بحث حول الحضارة الإسلامية





خطة البحث:
المبحث الأول : مدخل الى الحضارة الإسلامية.
المطلب 01 : تعريف الحضارة الإسلامية.
المطلب 02 : لمحة تاريخية للحضارة الإسلامية .
المطلب 03 : جغرافيات الحضارة الإسلامية .
المطلب : 04 عوامل قيام الحضارة الإسلامية.
المبحث الثاني :جوانب العامة الحضارة الإسلامية.
المطلب 01 : جوانب السياسية من الحضارة الإسلامية.
المطلب 02 : جوانب الاقتصادية من الحضارة الإسلامية.
المطلب 03 : جوانب الاجتماعية من الحضارة الإسلامية.
المطلب 04 : جوانب الدينية من الحضارة الإسلامية.
المبحث الثالث :عوامل انحطاط الحضارة الإسلامية.
المطلب01 : عوامل سياسية للحضارة الإسلامية.
المطلب 02 : عوامل الاقتصادية للحضارة الإسلامية.
المطلب 03 : عوامل الاجتماعية للحضارة الإسلامية.
المطلب 04 : عوامل العلمية للحضارة الإسلامية.
الخاتمة.

مقدمة :
إن الإنسان المعاصر الذي ينتظم في منظومة هذه الحضارة الزاهية، وينعم بترفها قد أنعم الله تعالى عليه بنعم لا تحصى، ذلل له الأرض حتى مهّدها وعبّدها، والجبال فألانها وهدّها، وأقام عليها بروجاً عظيمة، وشيد عمراناً كثيراً، ألان الله له الحديد فابتنى به مصانع كثيرة، واستخدمه في منافع عديدة، حتى اتخذ المراكب التي تنقله في البر والبحر والجو، فصار في مقدوره أن يقطع الأرض من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها في ساعات معدودة. حفر الإنسان الأرض فاستخرج كنوزها، وشغّل الحديد بطاقتها، فدارت الآلات في المزارع والمصانع تنتج للناس ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون، وما به يتنعمون ويترفون. حضارة عتيدة، وعمران ضخم، وتقدم سريع ، ولكن هل اعتبر الإنسان بمن مضوا في القرون السالفة، والحضارات البائدة؟ فسخر ما أنعم الله به عليه فيما يرضيه{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[(6-7) سورة العلق] طغى على ربه فجحد نعمته، وأعلن إلحاده وكفره حينما ظن أنه مركز الكون، والمتصرف فيه كيف يشاء، وأن عصر تدفق المعلومات سيلغي ما يسمونه بالأيديولوجيات بما فيها دين الإسلام والعياذ بالله! كيف ستكون حضارة بني الإنسان إذا كان من يسيرها قد أعرض عن ذكر الله وركب هواه؟! إنها إلى دمار ماحق، وهلاك عاجل أو آجل! إنه لن ينجي البشرية من شقائها، ولن يحافظ على حضارتها وعمرانها إلا التزام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده والاستمساك به ولا شيء غير ذلك.
المبحث الأول مدخل إلى الحضارة الإسلامية :
المطلب الأول تعريف الحضارة الإسلامية :
وأما الحضارة في تقدير الإسلام فغايتها الأولى تحقيق الطمأنينة والسلام والأمن وإقامة المجتمع الفاضل وإسعاد البشرية بما هو خير ومحاربة كل عوامل الشر.
وبما أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه فلا يصح أن يتخذ المرء في حياته غاية سوى ابتغاء مرضاة الله مصدر الأمن وهي الغاية السامية التي تتخطى مجرد طلب الملذات الحسية أو الغايات المادية الدنيئة وتحقق الانسجام والتوافق بين الفطرة الإنسانية والغاية العقلية كما أنها تهيئ التجاوب والانسجام الشامل في أفكار الانسان وخيالاته وإراداته ونياته وعقائده وأعماله وحركاته… وهذا يعني أن غاية حضارتنا إعداد الانسان للسعادة الأخروية المتوقفة على العمل الصالح في الحياة الحاضرة في نطاق الدين والدنيا معاً. إذ ليس الاسلام ديناً روحانياً بحتاً يعزل أتباعه عن الحياة ولا مادياً صرفاً يوقع الناس في أوحال الدنيا، وإنما هو يعتبر وسيلة ومزرعة للآخرة، ولا تعني الوسيلة أنه دين تقشف فلا يكون دين حضارة، فالتقشف والزهد في الاسلام هدف أخلاقي رفيع يتفاعل مع الحياة ويصرف المرء عن التكالب على متطلبات العيش ويوحي بضرورة التزام مبدأ القناعة الشريف الذي لا يؤدي إلى مصادمة الآخرين وإيقاد نار المنازعات والشرور.
إذن، فالإسلام في حقيقته مصدر الحضارة الإنسانية التي شعّ نورها بامتداد الدعوة الإسلامية بعد الاستقرار في المدينة وبناء الدولة فيها عقب اكتمال بناء الفرد في مكة، وذلك لأن الإسلام هو دستور التقدم الإنساني بالقرآن العظيم والسنة النبوية الشريفة. فكل ما يعد تقدماً وعمراناً هو من الإسلام وكل تخلف مضاد للتقدم ليس من الإسلام في شيء. لذا يخطئ الكاتبون سهواً الذين يريدون التوفيق بين الإسلام والحضارة كأنهما أمران متغايران أو ضدان، إذ لا خلاف مطلقاً بين الإسلام والحضارة، فالحضارة نتيجة من نتائج النظام الإسلامي والفلسفة الإسلامية التجريبية العملية.

المطلب الثاني لمحة تاريخية :
اهتمت الدولة الإسلامية التي أنشأها النبي [[محمد بن عبد الله]] واستمرت تحت مسمى الخلافة في الفترات الأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام كدين عالمي يحض على طلب العلم ويعتبرهُ فريضة على كل مسلم ومسلمة، لتنهض أممه وشعوبه. فأي علم مقبول باستثناء العلم الذي يخالف قواعد الإسلام ونواهيه. والإسلام يكرم العلماء ويجعلهم ورثة الأنبياء. وتتميز الحضارة الإسلامية بالتوحيد والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لاتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية. لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام. وكانت الفلسفة يخضعها الفلاسفة المسلمون للقواعد الأصولية مما أظهر علم الكلام الذي يعتبر علماً في الإلهيات. فترجمت أعمالها في أوروبا وكان له تأثيره في ظهور الفلسفة الحديثة وتحرير العلم من الكهنوت الكنسي فيما بعد. مما حقق لأوربا ظهور عصر النهضة بها. لهذا لما دخل الإسلام هذه الشعوب لم يضعها في بيات حضاري ولكنه أخذ بها ووضعها على المضمار الحضاري لتركض فيه بلا جامح بها أو كابح لها. وكانت مشاعل هذه الحضارة الفتية تبدد ظلمات الجهل وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن الإسلامي. فبينما كانت الحضارة الإسلامية تموج بديار الإسلام من الأندلس غربا لتخوم الصين شرقا في عهد الدولة الأموية كانت أوروبا وبقية أنحاء المعمورة تعيش في جهل وظلام حضاري.
وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه. فنهل منها معارفه وبهر بها لأصالتها المعرفية والعلمية. مما جعله يشعر بالدونية الحضارية. فثار على الكهنوت الديني ووصاية الكنيسة وهيمنتها على الفكر الإسلامي حتى لا يشيع. لكن رغم هذا التعتيم زهت الحضارة الإسلامية وشاعت. وأنبهر فلاسفة وعلماء أوروبا من هذا الغيث الحضاري الذي فاض عليهم. فثاروا على الكنيسة وتمردوا عليها وقبضوا على العلوم الإسلامية كمن يقبض على الجمر خشية هيمنة الكنيسة التي عقدت لهم محاكم التفتيش والإحراق. ولكن الفكر الإسلامي تمكن منهم وأصبحت الكتب الإسلامية التراثية والتي خلفها عباقرة الحضارة الإسلامية فكراً شائعاً ومبهراً.
فتغيرت أفكار الغرب وغيرت الكنيسة من فكرها ومبادئها المسيحية لتساير التأثير الإسلامي على الفكر الأوربي وللتصدي للعلمانيين الذين تخلوا عن الفكر الكنسي وعارضوه وانتقدوه علانية. وظهرت المدارس الفلسفية الحديثة في عصر النهضة أو التنوير في أوروبا كصدى لأفكار الفلاسفة العرب. وظهرت مدن تاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة وحلب والبصرة وبغداد ودمشق والقاهرة والرقة والفسطاط والعسكر والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر وغيرها. كما خلفت الحضارة الإسلامية مدنا متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كإستانبول بمساجدها ودمشق والقاهرة بعمائرها الإسلامية وحلب وبخارى وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة واشبيلية ومرسية وسراييفو وأصفهان وتبريز ونيقيا وغيرها من المدن الإسلامية
المطلب الثالث جغرافيات الحضارة الإسلامية :
إن مصطلح العالم الإسلامي يغطي المساحة من مضيق جبل طارق حتى مضيق Malaka ومن نهر التونا إلى بحر العرب, إن هذه العالم الإسلامي الذي يحتوى على ما يقارب مليار ونصف من البشر يمتد من الشرق إلى الغرب على طول 15 ألف كيلو متر ومن الجنوب إلى الشمال إلى 9 آلاف كيلو متر من جبال الأورال إلى موريتانيا ويغطى مساحات واسعة جدا.
ولو نظرنا إلى العالم الإسلامي الممتد الواسع بهذا الشكل سنظهر من البداية أن من وضع الخرائط الخاصة بمواجهة الحضارات مثل صموايل هونتنجتون قد أخرج الهندوس والبوذيين من هذه المنظومة وترك المسلمون والمسيحيون ليتحاربوا, وسنرى أيضا من هذه النظرة الواسعة لهذه الخريطة الواسعة الأطراف أن العالم الإسلامي غني بالثقافات لأنه بني على حضارات النهر الأصفر والهند وبلاد مابين النهرين ومصر وروما وغيرها من الحضارات. وسنجد أيضا هذا العالم الإسلامي غني بالموارد الطبيعية البحرية حيث أنه يحتوي علي العديد من البحار والأنهار والبحيرات مثل النيل والبحر الأبيض المتوسط وبحر الخزر ونهري دجلة والفرات والبصرة وبحار وبحيرات المغرب العربي وبالإضافة إلى تلك الموارد المائية فالموارد الجوفية فتحتوي هذه البقعة من العالم على أعلى كميات الموارد الجوفية من المعادن والبترول والذهب والماس.
فباختصار إن هذا العالم ا إسلامي المترامي الأطراف من سواحل إفريقيا الأطلنطية إلى جنوب المحيط الهادي ومن متجمدات سيبيريا إلى الجزر البعيدة في شرق آسيا يحتوي على العديد والعديد من الثقافات والحضارات مثل الصينية والمغولية والماليزية والبشتونية والطاجيكية والتركية والشيشانية والفارسية والكردية والعربية والرومية والبربرية والسواحيلية وغرها من الحضارات والثقافات الأفريقي

مطلب الرابع عوامل قيام الحضارة الإسلامية :
الأول:عامل السياسي والاجتماعي من الناحية السياسية والاجتماعية، كانت >يثرب< تعيش في ظل تنوع ديموغرافي يطبعه اختلال في موازين القوى لصالح اليهود على حساب العرب، كل ذلك في ظل غياب سلطة سياسية مركزية موحدة
هذه باختزال شديد هي الوضعية التي كانت تميز يثرب عشية الهجرة إليها· فما هي الإجراءات التي اتخذها الرسول [ لتأمين نواة الدولة الإسلامية الأولى الممثلة في المدينة المنورة؟ أو بتعبير آخر· ما هي عناصر المدينة الإسلامية كما وضعها الرسول [·
يمكن تصنيف هذه العناصر إلى نوعين، عناصر مادية وعناصر تنظيمية

. ثانياً:عامل اقتصادي توافر بنية اقتصادية معتبرة من خلال تنوعها ومستوى تطورها، فهناك الزراعة التي تعتبر يثرب إحدى أهم واحاتها في الجزيرة العربية إلى جانب الطائف وعسير وحضرموت··· فهذه المناطق كانت تمتاز بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وكثرة وتنوع أغراسها وقد كان التطورالزراعي في >يثرب< حصيلة الخبرة الزراعية التي أتى بها اليهود من بلاد الشام من جهة والعرب التي هاجرت من بلاد اليمن من جهة ثانية أما فيما يخص النشاط الصناعي والحرفي فقد قامت في >يثرب< مجموعة من الصناعات خاصة تلك تعتمد على الإنتاج الزراعي المحلي· كما عرفت بعض الصناعات التعدينية كصناعة الأسلحة والآلات المستخدمة في الري والزراعة
وأخيرا فإن النشاط التجاري كان له حضوره أيضا بحكم موقع يثرب كنقطة على طريق الشام فضلا على أن فائض الإنتاج الزراعي والصناعي يقتضي تطوير أساليب التجارة لصرفه نحو الخارج

د· أسامة عبدا لمجيد عبدا لغاني: >رؤية اقتصادية لأول وثيقة سنها الرسول [ في الإسلام< مجلة الإسلام اليوم (إسيسكو) العدد 13-1416هـ 1995/· ص: 20
2- نستثني هنا طبعا الاعتبارات المباشرة والمعروفة والمتمثلة بالخصوص في ترحيب أهل المدينة بالرسول [ وأصحابه بعد بيعتهم له (بيعة العقبة الأولى والثانية

المبحث الثاني جوانب العامة للحضارة الإسلامية :
المطلب الأول جوانب السياسية من الحضارة الإسلامية :
جاء الإسلام رحمة للعالمين، وجاءت تعاليم الإسلام لتضمن سلامة المجتمع البشري من التفكك والضعف والانحلال، ولتضمن سعادته في الدنيا والآخرة، ولقد تمسك بها الصحابة -رضي الله عنهم- فخضعت لهم الدنيا، وأسسوا للإسلام دولة واسعة الحضارة، قوية البناء، محبة للعلوم، والتاريخ خير شاهد على ذلك. لقد وضع الإسلام نظامًا لم يكن معروفًا في أي مجتمع من المجتمعات، ولم يكن هذا النظام تطورًا طبيعيًّا أو غير طبيعي لأي نظام سابق عليه.
إن نظام الحكم الإسلامي له أسسه وقوانينه الواضحة المستمدة من القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأهمية الحكم في الإسلام فقد اهتم الإسلام ببيان ما على الحاكم والمحكوم، فحذر الحاكم من إتباع الهوى وشهوات النفس، قال تعالى
{فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}
[ص: 26
وقال تعالى:
{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 49].
وحذر الله -سبحانه- المحكوم من العصيان دون سبب مقبول شرعًا، قال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59
وحرص الإسلام على أن يسود العدل بين جميع الناس، وحذر من الظلم وعواقبه، حتى مع غير المسلمين، قال تعالى:
{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا}النساء: 58
وقال رسول الله (: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) مسلم
خصائص النظام السياسي في الإسلام:
1- نظام عالمي:

النظام السياسي الإسلامي نظام عالمي، استمد عالميته من عالمية الإسلام ذاته، ومن صلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان، فجعل للعلماء القادرين على الاستنتاج واستخراج الأحكام الحقَّ في الاجتهاد في تفصيل الأحكام وتوضيحها بالشكل الذي يحقق أهداف الإسلام، ويدور في إطار أحكام الإسلام العامة، وقد جاءت أحكام الإسلام في أسلوبين:
الأول: أحكام تفصيلية محددة، تبين حكمها نصوص من القرآن واضحة الدلالة، لا خلاف في معناها، وأحاديث صحيحة من السنة وطرق أدائها، وهذه التعاليم لامجال للاجتهاد فيها بالزيادة أو النقصان مثل بعض أحكام الصلاة والزكاة والحج والمواريث وغيرها.
والثانى: أحكام جاءت من خلال الآيات التي يُختلف في تفسيرها، والأحاديث التي لم تثبت صحتها، أو ثبتت صحتها ولم يتفق العلماء فيها على معنى واحد، أو عبارة عن قواعد عامة في مجال المعاملات، وهذه من حق العلماء القادرين على الاجتهاد أن يبدوا الرأي فيها، بما يحقق مصالح المجتمع الإسلامي في زمن معين أو وضع معين، مع المحافظة على روح الشريعة، وتحقيق مقاصدها التي جاءت لمصلحة الناس.
2- المشاركة بين الفرد والمجتمع:
العلاقة بين الفرد والمجتمع في النظام الإسلامي علاقة مشاركة، فالإسلام لا يعترف بالفلسفات والمذاهب التي تجعل الفرد والمجتمع في صراع، وبعض هذه المذاهب يفضل جانب الفرد على المجتمع مثل الرأسمالية، وبعضها الآخر يفضل جانب المجتمع على جانب الفرد كما صنعت الشيوعية، أما الإسلام فهو يوازن بين الفرد والمجتمع، فهو يعترف بالمسئولية الفردية، أي مسئولية كل فرد عن أفعاله، قال تعالى:
{ألا تزر وازرة وزر أخري. وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 38-39]،
ويشجعه على أن يتفاعل مع المجتمع، ويؤدي ما عليه تجاهه، من خير يحمله إليه، وشر يدفعه عنه، فالفرد عليه تبعات تجاه نفسه، وتجاه مجتمعه، ملزم بأدائها.وينظم الإسلام ذلك من خلال مبدأ المسئولية الاجتماعية، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعرض الرسول ( لتوضيح هذه المسئولية الجماعية من خلال المثل الذي ضربه في حديثه: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا) [البخاري].
وعلاقة الفرد بالحكومة، علاقة تعاون، فقد أعطى الإسلام الفرد حقوقه الأساسية، وألزم الحكومة باتباع القانون الرباني، وحمى الفرد من تدخل الحكومة في شئونه دون مبرر، قال تعالى:
{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26].
وربط الإسلام الفرد المسلم بضوابط أخلاقية، وفرض عليه طاعة الحكومة المسلمة التي تطبق شرع الله، وطلب منه التعاون معها والتضحية بالنفس والمال في سبيل حمايتها، قال (: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي) [البخاري].
3- الحكومة الإسلامية نابعة من المجتمع الإسلامي:
فالإسلام لا يعترف بهيئة من خارج المجتمع الإسلامي تحكم الأمة عن طريق الاستيلاء على السلطة بالقوة وحكم الشعوب بالتسلط والقهر، قال تعالى:
{يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].
فقوله تعالى: (منكم) يحدد نوعية الحاكم والحكومة، وهي أنها حكومة إسلامية منا، وليست من غير المسلمين، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} [النساء: 141]. – التأثير المتبادل بين التعاليم والمبادئ:
نظم الحضارة الإسلامية، الخلقي منها والاقتصادي والسياسي، كل منها يؤثر في الآخر ويتأثر به، فمثلاً بدون التعاليم والمبادئ الخلقية لا يؤدى النظام الاقتصادي دوره المنشود، ويصعب الوصول إلى ما يدعو إليه من تعاون وتكافل بين الناس، كما يسهل تسرب الفساد إلى الأجهزة السياسية وغيرها.

5-تميز نظام الحكم الإسلامي عن النظم الغربـية:
فالنظم الغربية، تقوم على أساس الخضوع لحكم الأغلبية المطلقة -صالحة كانت أم فاسدة- فهي التي تشرع وتضع القوانين، وهي التي تحكم، أما في النظام الإسلامي، فالحاكم الحقيقي هو الله سبحانه، قال تعالى: {إن الحكم إلا لله}[يوسف: 40].
وسلطة الشعب المسلم والحكومة الإسلامية محدودة بالعمل تبعًا لأوامر الله، عن رضا واطمئنان وثقة وحب ورغبة.
المطلب الثاني جوانب الاقتصادية من الحضارة الإسلامية :

المال من أهم مقومات الحياة، جعله الله أداة لتيسير حياة الإنسان ومعيشته واستقراره، وجعله الله زينة من زينة الحياة الدنيا، فالإنسان مفتون به، مشغول بجمعه، قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران: 14].
وهذا الشغف بجمع المال قد يدفع الإنسان إلى عدم تحري الحلال في جمع المال، وبالتالي يصبح هذا الإنسان عبدًا للمال، ذليلاً له، كما أن ضعفه أو عجزه عن مقاومة شهواته وغرائزه قد يدفعه إلى إنفاق المال بصورة قد تضرُّ به وبمجتمعه، فوضع الإسلام ضوابط للكسب والإنفاق، وبين أن الناس مسئولون عن أموالهم وطرق إنفاقها، وحذرهم من انشغالهم بها عن آخرتهم أو افتتانهم بها، فجاء هذا بارزًا في قوله (: (لا تزولُ قدما عَبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ: عن عُمْرِهِ فيمَ أفناه، وعن علمِه فيمَ فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه) [الترمذي].
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: 9]، وقال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} [التغابن: 15].
وهناك أمور ينبغي على المسلم أن يعرفها عن المال، وهي:
1- أن هذا المال شأنه كشأن غيره مما في هذا الكون ملك لله.
2- هذا الكون بما فيه من مالٍ وغيره مسخر للإنسان تكريمًا له.
3- المال مال الله، والإنسان مستخلف فيه، فإن أحسن التصرف فيه؛ فله خير الجزاء، وإن أساء التصرف فيه؛ فحسابه على الله.
4- المال هو وسيلة لحياة كريمة عزيزة، لا غاية يسعى الإنسان لتحقيقها، ويضيع عمره من أجلها، فالمسلم الحق لا يدع حب المال يستبد به، بل يجمع المال من حلال، وينفقه فيما يحب الله.
5- المال الذي اكتسبه صاحبه من طريق حلال ملك له ملكية خالصة، يجب أن يحافظ عليه، ولا يجوز لأحد التعدي عليه.
وبناء على هذه المبادئ والأسس السابقة يكون للإنسان الحق في التصرف في ماله كسبًا وإنفاقًا وإدارة، وهي حقوق مترتبة على ملكية الإنسان للمال الذي جاء من طريق شرعي.
الطرق المشروعة في كسب المال
على المسلم أن يتحرى الحق والصواب في طلب المال، ومن هذه الطرق المشروعة:
- العمل الشريف: مثل الزراعة والصناعة والتجارة والوظيفة والحرفة، وغيرها، فممارسة العمل الشريف حماية للإنسان من التعطل وتوجيه لطاقته من أجل البناء والتعمير والتنمية، واستخراج خيرات الأرض، استجابة لأوامر الله.
وقد عمل ( والصحابة من بعده، فهذا أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- يعمل بيده لينفق على نفسه، حتى طلب منه المسلمون التفرغ للخلافة وأمور المسلمين. وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: إني لأرى الرجل ليعجبني قوله؛ فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني.
- الميراث: وذلك بأن تنتقل ملكية المال إلى ورثة المتوفى، طبقًا للقواعد الشرعية المقررة لهذا الميراث.
- الهبة: وهي أن يتنازل الإنسان عن بعض ماله إلى غيره دون مقابل، فتنتقل ملكية هذا المال إلى هذا الغير.
- الوقف: ويكون بحبس المال الحلال على بعض أوجه الإنفاق الشرعية، ولا يتصرف في أصله، والوقف قد يكون على الأهل والأقارب ومن بعدهم الفقراء، وقد يكون الوقف على أبواب الخير، مثل: بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو ما سوى ذلك من المشاريع الخيرية.
- الوصية: وهي أن يهب الإنسان إنسانًا آخر جزءًا من ماله لا يتجاوز الثلث، يأخذه بعد موت الموصي.
- غنائم الحرب: وهي المال الذي يؤخذ من أعداء الإسلام نتيجة الحروب، وقد أحل الله الغنائم للمسلمين.
- الفىء: وهو المال الذي يؤخذ من أعداء الله نتيجة استسلامهم، ولا يبذل المسلمون في ذلك مشقة، ولا يتكلفون فيه قتالاً.
الطرق المحرمة في اكتساب المال
حرم الإسلام بعض الطرق التي يكتسب بها المال، وهي:
الربا: حرم الله الربا بكل صوره، قال تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}
[البقرة: 275]، وقال (: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديْه وكاتبه) [مسلم وأصحاب السنن].
الاحتكار: وهو حرام لقوله (: (من احتكر فهو خاطئ (آثم)) [مسلم وأبو داود وابن ماجه].
العدوان: فلا يجوز للمسلم أن يعتدي على مال الآخرين ليأخذه، قال الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190].
الرشوة: فالمسلم الذي يحصل على ماله من طريق الرشوة آثم عند الله تعالى، قال الرسول (: (لعن الله الراشي والمرتشي) [أبو داود والترمذي].
الغش: فاكتساب المال من طريق الغش حرام لا يجوز، قال (: (من غَشَّ فليس منا) [مسلم وأبوداود].
وعلى المسلم أن يبتعد عن الشبهات، لقول رسول الله (: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) [متفق عليه].
استثمار المال
المال له أهمية عظيمة في إنعاش اقتصاد الدولة، وفي رفع مستوى معيشة الأفراد، والتخفيف من المعاناة التي يحس بها الإنسان، وقد كان أصحاب النبى ( يعملون ف

المطلب الثالث الجوانب الاجتماعية والثقافية :
. كانت البشرية قبل مجيء الرسول ( تعيش في ظلمات كثيرة، وتتخبط في الجهل، وكثُرتْ الوثنية، ووصل عدد الآلهة التي تُعبد من دون الله إلى عدد لم تعهده البشرية من قبل، وانتشرت المفاسد والشرور والمساوئ الأخلاقية، وشمل الفساد كل بقاع الأرض، ثم شاء الله أن يرسل نورًا يزيل به ما على الأرض من ظُلمة، فأشرقت شمس الإسلام، وتغيرت الموازين، ودبت الحياة في العالم.
وأقام الإسلام مجتمعًا متكاملاً، فبنى الفرد المسلم الصالح، فكان أساسًا لبناء المجتمع المسلم الصالح المترابط الذي يسير على منهج الله سبحانه، وكان لابد من تكوين مجتمع مسلم؛ ليحمل عبء هذه الدعوة مع الرسول (، والدفاع عنها بعد موته، ونشرها في كل أرجاء الدنيا.
وقد انشغل الرسول ( في بداية الدعوة في مكة بتربية الفرد المسلم؛ كأساس لبناء المجتمع المسلم، وقد تمثلت جوانب هذه التربية في عدة أمور، هي:
أولاً: تصحيح العقيدة:
أخرج الإسلام الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الواحد القهار، وإلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأخرجهم من عبادة المادة إلى عبادة الله، وأراد تحريرهم من التخلف العقلي والعقائدي، وترقيق مشاعرهم وأحاسيسهم، والسمو بها إلى أعلى منزلة، فوصل هذا الإيمان إلى أعماق قلوبهم، وحوَّل هذا الإنسان من الدفاع عن قبيلته وعشيرته إلى التفاني في سبيل الدفاع عن دينه وعقيدته، والعمل على نصر هذا الدين، والحرص على نشره، وتبليغه للناس ابتغاء مرضاة الله.
فهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر يدخل على رستم -قائد الفرس- فلا يهتم بالزخرفة والزينة التي تحيط به، فيقول له رستم: ما جاء بكم ؟! فيرد عليه ربعي قائلاً: إن الله ابتعثنا لنخرج مَنْ شاء مِنْ عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام.
ثانيًا: السمو الخلقي، والتخلق بأخلاق القرآن:
كان كثير من العرب يفعلون الفواحش والمعاصي، وعندما جاء الإسلام ألبسهم ثوب العفة والطهر، فغضوا أبصارهم، واستقبحوا الفواحش والمعاصي، وذلك بفضل الضمير الحي الذي يراقب الله ويخشاه، والذي رباه القرآن في المسلم، فإذا غلبه الشيطان والهوى ووقع في معصية، عاتبه ضميره، وسرعان ما يتوب، ويطلب أن يقام عليه الحد إن كانت المعصية مما يوجب إقامة الحد.
وكان العربي يحمل السيف ويعتدي على غيره بسبب وبغير سبب، وكانت الحروب تستمر بين العرب وبعضهم لفترات طويلة، فجاء الإسلام فحرَّم البغي والعدوان، ونشر الأمن والسلام، فصار الناس رحماء بعد أن كانوا معتدين.
ثالثًا: التحاكم إلى الله ورسوله:
كان العرب يتحاكمون فيما بينهم إلى شرائع توارثوها عن آبائهم، واحتكموا إليها بأهوائهم، فجاء الإسلام فأنهى تلك الفوضى، ورد الحكم إلى الله سبحانه، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء: 65].
رابعًا: المسئولية الشخصية والولاء للدين:
أكد الإسلام على المسئولية الشخصية، واعتبرها أساس المسئولية في الإسلام، وقد كان العربي -قبل الإسلام- يناصر قبيلته سواء كانت ظالمة أو مظلومة، فلا يهمه هل هي على حق أم على باطل، فجاء الإسلام فعلَّم المسلم أن أساس الحساب أمام الله هو المسئولية الشخصية، وعلَّم الإسلام الإنسان أن يكون ولاؤه لدينه فقط، قال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [المائدة: 55 ـ 56] .
خامسًا: تكريم المرأة:
اعتنى الإسلام بالمرأة عناية كبيرة، ورفع مكانتها، وأعلى منزلتها، قال
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: والله لقد كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل.
مظاهر عناية الإسلام بالمرأة:
1- قضى الإسلام على صور الزواج التي كانت عندهم، ما عدا الصورة الصحيحة التي عليها زواج الناس حتى الآن، لما في ذلك من تكريم للمرأة، وأنها ليست متاعًا لكل من أراده.
2- حفظ الإسلام للمرأة مكانتها، فقد كانت تورث كما يورث المتاع، فكان الابن الأكبر يرث نساء أبيه، كما يرث أنواع الميراث الأخرى، فجاء الإسلام فحرَّم ذلك.
3- لم يكن للمرأة عندهم ميراث، فلا ترث البنت من أبيها ولا الزوجة من زوجها، ولا الأم من ابنها، ففرض الله للمرأة ميراثًا، قال الله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبا مفروضا) [النساء: 7].
4- نهى الإسلام عن وأد البنات، (أي قتلهن أحياءً)؛ خوفًا من أن يأتين بالفقر أو بالعار.
5- منح الإسلام المرأة حق التعليم، فقد كان النساء على عهد رسول الله ( يذهبن إليه، ليسألنه في أمور الدين، وكن يسألن أمهات المؤمنين، وكان النبي ( يخطب العيد للرجال، ثم يذهب إلى النساء يخطب فيهن. وجعل الرسول ( طلب العلم واجبًا في حق كل مسل

المطلب الثالث جوانب العلمية :
أنزل الله -عز وجل- أول آية من كتاب الله تعالى تحث المسلمين وتحضهم على العلم والتعلم، قال تعالى: {أقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1-5]. وقد رفع الله -عز وجل- قدر العلماء حيث قال: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 17]. وقال الرسول ( مبينًا أهمية العلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [مسلم وابن ماجه].
وعندما أُسر المشركون في بدر، جعل الرسول ( فداء كل واحدٍ منهم أن يعلم عشرة من الصحابة، وقد نشط المسلمون في جميع العصور في طلب العلم والمعرفة حتى تركوا لنا ميراثًا حضاريًّا رائعًا، يعبر عن تفوقهم في كل مجالات الحضارة. وهناك وسائل عني بها الإسلام لاكتساب العلوم منها:
المساجد:
فهي أهم المنارات التي أضاءت للمسلمين طريق العلم والمعرفة، فكان أول شيء قام به الرسول ( بعد هجرته إلى المدينة بناء المسجد، مما يدل على أهميته في حياة المسلمين، وليعلموا أن المسجد هو أول خطوة في بناء الحضارة وتحقيق الازدهار والتقدم، فكان المسجد مكانًا لاجتماع المسلمين مع الرسول ( يسألونه ويجيبهم، ويتناقشون في أمور دينهم ودنياهم، وتقام فيه حلقات الذكر، ويجلس المسلمون صغارًا وكبارًا ليتعلموا القرآن وأمور الإسلام.
ومن أهم المساجد التي أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية: المسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس، والمسجد الأموي في دمشق، ومسجد عمرو بن العاص، والجامع الأزهر في مصر، ومسجد القيروان في تونس، ومساجد أخرى كثيرة خرَّجت لنا أجيالاً مسلمة واعية استخدمت العلم في خدمة الإسلام ورفع شأن حضارة المسلمين، ومن هنا ارتبطت نهضة الحضارة الإسلامية، بقيام المساجد بدورها على الوجه الأكمل.
الكتاتيب:
والكُتَّاب عبارة عن مكتب تعليمي، يتعلم فيه أطفال المسلمين القراءة والكتابة وأحكام تلاوة القرآن الكريم، ويقوم بتعليمهم أساتذة متخصصون في علوم القرآن، ويعد الكُتَّاب خطوة جديدة نحو تطوير المنشآت التعليمية بعد أن ضاقت المساجد عن استيعاب أعداد المتعلمين صغارًا وكبارًا، فانتشرت هذه الكتاتيب في كل بلاد المسلمين، وهذه مرحلة متطورة تدل على ازدهار العلم وارتفاع شأن العلماء والمتعلمين.
المكتبات:
وقد قام الحكام المسلمون بإنشاء المكتبات المملوءة بالكتب النافعة في مجالات العلوم، واشتهرت بغداد ودمشق والقاهرة بمكتباتها الزاخرة بأمهات الكتب في كل فروع المعرفة الإسلامية، ومن بين المكتبات التي نالت شهرة واسعة دار الحكمة التي أنشأها الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عام 395 هـ، ووضع فيها الكثير من الكتب، وقسمها إلى حجرات متعددة، بعضها للاطلاع وبعضها الآخر لحلقات الدراسة، وزينها بمفروشات جميلة، وجعل بها عمالاً لخدمة طلاب العلم، وكانت بها فهارس تسهل للطلاب الحصول على الكتب، وكان بها نظام الاستعارة.

المدارس:
وتعددت المدارس، وتنوعت ما بين خاصة بالخلفاء والحكام وأبنائهم، حيث المعاملة والخدمة المتميزة التي تؤهلهم لتولى المناصب القيادية في الدولة الإسلامية، وعامة لرعاية أبناء المسلمين في مختلف فروع المعرفة.
وقد برع الوزير السلجوقي (نظام الملك) في إنشاء العديد من المدارس، وكانت على درجة عالية من النظام والفخامة، وقد انتشرت هذه المدارس في بغداد وأصفهان والبصرة والموصل وغيرها، ومن أشهر هذه المدارس: مدرسة نور الدين محمود زنكي، وتعرف بالمدرسة النورية الكبرى بدمشق، وأنشأها سنة 563 هـ على مساحة واسعة، وجعل فيها قاعات للمحاضرات، ومسجدًا للصلاة، وحجرتين للمعلمين، ومسكنًا لخادم المدرسة، ومراحيض ليستخدمها الطلاب، وقد تميزت بروعة البناء ودقة وجمال تصميمها، وارتفاع مستوى التعليم فيها.
وكانت هذه المدارس منارات لتخريج العلماء، وقد وُضعَتْ بها نُظُمٌ عالية لاختبار قدرات الطلاب، وتوجيههم حسب كفاءاتهم ومواهبهم ومصاحبة الطلاب لأساتذتهم في مكان واحد، وتمتع الطلاب وخاصة المتفوقين بكافة الميزات والمكافآت؛ تشجيعًا لهم، إلى جانب العناية بالترفيه عنهم، وإقامة الرحلات المفيدة لهم، والاهتمام بتنمية أجسامهم وعقولهم. هذا بالإضافة إلى العناية بتعليم الفتيات، فقد اهتموا بهن اهتمامًا لا يقل عن الفتيان.
مجالات العلوم
ومن أهم مجالات العلوم التي اهتم المسلمون بتعليمها: العلوم الأصيلة، والعلوم المقتبسة.

أولاً: العلوم الأصيلة:
هي العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأصول الدين وما يخص الأمة من آداب وتاريخ، وقد أبدعها المسلمون أنفسهم، ولم يقتبسوها من غيرهم، ومن أبرز هذه العلوم:
- علم القراءات القرآنية:
وُجدت القراءات مع وجود القرآن الكريم، فقد كان جبريل -عليه السلام- يُقرئ النبي ( بأكثر من طريقة؛ تيسيرًا على الناس؛ لاختلاف لهجاتهم، واهتم صحابة الرسول ( بحفظ القرآن وتدوينه وتعليمه، واشتهر من بينهم بحفظ القرآن علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كع

المطلب الرابع الجوانب الدينية :
لقد جاء الإسلام بتشريعات وقوانين حفظت للناس حقوقهم، وضمنت لهم الفلاح في الدنيا والآخرة. والمصادر الأساسية للتشريع الإسلامي هي:
القرآن الكريم
القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49].
وشرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولذلك لا يجوز لأحد أن يتركه ويحكم بما سواه، وكل من جاء بتشريع يخالف شرع الله فيحل ما حرَّم الله، أو يحرم ما أحل الله، فهو خارج عن الملة.

ولقد اعتبر الله عز وجل المشرعين آلهةً يُعبدون من دونه، ولقد شرح النبي ( هذا الأمر لعدي بن حاتم عندما دخل عليه (، وهو يقرأ قوله تعالى:
{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
وكان عدي قد دخل النصرانية في الجاهلية وأُسرت أخته وجماعة من قومه، ثم أطلق رسول الله ( سراح أخته، فرجعت إلى أخيها، فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله (، فقال عدي لما سمع النبي يتلو هذه الآية: إنهم لم يعبدوهم. فقال رسول الله (: (بلى، إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فتلك عبادتهم إياهم) [أحمد والترمذي].
والقرآن الكريم لم يترك شيئًا إلا ذكر حكمه إما نصًّا وإما ضمن القواعد العامة التي جاءت فيه لما يجد من أمور في كل عصر من العصور، قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام: 38].
والقرآن الكريم به نوعان من الأحكام:
- أحكام ثابتة وردت فيها نصوص قرآنية، وهذه لا دخل للعقل فيها إلا الاستنباط من النصوص وتوجيهها.
- قواعد عامة غير ثابتة، للقادرين على الاستنباط حق الاجتهاد فيها، ووضع النظريات والقواعد، بشرط ألا يتعارض ذلك مع القواعد العامة للإسلام.
ومن هذه القواعد العامة غير الثابتة، ما جاء به الإسلام في مجال السياسة والاقتصاد وغير ذلك.
السنة النبوية الصحيحة:
وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] . وقال تعالى:
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65].
ولذلك يجب علينا أن نحتكم إلى سنة الرسول في الأمور التي لا نجد لها حكمًا ظاهرًا في القرآن الكريم، وأن نرضى بها دون شك، ولا تحرج؛ لأن السنة
إما أن تبين أحكامًا موجودة في القرآن،
أو تفصل أحكامًا عامة مجملة فيه،
أو تأتي بأحكام جديدة،
فمثلاً ذكر القرآن الصلوات وأمرنا بها، ولكنه لم يذكر عدد ركعاتها، ولا هيئاتها ولا طريقة أدائها، فجاءت السنة ووضحت ذلك بالتفصيل، وغير ذلك كثير في أمور العبادات والمعاملات.

الإجماع
لا خلاف بين العلماء على أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله وسنة رسوله (، والإجماع هو اتفاق المجتهدين من أمة رسول الله ( في عصر من العصور بعد وفاته ( على حكم شرعي اجتهدوا فيه ليس فيه نص من الكتاب أو السنة، ولا إجماع عند الفقهاء إلا بسند من كتاب الله وسنة رسول الله .
والمجتهدون هم العلماء العارفون بأدلة الفقه من القرآن والسنة وآراء العلماء، وكيفية استخراج واستنباط الأحكام، ولقد استشهد العلماء على أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع بعدة أدلة من القرآن والسنة؛ أما أدلة القرآن فمنها قوله تعالى:
{ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا} [النساء: 115].

وسبيل المؤمنين الحق هو ما اتفق عليه المجتهدون منهم.
وأما أدلة السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة؛ منها قوله (: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله تعالى، والنصح لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم) [ابن ماجه]. وقال (: (يد الله مع الجماعة، ومن شذ؛ شذ في النار) [الترمذي].

القياس
وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله وسنة رسول الله ( والإجماع.
وقد جاءت امرأة إلى رسول الله ( فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: (حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قَاضِيَتِهِ؟). قالت: نعم، قال: (فاقضوا الذي لله، فإن دَيْنَ الله أحق بالوفاء) [متفق عليه]. فهذه الحادثة توضح استخدام الرسول ( للقياس، فقد قاس أمر الحج على أمر آخر، وهو قضاء الدين، فإن كانت تستطيع أن تقضي الدين عن أمها، فهي تستطيع أن تحج عنها.
فالمجتهد إذا قابلته مسألة ولم يجد لها حلاً أو حكمًا صريحًا في كتاب الله وسنة رسول الله (، ولم يكن في هذه المسألة إجماع من الفقهاء، لم يكن أمامه إلا أن يبحث عن مسألة شبيهة بها، وحكمها معروف، وتوجد علة (سبب) تجمع بينهما، فإن حكم المسألة المجهولة يكون حكم المسألة المعلومة الحكم، وهذا هو القياس.

وجمهور الفقهاء مجمعون على أن القياس حجة، ويستدلون على حجيته بالكتاب والسنة وأفعال الصحابة، فأما أدلة القرآن فيقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء:59]. ورد الأمر إلى الله ورسوله معناه أن يُرجع ما فيه خلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله (، فيقاس ما ليس فيه حكم على ما فيه حكم، لوجود علة تجمع بينهما.
وأما الأدلة عليه من السنة النبوية المطهرة فكثيرة، منها الحديث الذي ذكرناه في أول الكلام عن القياس، وأما أفعال الصحابة، فمنها أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختاروا أبا بكر -رضي الله عنه- خليفة وبايعوه، لأن النبي ( اختاره لإمامة الصلاة وإمامتهم فيها، فقاس المسلمون الإمامة العامة على إمامة الصلاة، وقالوا: اختاره لأمر ديننا أفلا نختاره لأمر دنيانا؟!
والإجماع والقياس يحتاجان إلى جهد كبير واجتهاد مضنٍ من العلماء في استخراج الأحكام، كما أضاف العلماء مصادر وأدلة أخرى لاستنباط الأحكام، كالمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، ما لم يخالف شرعنا، وقول الصحابي إذا كان ملائمًا لروح الشريعة، وهكذا يتضح مدى تميز الجانب التشريعي في الإسلام، وأثره في بناء حضارته
المبحث الثالث عوامل انحطاط الحضارة الإسلامية :
المطلب الأول عوامل السياسية الحضارة الإسلامية :
- ما أصاب العالم العربي الإسلامي من تمزّق في وحدته السياسية، إذ حلّت الكثرة محل الوحدة، وقامت على أنقاض الدولة الواحدة ممالك ودول عدة، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فإذا كانت سلطة الخليفة في العصر الأموي قد امتدت من الأندلس غرباً إلى سمرقند شرقاً، فإن هذه السلطة لم تعد تتجاوز في القرن الأخير من التاريخ العباسي (السابع للهجرة ) الثالث عشر للميلاد ( مدينة بغداد وضواحيها. ولقد تعزز هذا الانقسام السياسي بتمزق الوحدة الدينية، إذ أخذ يتنافس على زعامة المسلمين، منذ القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) ثلاثة خلفاء: عباسي في بغداد وأموي في قرطبة، وفاطمي في القاهرة.
ولاشك في أن هذه الانقسامات جميعاً، أدت إلى اندلاع الحروب بين القوى الإسلامية، ودفع المسلمون عامة الثمن غالياً من أرواحهم واقتصادهم ومدنيتهم. ويكفي أن نقرأ ما دار في المشرق العربي والإسلامي من حروب بين السلاجقة والفاطميين والعباسيين. لندرك كيف استُنفدت طاقات الأمة، المادية والأدبية، وكيف قطف الصليبيون ثمار هذه الحروب في أواخر القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر للميلاد). كما علينا أن نتذكر قصة الحروب التي دارت في الأندلس بين ملوك الطوائف وأثرها على مصير العرب المسلمين وحضارتهم.

2 – إن الإرهاب السياسي الذي عمّ العالم العربي والإسلامي، كان له أبلغ الأضرار على كل ألوان النشاط الحضاري في المجتمع الإسلامي. فقد أصبحت مبادئ الإسلام في الشورى والمساواة والعدالة والتسامح في واد، والممارسات السياسية في واد آخر. فقد تحكم الأتراك المرتزقة بمصير الخلفاء العباسيين منذ أواسط القرن التاسع الميلادي، فكم من خليفة قتل أو خُلع وسُملت عيناه أو ألقي في نهر دجلة. ثم حلّ طغيان البويهيين منذ أواسط القرن الحادي عشر الميلادي. واستمر هذا الإرهاب السياسي في عصر المماليك (1250 – 1517م) الذي كان فيه الحكم لمن غلب. ولنتذكر، مثلا، كيف كان مصير السلطان عز الدين أيبك وشجر الدر والسلطان قطز.. إلخ.
وخلال هذه العصور من الإرهاب السياسي والصراع على الحكم لم تتردد القوى الإسلامية في استخدام أكثر الأساليب وحشية لتثبيت سلطانها وتصفية المنافسين لها. أما جماهير الأمة، فقد كانت تحتضن همومها وآلامها، ولا علاقة لها بصنع القرار، بل سُحق شعورها بالانتماء إلى الأرض والحضارة، وأخذت تبحث عن قوتها اليومي قبل القرطاس والقلم.
المطلب الثاني عوامل الاقتصادية من الحضارة الإسلامية :
ا يستطيع أي باحث، مهما كان انتماؤه الأيديولوجي أن يتجاهل أثر الاقتصاد في ازدهار الحضارة وسقوطها. فالزراعة في المشرق العربي والإسلامي خضعت منذ القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر للميلاد)، إلى نمط جديد في الإنتاج، وهو ما عُرف بالنظام الإقطاعي – العسكري، ويقضي هذا النظام، بأن يقطع السلطان كل قائد في جيشه إقطاعاً من الأرض بدلاً من المرتبات التي كان يتقاضاها من الدولة، وفي المقابل يتعهد هذا القائد، أي المُقطع، بأن يخضع للسلطان مباشرة، ويؤدي ما عليه من التزامات مادية واجتماعية وعسكرية، وهذا النظام أطلق أيدي القادة والأجناد في الأرض والفلاحين الذين يعملون فيها، دون أن يكون هناك رقيب أو قانون يحاسبهم، اللهم إلا السلطان نفسه. وقد اكتمل تطبيق هذه النظم في مصر والشام في العصر المملوكي. وبغض النظر عن التفاصيل المتعلقة بهذا النظام، فإنه ألحق الكوارث بالأرض والفلاح. وقد تجلى ذلك في الضرائب الشرعية وغير الشرعية، النقدية والعينية، التي انتزعت من الفلاحين، هذا فضلاً عن الطرق الوحشية التي كانت تجبى بها. وبالرغم من شكاوى الفلاحين، فإنها لم تصل في معظمها إلى مع السلاطين. وقد دفعت هذه الاضطهادات الفلاحين إلى الفرار من الأرض إلى المدن، مما ترتب عليه خراب الأرض الزراعية من ناحية، وخلق المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في المدن من ناحية أخرى. وبالإضافة إلى هذا، علينا أن نتذكر ما أصاب عناصر الإنتاج الزراعي من تعاقب الأوبئة والطواعين والفياضانات والجفاف.
كما تدهورت التجارة في العالم العربي والإسلامي تدهوراً كبيراً لا بسبب الضرائب والمكوس الشرعية وغير الشرعية وعمليات الابتزاز والمصادرة التي كان يعاني منها التجار فحسب، وإنما أيضاً نتيجة تجزئة العالم العربي والإسلامي والحروب الأهلية، وما ترتب عليها من انعدام الأمن والسلام على امتداد الطرق التجارية وانتشار القرصنة في البر والبحر، وإهمال الطرق والمسالك والمحطات البريدية ووضع العراقيل أمام انتقال التجار بين الدول الإسلامية المتنازعة.
كما أن احتلال الصليبيين للساحل الشامي، ولمدة قرنين تقريباً (1098 – 1291م) أدى إلى حرمان التجار العرب والمسلمين من البحر المتوسط وأسواقه وموانئه، ومن دورهم كوسطاء بين الشرق والغرب، حيث انتزع هذا الدور الأوربيون عامة والإيطاليون خاصة. كما أصيبت الحركة التجارية بأضرار بالغة من جراء الصراع بين العرب والصليبيين والغارات الصليبية على القوافل التي كانت تنقل السلع والمتاجر بين الشام ومصر والجزيرة العربية، كما ألحقت الغزوات المغولية المتلاحقة بدءا من أيام جنكيز خان ( 1227م) وهولاكو (1265م) وحتى تيمور لنك ( 1406) كوارث حقيقية بالتجارة العربية والإسلامية، حيث نهب المغول ودمّروا عشرات من المدن التي كانت تشكّل مراكز تجارية كبرى مثل سمرقند وبخارى وبغداد.. إلخ.
وأخيراً تلقت التجارة العربية والإسلامية ضربة مميتة على يد البرتغاليين، ذلك أن اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1498 على يد فاسكو دو جاما، فتح طريق جديداً بين أوربا والهند، وبالتالي خسر العرب والمسلمون دورهم في التجارة الدولية، كما فقد البحر الأحمر أهميته كطريق رئيس بين الشرق الأقصى وأوربا، وخسرت دولة المماليك في مصر والشام مورداً ضخماً من مواردها الاقتصادية.
ولم تكن الصناعة بمنأى عمّا تعرضت له الزراعة والتجارة من مصاعب. بل إن تدهور الصناعة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتدهورهما، فقد عانى الصنّاع والحرفيون من عمليات الابتزاز والمصادرة، التي كانت تمارسها الدول الإسلامية، ومادامت معظم الصناعات كان تتركز في المدن، فقد عانت مما كان يجري في المدن من دمار وخراب وقتل وسلب وحرائق، كام تلقت الصناعة ضربات مؤلمة على يد المغول، حيث نقل جنكيز خان مئات الصنّاع والحرفيين من المدن الإسلامية، التي استولى عليها مثل نيسابور وغيرها إلى منغوليا
المطلب الثالث عوامل الاجتماعية من الحضارة الإسلامية :
يرى فريق من الباحثين أن انصراف الطبقات الحاكمة والفئات المتحالفة معها، ولاسيما منذ العصر البويهي عن قيم الإسلام وأخلاقه ومثله، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يُعد عاملاً مهماً من عوامل انحطاط الحضارة العربية الإسلامية، فالفصل بين الدين والحياة، وبين القيم والأخلاق الإسلامية والممارسات السياسية، أدى إلى الانغماس في الكثير من المفاسد والانحرافات الأخلاقية والأمراض الاجتماعية التي هدّت المجتمع من الداخل، واستنفدت قوى أبنائه العقلية والجسدية معاً. هذا فضلاً عن هيمنة ثقافة الخوف وقيم الخنوع والاستسلام للواقع، وانتشار الرياء والنفاق والتزلف الذي كانت تشجعه الطبقات الحاكمة.
الأسباب الخارجية
مع تسليمنا بما ذهب إليه الكثير من الباحثين، من أن العوامل الخارجية لا تُسقط الحضارة – إن لم تكن هذه الحضارة نفسها قاب قوسين أو أدنى من السقوط – فإننا لا نستطيع أن نغفل أثر بعض هذه العوامل في تدهور الحضارة العربية الإسلامية، وأهمها:
1 – سقوط صقلية بأيدي النورمان. من المعروف أن النورمان استغلوا الانقسامات التي دبت بين الأمراء العرب في صقلية ونجحوا في انتزاعها منهم عام (1091م)، وقد خسر العرب بذلك مركزاً مزدهرا ومتقدماً لحضارتهم في جنوب أوربا، وموقعا استراتيجيا مهماً في البحر المتوسط.
2 – الحروب الصليبية (1098 – 1291). لاشك في أن الحروب الصليبية قد استنفدت الموارد الاقتصادية لدول المشرق العربي، التي حملت لواء الجهاد ضدهم، وبخاصة الدول الزنكية والأيوبية والمملوكية. فقد كانت مسألة شراء الأسلحة والحديد والأخشاب والرقيق وبناء القلاع والحصون، تأتي في أولويات مشاريعها ونفقاتها، كما أن حالات التوتر والقلق والحماس الديني، الذي عمّ أبناء المشرق العربي، وعلى امتداد قرنين من الصراع مع الصليبيين، قد شغل الناس عن مسائل العلم والثقافة من ناحية، وألحق أبلغ الأضرار بالاقتصاد الذي يستند إليه التقدم الحضاري من ناحية أخرى.
3 – الغزوات المغولية: تعد الغزوات المغولية أكثر الغزوات التي تعرض لها العالم العربي والإسلامي قسوة ووحشية. فقد دمر المغول أيام جنكيز خان عواصم العلم والثقافة والتجارة في شرق العالم الإسلامي مثل: سمرقند وبخارى ونيسابور وغيرها، وبما كانت تحتويه من مئات المساجد والمدارس والمكتبات والأسواق، هذا فضلاً عن قتل وتشريد آلاف العلماء والأدباء. ونهب كنوز وثروات تجمّعت فيها عبر العصور. وفي أيام حفيده هولاكو، اجتاح المغول المشرق العربي، وكان نهب بغداد (عاصمة الخلافة العباسية) وتدميرها كارثة حضارية وإنسانية. ثم جاءت غزوات تيمورلنك لتذكر العالم بفظائع أسلافه المغول.
4 – سقوط الأندلس بأيدي الإسبان: قبل سقوط جزيرة صقلية بيد النورمان كان قد بدأ الإسبان. ما عرف باسم «حرب الاسترداد»، أي استرداد الأندلس من العرب المسلمين. ونجح هؤلاء في انتزاع الأندلس قطعة قطعة، حتى انتهى الوجود العربي فيها بتسليم بني الأحمر غرناطة للإسبان عام 987 – 1492. وقد خسر العرب بذلك بلداً متميزاً بثروته الاقتصادية وموقعه الاستراتيجي على الشاطئ الغربي للمتوسط. كما أن خروجهم يعني أنه لم يعد لهم موطئ قدم في القارة الأوربية، هذا فضلاً عن أنهم فقدوا بلداً حضارياً مزدهراً، بل كان متفوقاً في الكثير من الميادين على حضارة إخوانهم في المشرق آنذاك.
ويهمنا أن نؤكد على أنه قد رافقت الحروب الطويلة، بين العرب والإسبان، في الأندلس، الكثير من أعمال التدمير لمظاهر الحضارة العربية، كما فرّ الآلاف من العلماء العرب المسلمين إلى المغرب العربي ومصر والشام. ومما زاد الأمر سوءا أن الإسبان أنفسهم اتخذوا موقفاً مناقضا لموقف نورمان صقلية تجاه الحضارة العربية، حيث انتهجوا سياسة استهدفت محو آثار العرب المادية وتراثهم العلمي، بل لم يتردد الإسبان المتعصبون، وفي مقدمتهم رجال محاكم التفتيش، في إحراق الكثير من المكتبات ودور العلم العربية التي كانت تزخر بها المدن الأندلسية، فأحد رؤساء الأساقفة، مثلاً، قام بإحراق ثمانين ألف مجلد من كتب التراث العربي بعد جلائهم عن الأندلس.
المطلب الرابع عوامل العلمية:
يعد تدهور الحياة العلمية سبباً من أسباب انحطاط الحضارة العربية، ومظهراً من مظاهره. فقد غابت الأفكار المبدعة واختفت العقلية العلمية لتحل محلها الخرافات والغيبيات، فالأدب انشغل – منذ العصر الأيوبي وحتى العثماني – في تطريز العبارات وزخرفة الكلمات دون الاهتمام بالمحتوى الفكري. كما استمر المؤرخون – باستثناء بعضهم أمثال ابن خلدون (ت 1406م) والمقريزي (ت1441م) – في الاهتمام بسير الخلفاء والسلاطين والملوك والأعيان، ولاشك في أن هذا الانحطاط الفكري يعود إلى أسباب عدة منها:
1 – غياب رعاة العلم من خلفاء ووزراء، فالضعف أصاب مؤسسة الخلافة نفسها، فقد انتهى عصر العباسيين الأوائل الذي كان يعد فيه الخلفاء من العلماء، ويعقدون مجالس العلم والأدب في بلاطهم وينفقون على المؤسسات العلمية ورجالها، ويدفعون الذهب ثمناً لشراء المخطوطات وترجمتها. أما خلفاء العصور العباسية المتأخرة فلم يعد العلم هماً يشغلهم.
2 – إن الدول الإسلامية، ربطت العلم ومؤسساته ربطاً محكماً بمصالحها، منذ بدايات العصر السلجوقي، حقيقة أسس الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 1092م) المدارس وبنى الأيوبيون والمماليك الكثير منها في مصر والشام، ولكن ذلك لم يؤد إلى نهضة علمية شاملة، لأن هذه الدول هيمنت على التعليم ومؤسساته ووجهتها نحو ميادين تخدم مصالحها السياسية والمذهبية والإدارية. والدليل على ذلك:
أ – ارتباط التعليم في تلك المدارس بالأوقاف التي خصصت لها، أي أن النفقة عليها كانت مرهونة بتنفيذ شروط الواقف، فأي خلل بهذه الشروط تتوقف النفقة وتغلق المدرسة. أي أن استمرار هذه المدرسة أو تلك مرهون برضاء صاحب الوقف – سواء أكان سلطاناً أو أميراً – على مناهجها وأساتذتها وطلابها.
ب – إن الذين كانوا يتخرجون في هذه المدارس لم يشكلوا طبقة من العلماء، وإنما طبقة من الموظفين، يعملون في دواوين الدولة ومرافقها العامة.
ج – إن معظم العلوم التي كانت تدرّس آنذاك هي العلوم الدينية، لأن الهدف من تدريسها كان دينياً ومذهبياً، وقد برز هذا واضحاً في الدولة الأيوبية، التي قامت على أنقاض الدولة الفاطمية، ومن ناحية أخرى، فقد أهملت العلوم الطبيعية والفلسفية، حيث عزفت المدارس – مثلاً – عن تدريس الفكر الإغريقي الذي كان مصدراً من مصادر الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي.
3 – وكان الإرهاب الفكري الذي مارسته الدول الإسلامية منذ العصر العباسي الثاني عاملاً أساسياً في تدهور الحياة الفكرية للحضارة العربية، وقد بدأت تباشر هذا الإرهاب في القضاء على المعتزلة، الذين كانوا يحملون راية العقل. ووصل الإرهاب الفكري إلى ذروته في العصرين البويهي والسلجوقي. وتروي المصادر أنه عندما دخل عضد الدولة البويهي (ت 983م) بغداد أمر رئيس ديوان الرسائل (الإنشا) آنذاك، وهو إبراهيم بن هلال الصابني، بأن يؤلف كتاباً في تاريخ دولة بني بويه، قديمه وحديثه. فامتثل إبراهيم للأمر وأخذ يشتغل في تصنيفه، ولكن أبلغ عضد الدولة أن صديقاً لإبراهيم دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التسويد والتبييض، فسأله عمّا يفعل، فقال «أباطيل أنمّقها أكاذيب ألفّقها». فأمر عضد الدولة بأن يلقى إبراهيم تحت أرجل الفيلة. ولولا شفاعة كبار كتّاب الديوان لقضى إبراهيم نحبه، حيث وافق عضد الدولة أخيرا على إبقائه على قيد الحياة، وأن تصادر أملاكه ويُزج به في السجن. وظل هذا المؤرخ العظيم في السجن إلى أن أطلق سراحه في أواخر أيام عضد الدولة.
الخاتمة :
ذه بعض جوانب قصة ضعف حضارتنا وانحطاطها، وهي قصة طويلة ومعقّدة، ومسرح الأحداث فيها واسع وفسيح. والعوامل التي أسهمت في صوغ فصولها كثيرة ومتداخلة، بحيث لا يمكن الفصل فيما بينها فصلاً قاطعاً. وتبقى هذه القصة، في حقيقتها، هي حكاية تمزّقنا، ومنازعاتنا، وفشلنا في حفظ حضارتنا «كما يحفظها الرجال..»، هي قصة اغتيال العقل والحرية في تاريخنا، أمة وأفراداً.
قائمة المصادر والمراجع :
*القران الكريم
*الحياة الاقتصادية في العصور الاسلامية الاولى.د.محمد ضيف الله بصاينة دار الكندي للطباعة والنشر والتوزيع-الاردن.دار الطارف-عمان-مجمع الفحيص التجاري
*عبد الرحمان بن خلدون ص.548 –تحقيق وتعليق وشرح د.علي عبد الواحد وافي.دار نهضة مصر القاهرة
* اطلس الحضارة الاسلامية.داسماعيل راجي الفاروقي د.لوس لمياء الفاروقي.المعهد العالمي للفكر الاسلامي
*جوانب من الحضارة الاسلامية عبد الرحمان علي الحجي.الطبعة الاولى 1399 ه-1979م-الصحوة النقرة-شارع بيروت –عمارة الزاحم-مقابل السنترال الجديدة.
*اسباب الانحطاط للحضارة الاسلامية د.محمد عمر شابرا-الناشر معهد العالمي للفكر الاسلامي ص272 الطبعة الاولى


منقول