السؤال

أرجو أن تفيدوني في المسألة التالية؛ التي أخشى أن تكون
سببًا في تنفير بعض الناس عن الإسلام، حينما يرون التناقض
بين تعاليم الإسلام وبين أفعال وسلوكيات البعض من أتباع
الإسلام، وسؤالي هو:
هل يمكن أن يجمع شخص مسلم، بين خصلة الكذب وحقيقة
الإيمان، فقد وجدنا بعض المسلمين يؤدي جميع فرائض
الإسلام، ومع ذلك لا يتورع عن الكذب،
فهل يُعتبر هذا الشخص من المؤمنين؟
وهل هناك كذب أبيض وآخر أسود؟!!
وما هي أشنع أنواع الكذب؟
وما هي عقوبة الكاذب في الدنيا والآخرة؟



الإجابة

يقول الأستاذ إبراهيم منصور
الباحث بقسم الشريعة بكلية دار العلوم:


الكذب خلق قبيح، ليس من أخلاق الصالحين ولا المؤمنين،
وإنما هو من أخلاق المنافقين، والفاسدين، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم :
"آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا
اؤتمن خان"
رواه الشيخان.

فالكذب ليس من خصال المؤمنين، ولا من شيم الصالحين،
وإنما هو من خصال المنافقين ، وخلال المفسدين ؛ الذين
يكذبون دائمًا، ويؤكدون كذبهم بالحلف، حتى في يوم القيامة
يكذبون أمام الله ، ويحلفون له كما كانوا يحلفون للمسلمين
في الدنيا، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون.

ومن أشد الكذب أن يقول الشخص فتوى أو حكمًا ويدعي
أن الله قاله ، أو أحله ، كالذين ينشئون كلمات سخيفة
ويدعون أنها من كلام الله، ولو كان مرادهم الضحك
والمزاح، فهؤلاء كذبوا على الله وقد جاء في القرآن
الكريم قوله – سبحانه وتعالى-:
(إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك
هم الكاذبون)
(النحل: 105).

وكالفتاوى الكاذبة؛ التى تحرض على قتل النفس التى حرم
الله ، و ادعاء أن طرق الجنة تمر من هنا وهناك، ونسبة
ذلك إلى شرع الله تعالى ، وكثير ما يفتري البعض أحاديث
لا صحة لها وينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا أيضًا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولو ادعوا أن فيها تشجيعًا على الخيرات، فإن في صحيح
كلام رسول الله ما يكفي للترغيب في الخيرات وفعل المبرات،
كقول البعض: إن الرسول قال: من يعمل أو يقل كذا فله كذا
من الحسنات، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدًا
فليتبوأ مقعده من النار"
رواه مسلم،

فليحذر المسلم من التكلم على لسان النبي بغير علم ومعرفة
وتحقق , فإما أن يتعلم الإنسان الأحاديث الصحيحة الثابتة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن لا يتكلم فيما لا علم له به

ومن الكذب المحرم الكذب لإضحاك الناس ولو مازحًا، فعن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إني لأمزح ولا أقول إلا حقّاً"
رواه الطبراني

وقد ورد "لا يصلح الكذب في جد ولا في هزلٍ"؛ لأن من كذب
مازحًا كذب جادًا ، وربما جر الكذب في المزاح إلى إيذاء أو
غيبة أو انتقاص للغير ، وقد يؤدي إلى إدخال الرعب لقلب
المكذوب عليه ، وهذا ليس من صفات الأبرار، ولا من فعل
الصادقين، ومن أراد المزاح فليمزح بما لا كذب ولا ضرر فيه،

ومن مظاهر الكذب المتعددة الكذب والتملق لأرباب الثراء
وأصحاب المناصب، فمن الناس من يتزلف لهؤلاء ويمدحهم
بما ليس فيهم، ويخلع عليهم صفات لا يستحقونها ، بل
وينشئون فيهم الأشعار والقصائد ، مع علمه بأنهم أقل
من ذلك، وأنهم لا يستحقون ما أُضفِي عليهم.

وقد سئل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :
"أيكون المؤمن جبانًا؟، قال: نعم، قيل: أيكون بخيلًا؟،
قال: نعم، قيل: أيكون كذابًا؟، قال: لا"
رواه مالك

هاتان الصفتان قد تكونان في الجبلة والطبع, ولكن الكذب
لا يكون إلا مكتسبًا، وهذا الذي يحاسب عليه الإسلام،
ويشدد فيه، أبلغ ما يكون التشديد.

وقد قال صلى الله عليه وسلم :
"عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر
يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق
حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي
إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل
يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"
متفق عليه

فالصدق فضيلة تكتسب بالتحري، وبالمجاهدة وبالرياضة
وبالتعود، وعلى المسلم أن يعود أبناءه منذ نعومة أظافرهم
على الصدق، وينهاهم عن الكذب.




ومن مظاهر الكذب البشعة:

الكذب على الأولاد، فكثيرًا ما يكذب الوالدان على أولادهما
الصغار رغبة في التخلص منهم أو تخويفًا لهم كي يكفوا عن
العبث واللعب أو غير ذلك، وكثيرًا ما يطلقون كلمات خبيثة
في الكذب، كقولهم: إن فعلت كذا الله يخنقك أو يعذبك، وهو
تكذيب للشريعة أيضًا، إذ إن المقرر عند المسلمين أن الولد
الذي دون البلوغ غير مكلف، ولا عذاب عليه فيما يعمله
قبل البلوغ، ولا شك أن هذه صورة سيئة، وقدوة أسوأ،
وإهمال في التربية والتوجيه، فينشأ الولد على ذلك، وقد
تلقن الكذب من أمه وأبيه ثم يطالب أن يكون صادقًا!!.

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أحد الآباء يقول
لابنه مرة: سأعطيك كذا وكذا، فقال له:
"هل تنوي أن تعطيه؟، قال: لا، قال: إما أن تعطيه وإما أن
تَصْدُقََه؛ فإن الله نهى عن الكذب، قال: يا رسول الله، أهذا
من الكذب؟، قال: "نعم، إن كل شيء يكتب، الكذبة تكتب
كذبة، والكذيبة تكتب كذيبة"
رواه أحمد وابن أبي الدنيا

وزد على ذلك: ما اشتهر من الكذب في البيوع والعقود وما
يتعلق بالأموال،، وأبشع من قول الكذب إستحلاله، والظن أنه
يسامح فيه في الهزل، أو في أول شهر نيسان؛ لأن من يدعي
حل الكذب على الإطلاق، أو في يوم معين كأول نيسان، فقد
أحل أمرًا حرمه الله، ومعلومة حرمته بين الناس، فمستحل
الحرام كمحرم الحلال.

ونص الفقهاء: أن من أحل حرامًا معلومًا من الدين بالضرورة
أي لايخفي علمه على عامة الناس وعلمائهم فقد كذب الشرع،
ومن كذب الشرع فقد كفر، فليحذر من هذه العادة القبيحة التى
انتشرت بين الناس، وليعلم أن الكذب في مثل ما ذكرنا كله
قبيح، وليس هناك كذب أبيض وكذب أسود، كما يهون ويلون
البعض الكذب، بأن هناك كذبة بيضاء، ومتى كان الكذب أبيض
وهو الذي يتبرء منه ويتهرب منه من هو فيه، لو قلت للكذاب
أنت كذاب لقال لا!! يكفي خزيًا في الكذب أن يتهرب من كان
فيه منه، وأن لا يوسم بالكذب إلا الأراذل من الناس؛ ولذلك
نزه الله تعالى وعصم أنبياءه الكرام عن الكذب؛ ليكونوا أسوة
لغيرهم - صلوات الله عليهم أجمعين.

والكذب يتفاوت قطعًا، فكلما كان ضرره أشد كان النهي عنه
أعظم، والإثم فيه أكبر، وهناك كذب يُعتبر من الصغائر، وكذب
يُعتبر من الكبائر.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم
عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذَّاب، وعائل مستكبر"
رواه مسلم.

وهؤلاء المذكورون في الحديث يرتكبون المعصية دون
حاجة إليها.



عاقبة الكذب:

وقد تُوعِّد الكاذب بعقوبات دنيوية مهلكة، وبعقوبات أخروية
مخزية، ومنها:

1. النفاق في القلب:
قال تعالى:
(فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله
ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)
(التوبة/ 77).

2. الهداية إلى الفجور وإلى النار:
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
" إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد
ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقا، وإن الكذب
فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى
الكذب حتى يكتب كذاباً "
رواه البخاري ومسلم

3. رد شهادته:
قال ابن القيم: وأقوى الأسباب في رد الشهادة والفتيا
والرواية: الكذب؛ لأنه فساد في نفس آلة الشهادة والفتيا
والرواية، فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال،
وشهادة الأصم الذي لا يسمع على إقرار المقر؛ فإن اللسان
الكذوب بمنـزلة العضو الذي قد تعطل نفعه، بل هو شر منه،
فشر ما في المرء لسان كذوب. "أعلام الموقعين"

4. سواد الوجه في الدنيا والآخرة:
قال تعالى:
(ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة)
(الزمر/60).





أقوال السلف رحمهم الله، في الكذب:

قال عبد الله بن مسعود:
إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى ما يكون للفجور
في قلبه موضع إبرة يستقر فيه، وإنه ليكذب ويتحرى الكذب
حتى ما يكون للصدق في قلبه موضع إبرة يستقر فيه.

وقال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه:
إياكم والكذب؛ فإنه مجانب الإيمان.

وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
المؤمن يطبع على الخلال كلها، غير الخيانة والكذب.

وقال عمر رضي الله عنه:
لا تبلغ حقيقة الإيمان حتى تدع الكذب في المزاح.

وختامًا:

نرجو أخانا الكريم أن نكون قد وفقنا في الإجابة عن
أسئلتك واستفساراتك، وبيان وجه الحق فيها، وفقنا الله
تعالى وإياك إلى ما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم
وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين