الدرس 16من أذكار الصباح والمساء ياحى ياقيوم برحمتك أستغيث
"يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كُله ولا تَكِلْني إلى نفسى طرفة عين"
الحديث المشتمل على الذكر الكريم
ورد هذا الدعاء في حديث صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها :
( ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به ، أو تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )
رواه النسائي في "السنن الكبرى" (6/147) وفي "عمل اليوم والليلة" (رق/46) ، والحاكم في "المستدرك" (1/730) ، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (112) ، وغيرهم. ولفظه في بعض الروايات : ( أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت ) .
قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/313) : إسناده صحيح .
وقال الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/227) : إسناده حسن .
وقد ورد هذا الدعاء ، بلفظ مقارب للمذكور هنا ، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ) .
رواه أحمد (27898) ، وأبو داود (5090) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3388) .
ثانيا :
هذا الدعاء من أعظم الأدعية التي تتضمن تحقيق العبودية لله رب العالمين ، وتتضمن التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته ، فهو سبحانه الحي القيوم ، الرحمن الرحيم ، والعبد يستمد العون والتأييد من قيوميته عز وجل ، كما يستغيث برحمته التي وسعت كل شيء ، لعله ينال منها ما يسعده في دنياه وآخرته .
ثم يسأل الله تعالى صلاح الأمور والأحوال ، فيقول : ( أصلح لي شأني كله ) أي : جميع أمري : في بيتي ، وأهلي ، وجيراني ، وأصحابي ، وعملي ، ودراستي ، وفي نفسي ، وقلبي ، وصحتي...في كل شيء يتعلق بي
اجعل يا رب الصلاح والعافية حظي ونصيبي .
وذلك كله من فضل الله سبحانه وتعالى ، وليس باستحقاق العبد ولا بجاهه ، ولذلك جاء ختم الدعاء بالاعتراف بالفقر التام إليه سبحانه ، والاستسلام الكامل لغناه عز وجل ، فيقول : ( ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) : أي لا تتركني لضعفي وعجزي لحظة واحدة ، بل أصحبني العافية دائما ، وأعني بقوتك وقدرتك ، فإن من توكل على الله كفاه ، ومن استعان بالله أعانه ، والعبد لا غنى به عن الله طرفة عين .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" مِن ههنا خذل مَن خُذل ، ووُفِّقَ مَن وُفق ، فحجب المخذول عن حقيقته ، ونسي نفسه ، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه ، فطغى وعتا ، فحقت عليه الشقوة ، قال تعالى :
( كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى ) وقال : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى )
فأكمل الخلق أكملهم عبودية ، وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين .
ولهذا كان من دعائه : ( أصلح لي شأني كله ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك )
وكان يدعو : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
يعلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل ، لا يملك منه شيئا ، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء ، كيف وهو يتلو قوله تعالى : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا )
فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به ، وحسب قربه منه ، ومنزلته عنده " انتهى.
"طريق الهجرتين" (25-26) .
وقال المناوي رحمه الله ، في شرح الرواية الثانية ، دعاء المكروب : " ومن شهد لله بالتوحيد والجلال مع جمع الهمة وحضور البال فهو حري بزوال الكرب في الدنيا والرحمة ورفع الدرجات في العقبى " .
"فيض القدير" (3/526) .
والله أعلم .
الشيخ محمد صالح المنجد
شرح معانى الذكر وتفسيره
حديثٍ مشتملٍ على دعوةٍ مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حديثٌ عظيم الشأن مرَّت الإشارة إليه في لقاءٍ سابق ، وهو حديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في وصيته لابنته فاطمة رضي الله عنها ، وهو مخرَّجٌ في سنن النسائي وغيره بإسنادٍ ثابت ؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)) .
وهذه الدعوة العظيمة التي يُشرع للمسلم أن يقولها كل صباح ومساء ، مرة في الصباح ومرة في المساء كما هو ثابت في هذا الحديث عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ، وهي وصية من أعظم موصٍ ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته التي هي سيدة نساء أهل الجنة كما صح بذلك عنه عليه الصلاة والسلام ، وهي وصيةٌ عظيمٌ شأنه ، دعوةٌ جديرٌ بالمسلم أن يُعنى عنايةً عظيمةً بها في صباحه ومسائه .
وقوله عليه الصلاة والسلام ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)) ؛ هذا توسل إلى الله تبارك وتعالى بهذين الاسمين العظيمين ، وقد ورد هذان الاسمان مجتمعين في ثلاثة مواضع من كتاب الله عز وجل : في آية الكرسي ، وأول آل عمران ، وقول الله عز وجل في سورة طه { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه:111] .
و«القيوم» لم يرد إلا مقترنًا مع اسم الله الحي في هذه المواضع الثلاثة .
و«الحي» ورد في مواضع كثيرة من القرآن الكريم . وقد ذهب بعض أهل العلم -وهو من جملة الأقوال التي قيلت في اسم الله الأعظم - أن هذين الاسمين هما اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى ، وممن ذهب إلى ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى .
وإلى هذين الاسمين ترجع جميع معاني أسماء الله وصفاته ؛ لأن اسم الله «الحي» دالٌ على ثبوت الحياة الكاملة لله سبحانه وتعالى ، حياةً لم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء ، أولٌ بلا ابتداء وآخرٌ بلا انتهاء ، الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء سبحانه وتعالى ، ولا يعتريها نقص { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة:255]
وهذا من كمال حياته ، لا يعتري حياته سبحانه وتعالى نقصٌ ، فهي حياةٌ كاملة تامة مستلزِمة لكمال صفاته سبحانه وتعالى . و«الحي» دال على ثبوت صفة الحياة ، والحياة صفة ذاتية ، وإلى هذا الاسم ترجع جميع الصفات الذاتية كالسمع والبصر وغيرهما من صفات الله تبارك وتعالى .
و«القيوم» دال على صفة القيومية لله عز وجل ، والقيومية تتضمن كمال الغنى وكمال القدرة ، فالقيوم : هو الكامل في صفاته ، الغني عن مخلوقاته . والقيوم : أي الذي تلتجئ إليه المخلوقات وتفتقر إليه ، فهو يدل على كمال الغنى ، فهو قيومٌ قائم بنفسه غنيٌ عمن سواه ، وقيومٌ مقيم لخلقه لا غنى لهم عنه طرفة عين ، قال الله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }[الرعد:33]
وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}[فاطر:41]
قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ }[الروم:25]
فهو قيومٌ قائم بنفسه غنيٌ عن خلقه ، وقيومٌ مقيم لمخلوقاته لا غنى لمخلوقاته عنه طرفة عين . وإلى هذا الاسم «القيوم» ترجع جميع الصفات الفعلية من الخلق والرَّزق والإحياء والإماتة والتدبير إلى غير ذلك هذه كلها من قيوميته سبحانه وتعالى .
فإلى هذين الاسمين ترجع جميع معاني أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته .
وعندما يستشعر العبد معنى هذين الاسمين «يا حي» ويلتجئ إلى الله عز وجل الحي الذي لا يموت ، ويوقن أن اللجوء لا يكون إلا لمن كان هذا شأنه ، أما الحي الذي سيموت ، أو الحي الذي قد مات ، أو الجماد الذي لا حياة له ؛ فهؤلاء الثلاثة لا يُلجأ إليهم ولا يُفتقر إليهم ولا يتوكل عليهم ، فاللجوء والافتقار والتذلل والانكسار لا يكون إلا للحي الذي لا يموت ، قال الله تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ }[الفرقان:58]
وفي الصحيحين أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان يقول في دعائه : «اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ»
هكذا كان يقول عليه الصلاة والسلام «أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ» ، ولما مات نبينا عليه الصلاة والسلام قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته العظيمة: «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت» ؛ فهذا التجاء إلى الله عز وجل وتوسل إليه بهذا الاسم العظيم «يا حي» ، ويستشعر الملتجئ إلى الله كمال حياة الله سبحانه وتعالى وأنه عز وجل الحي الذي لا يموت .
ثم توسلٌ باسمه تبارك وتعالى «القيوم» الدال على كمال غناه وكمال قدرته كما مر إيضاحه ؛ قيوم : أي قائم بنفسه غنيٌ عمن سواه ، وقيوم أي مقيمٌ لخلقه . وقيوميته سبحانه وتعالى التي هي تدبير هذه المخلوقات فيها دلالة على افتقار جميع المخلوقات إليه ، لا قيام لكل نفسٍ إلا به سبحانه وتعالى ، فهو القائم على كل نفس ، وهو المقيم لكل نفس ، وهو الذي بيده تبارك وتعالى أزمَّة الأمور ، فلا قيام لنفسٍ إلا بإقامة الله سبحانه وتعالى لها ؛ فهذا فيه افتقار المخلوقات إليه .
قال : ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)) ؛ قوله «بِرَحْمَتِكَ» هذا توسل إلى الله سبحانه وتعالى برحمته جل في علاه التي دل عليه اسمه «الرحمن الرحيم» ، وهما دالان على ثبوت الرحمة صفةً لله ، رحمةً قائمةً به سبحانه وتعالى، ورحمةً متعدية للمخلوقات { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا }[الأحزاب:43]
فهذا توسل إلى الله سبحانه وتعالى برحمته .
((بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)) ؛ والاستغاثة : طلب الغوث ، وهذا فيه أن العبد في هذه الحياة الدنيا في هلكة عظيمة إلا إن أغاثه الله ونجَّاه ، ولهذا قال بعض السلف : «ليس العجب ممن هالك كيف هلك ، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا» ، لأن في الدنيا فتن متلاطمة ، وصوارف كثيرة ، وصواد متنوعة ، وشواغل متعددة تعصف بالإنسان وتصرفه عما خُلق له ، ولهذا أكثر الناس هالكين ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }[يوسف:106]
فالناجون أقل من الهالكين ، الهالكون هو الأكثر .
ولهذا فإن العبد في هذه الحياة الدنيا على خطر عظيم إلا إذا أغاثه الله برحمته سبحانه ، أغاثه رحمةً منه به ولهذا توسَّلَ إلى الله برحمته ؛ وهذا فيه مراعاة للمقام أو مراعاة للمطلوب . ولهذا نجاة العبد بإغاثة الله سبحانه وتعالى هذا رحمة من الله بعبده ، ناسب في هذا المقام أن يتوسل إلى الله تبارك وتعالى برحمته أن يغيثه بأن ينجيه من الهلاك ، وأن يعيذه من الضلال ، وأن يعيذه من الفتن ، وأن يحفظ عليه دينه الذي لا نجاة له إلا به .
ثم قال : (( أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ)) ؛ وهذا من أعظم الدعاء وأجمعه لخير الدنيا والآخرة ، وفيه أن صلاح أمر العبد بيد الله سبحانه وتعالى ، فلا صلاح لشيء من أمر العبد إلا إذا أصلحه الله .
وقوله ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ)) يتناول صلاح أمر العبد في دينه ، وصلاح أمر العبد في دنياه ، وصلاح أمر العبد في أخراه ، وقد جمع عليه الصلاة والسلام هذه الأنواع الثلاثة من الصلاح في ما ثبت من دعائه في صحيح مسلم أنه قال : «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» .
فقوله (( أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ)) يتناول هذه الثلاث ؛ صلاح الدين ، والدنيا ، والآخرة .
وعندما تدعو الله عز وجل بهذه الدعوة ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ)) فإن هذا يتناول من الصلاح ما يخطر ببالك وما لا يخطر ببالك ، وفضل الله عظيم . وهذا يظهر لنا كمال الدعوات المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام وأنها جمعت الخير كله ، فأتت على جماع المطالب العالية وكمال المقاصد النبيلة مع عصمة دعواته وسلامتها من الخطأ .
ثم ختم بقوله ((وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)) وذلك فيه فقر العبد الذاتي إلى الله وعدم غناه عن الله في كل لحظة من لحظاته وفي كل وقت من أوقاته لا غنى له عن ربه سبحانه وتعالى طرفة عين ، ففقره إلى الله فقرٌ ذاتي ، كما أن غنى الله عن مخلوقاته غنى ذاتي ، فهو غني عن مخلوقاته من كل وجه ، ومخلوقاته فقيرة إليه سبحانه من كل وجه .
قال : ((وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)) أي ولا للحظة يسيرة ولا لوقت قليل ؛ فهذا فيه أن العبد فقير إلى الله في كل لحظة ؛ في قيامه ، وقعوده ، ودخوله ، وخروجه ، ونومه ، ويقظته ، وركوبه ، ونزوله ، في جميع شؤونه فقير إلى الله ، لا غنى له عن ربه سبحانه وتعالى طرفة عين .
ولا يحتاج أن يضاف على قوله ((وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ)) «ولا أقل من ذلك» ؛ لأن هذا استدراك لا حاجة إليه ولا فائدة من ورائه ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم كاملةٌ جامعة ، لأن قوله «طَرْفَةَ عَيْنٍ» هذا إشارة إلى الأقل أي ولا لشيء قليل ولا لوقت يسير ، و«طَرْفَةَ عَيْنٍ» يشار بها إلى هذا المعنى أي أقل وقت أو أقل شيء .
ومما يستفاد من هذا أن الثقة لا تكون إلا بالله ، كما أن التوكل لا يكون إلا على الله ، فإذا كنت تقول في دعائك « وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ »
فهذا فيه أن العبد لا يثق بنفسه ، ولاسيما إذا عُلم أن الثقة خلاصة التوكل وزبدة التوكل ، فالثقة لا تكون إلا بالله ، كما أن التوكل لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى ، ولهذا لما سُئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله كما في مجموع فتاويه هل يجوز أن يقول القائل "أثق بنفسي أو الثقة بالنفس" ؟
فبيَّن رحمه الله أن ذلك لا يجوز واستشهد بهذا الحديث ، قال : كيف يقول :أثق بنفسي" وهو يقول في دعائه « وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ » ؟! .
والعبد في هذا المقام مطلوب منه أمران : أن يبذل السبب المشروع المأذون به ، وأن لا يعتمد على السبب ؛ لا على نفسه ولا على السبب الذي بذله ، بل تكون ثقته بربه ، وتوكله على سيده تبارك وتعالى مولاه .
الحاصل أن هذه الدعوة دعوة عظيمة مباركة ، وهي وصية من أعظم موصٍ من عباد الله صلوات الله وسلامه عليه لسيدة نساء أهل الجنة ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها ؛ ومما يستفاد من ذلك : أن مما ينبغي على الآباء العناية بوصية الأبناء بالدعاء وتعليمهم المأثور عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، لينالوا بحفظ أدعيته والمحافظة عليها السلامة والعافية والغنيمة والبركة في دنياهم وأخراهم .
ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا أجمعين لكل خير ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيما ، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب . اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه.
الشيخ: عبدالرزاق البـــدر
مواقع النشر