ، و الغيمة أفرغت ماء بكائها ، وتعبت ...، الغيمة تتعب ، وتقرر الرحيل ، لقد يئست من هذه الأرض ، ولن تهدر وقتها، تأخذ أحمالها : الألوان .. البروق .. الرعود.. الدموع المتبقية لها .. غضبها ..حماسها ..حبّها للأرض.. توقظ صديقتها الريح لتقود عربتها ، وتمضي في دروبها الطويلة في الوديان العالية !!


* * *
الغيمة تسرع ، و تطير بكل ما أوتيت الريح من قوة حتى تصل النهار ، في الديار الخضراء ، البعيدة ، المليئة بالناس والحركة والحياة .


* * *
هناك ، فوق هذه الأراضي الملونة الكثيرة في العالم : تنسى الغيمة الأرض اليابسة الصفراء ، وتمضي في عملها الدائم : السفر الدائم الدائم ، والطويل الطويل …


* * *
هاهي الغيمة الممتلئة بمياه أسفارها و أحزانها ، تنطوي على نفسها ، وتدخل في تفكير طويل.. إن الريح التي ترافقها ترى ذلك واضحاً في محيّاها ، تلتفت إليها وتقول :

- لم أتعود منك غير الرعد والبرق والمطر .. فما لك صامتة ؟

- أنت لم تدركي أننا ، ومنذ زمن طويل ، وبتجوالنا الدائم ، لم نرَ الأرض الصغيرة الصفراء التي …

- أعرف ..أعرف : التي لا حشرات فيها تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك !

- نعم .. لم نرها منذ زمن !!

هكذا قالت الغيمة وهي تهز رأسها بحيرة .

- ولكننا مررنا من فوقها قبل قليل !

غضبت الغيمة ، و زمجرت برعد ٍ قائلة :

- لا تسخري مني أيتها الريح الخفيفة .. أنا لم أرها ..إنني أعرفها !

- لا ، لا أسخر ، لكنها اخضرّت من دموعك التي أمطرتها بها تلك الليلة ، لقد نبتـت !!

كانت الغيمة غاضبة ، فلم تسمع ما قالته الريح : أرعدت مزمجرة ، و أبرقت بلمعان ٍ شديد ، و انطلقت بعيداً عن الريح ، في مشوارها الطويل ، باحثة عن الأرض الصغيرة الصفراء النائمة ، و هي تردد :

- سؤقظها .. سوف تستيقظ !!

من يومها ، و نحن نشاهد الغيمة تدور في الأعالي باحثة عن الأرض النائمة ، في سفر دائم و طويل ، وعندما تتعب تهجع فوق أحد الجبال ، أو أحد الوديان ، وتأخذ تلمع بالبرق ، وتنتحب بنشــيج مثل صوت الرعود !!

تناسب الاطفال


منقووووووووووووووووووووووووولل