اللوحة العاشرة |
... |
ما الذي أبكاكَ في هذا المساءْ |
خشبُ السقفِ أم الألواحُ |
أم أنَّ البكاءْ |
دائماً يأتيكَ من غير اختيارٍ |
كُلَّما جاءَ الشتاءْ |
وتغنيتَ وكانَ البَرَدُ الشادي |
على السقفِ غناءْ |
إنني وحدي وظلِّي |
خوفَ أن ينهارَ سقفُ البيتِ |
للهِ أصلّي |
والرجاءْ .. |
أن يفي بالوعدِ هذا المطرُ الهاطلُ |
فالأرضُ لهُ عَطْشى |
وسقفُ البيتِ ماعادَ له حِملٌ |
وقدْ كانَ الدعاءْ |
حينما مرَّ جفافُ الأرضِ بالأمسِ |
وللأرضِ اشتهاءْ |
للمراعي والبذورْ |
وإذا ما أطْرَقَ الصيفُ على أوجاعِها العطشى |
على أشدْاقها اخْضرَّتْ نذورْ |
عَبَرَ الماءُ من السقفِ وثبنا بارتباكٍ |
ثم سطَّرنا القدورْ |
فوق فَرشِ البيتِ |
فالصوفُ إذا ابْتَلَّ |
تَمطى عَفَنَاً طعماً لذا كانَ البخورْ |
في زوايا البيتِ في سعيٍ يدورْ |
ولنا في كلِّ قدرٍ يمتلي بالماءِ والطينِ دُعاءْ |
آه لو يقضمُ هذا المطرُ الهاطلُ |
سَقْفَ الأغنياءْ |
أينَ نُلقي الماءَ فالماءُ حصارْ |
حولَ بيتً منه قد ضاقَ الجدارْ |
فالتجأنا للسماءْ |
بيدٍ مبتلةٍ بالماءِ والطينِ |
وقد بانَ الضياءْ |
من عيونِ السقفِ وانْزَاحَ العناءْ |
فكأنَّ السقفَ أعمى |
أبْصَرَ الآنَ وكانَ الكبرياءْ |
لبقايا السقفِ في هذا الصباحْ |
وكأن الغيمَ قد فرَّ من الشمسِ |
على وعْدِ اللقاءْ |
بغدٍ عْندَ المساءْ |
قد أعادَ الماءُ طينَ الأرضِ للأرضِ |
ولكنَّ البقاءْ |
حَتَّمَ العودةَ أن نحملَ طينَ الأرضِ للسقفِ |
وأنْ يبقى البناءْ |
في صراعٍ |
كلَّما جاءَ الشتاءْ |
*** |
اللوحة الحادية عشرة |
... |
تلكَ كانت قِصصُ الجدِ وكانَ |
الموقدُ الشّتويُّ نارْ |
قسوةُ الأرضِ على الأهلِ |
كإعصار البحارْ |
كَمْ تصافحنا مع الدفءِ |
تعانقنا على الجمرِ حصارْ |
كانَ بردُ الخوفِ أقسى |
منحَ الدفءَ فرارْ |
... |
تلكَ كانتْ قصصُ الجد لأيامِ العذابْ |
كلَّما حدَّقَ فينا |
أبْرَقتْ عيناهُ وانهارَ واكتئابْ |
يَدهْ .. فصلٌ من الماضي |
وعيناهُ كتابْ |
نقرأُ الفاتحةَ الأولى |
ونطوي صفحةً أخرى |
من العمرِ المُذابْ |
بينَ ملحِ البحرِ والشمسِ التي |
أمْطَرتْ سُمرتها وجهاً فشابْ |
قَبَل أن يدركَهُ الشيبُ |
وصدرٌ .. يمضغُ التبغَ ويجتَرُ الشبابْ |
... |
تلكَ كانتْ قصصُ الجدِ وكانتْ |
علْبةُ التبغِ كنعشٍ للحريقْ |
يدهُ تمتدُّ باستحياء كالعذراءِ لمَّا |
صادفتْ وجهَ غريبٍ في الطريقْ |
فاستشاطتْ بالخطى راجفةً |
ضاقتْ سماها من سماه |
ليس إلا هو في هذا الطريقْ |
ليس إلا هو لو تدنو خُطاه |
كان جدي بارتعاشٍ يسحبُ العلبةَ |
تهتزُ يداه |
فترى الأمسَ بعينيهِ طَليقْ |
غصَّ بالدُخَّانِ من فرطِ أساه |
وعلى عينيهِ يخضَّرُ البريقْ |
مدَّ للماضي ذراعاً احتواه |
كانَ جدي يرصدُ الدُخَّانَ |
كالفاقدِ جاه |
اللوحة الثانية عشرة |
... |
لَمْ يَزَلْ وصفي لذاكَ اليومِ |
وصفاً قَدَرياً للقدرْ |
لم أزَلْ أعجزُ عن إيجادِ معنى |
لارتسامِ الأمسِ في كلِّ أحاديثِ السمرْ |
لانقضاضِ الوجهِ في كلِّ التعابيرِ |
وفي كلِ التفاسيرِ أثرْ |
لم أزلْ احتفظُ من جارتنا بعضَ الأحاديثِ |
عن الألفةِ مازالَ صداه |
عشتِ بعد المائة باثنينِ وعشرين تَقزَّمتِ |
وصارَ القبرُ في حجمِ سجاجيد الصلاة |
آه يا جارتَنا الأكبرَ من أيامنا عمراً |
ويا جارتَنا الأصغرَ من أجسامنا حجماً |
ويا سِرَّ الحياة |
كم تحمَّلتُكِ في الليلِ دَليلاً |
حينما نمشي على ضوء الفوانيسِ بلا أي حذرْ |
وقطعنا خِرقْةَ الليلِ |
وعادَ الرتقُ لليلِ فلمْ يَبق أثرْ |
غير بعضٍ من خُطانا |
عَبَرَتْ قَبْلَ قليلٍ |
حينما الضوءُ عَبَرْ |
وطوينا الدربَ بالضحكِ كَما تُطوى |
السجاجيدُ من السطحِ إذا جاءَ الشتاءْ |
ووصلنا بيتَ فطوم وقد كان العزاء (1) |
فيه من موتِ ابنها أحمد في البحرِ |
وقدْ كان البكاءْ |
في ازديادٍ مع كلِّ الداخلينْ |
وتقلَّبْتِ على صدرِ النساءْ |
تمسحينْ الدمعَ من عينِ وأخرى تحضنينْ |
وتساءلتُ عن الحزنِ وقد كنتِ معي |
قبلَ قليلٍ تضحكينْ |
كانَ عمري وقتها تسعَ سنينْ |
قالت الألفةُ بينَ الناسِ فأكْبُرْ |
سترى الألفةَ نبراساً ودينْ |
قد كبرتُ الآنَ |
أيقنتُ الذي ضيعهُ الناسُ من الحبِ |
فأشقاني اليقينْ |
آه ياجارتَنا الأكبرَ من أيامنا عمراً |
ويا جارَتنا الأصغرَ من أجسامنا حجماً |
ويا بحرَ الحنينْ |
آه لو عدتِ لنا الآن |
فماذا تصنعينْ |
_________ |
فطوم: اسم تنادى بن فاطمة (1) |
مواقع النشر