الجزء الحادي عشر



ـ خالة ليلى...

رفعت عينيها عن الرواية الفرنسية التي كانت بين يديها في استغراب. و ما إن وقعت عيناها على الملاك الصغير الذي يقف على ساق و يحرك الأخرى متمايلا في دلال و هو يجمع كفيه خلف ظهره، حتى ملأت الابتسامة وجهها و همست في حنان :
ـ تعالي، رانيا...

اقتربت الصغيرة بخطى مترددة و غمغمت مجددا بصوت رقيق :
ـ خالة ليلى... هل تأتين معنا إلى المزرعة؟

قربتها ليلى منها أكثر، بعد أن وضعت الرواية على المقعد المجاور من الصالة العلوية حيث تجلس، و لم تتمالك نفسها أن قبلتها في حب... ثم سألتها في اهتمام :
ـ مع من ستذهبين إلى المزرعة؟

أخذت الفتاة تعد على أصابع يدها بصوت مرتفع :
ـ مع ماما... و الخالة ليلى... و رانيا...

ثم مدت يدها إلى ليلى مبرزة الإبهام السبابة و الوسطى، و هتفت :
ـ نحن الثلاثة!

ابتسمت ليلى و هي تتأمل عيني الفتاة الشفافتين، و كأن البراءة نفسها تطل من مقلتيها... ثم انحنت إلى الأمام و همست إليها في حذر و هي تلهو بخصلات شعرها الكستنائي السبط بين أصابعها :
ـ و عمك فراس... ألن يذهب معنا؟

بدا على رانيا التفكير للحظات، لكنها سرعان ما أفلتت من ليلى، و ركضت إلى الجانب الآخر من القاعة في اتجاه الممر. تابعتها ليلى في تعجب. لكن ما لبثت أن تناهى إلى مسامعها حفيف و وشوشة آتيان من الممر... و ماهي إلا ثوان حتى عادت رانيا و هي تركض من جديد. وقفت أمام ليلى التي كتمت ضحكتها بصعوبة، و قالت :
ـ عمي أمين سيأخذنا...

ابتسمت ليلى من جديد، في ارتياح... و قالت مداعبة :
ـ و أين بابا إذن؟ ألا يحب بابا المزرعة؟

كان من الواضح أن الصغيرة لا تملك الجواب على هذا السؤال أيضا... همت بالركض مجددا إلى مصدر إلهامها القابع في الممر. لكن ليلى أمسكتها من ذراعها و هي تضحك، و قالت :
ـ تعالي... لا داعي إلى البحث عن جواب هذا السؤال...

ثم رفعت صوتها هاتفة :
ـ منال، يمكن الخروج من مخبئك! كشفتك!

أطلت منال برأسها ضاحكة. ثم نظرت إلى ابنتها متظاهرة بالغضب و هتفت :
ـ رانيا... ألم أوصك بأن لا تخبريها بأنني هنا!

عبست رانيا و صاحت في احتجاج و دموعها على أعتاب مقلتيها :
ـ أنا لم أقل شيئا!

احتضنت ليلى الصغيرة و هي تعاتب منال :
ـ لا تصرخي في وجهها... رانيا لم تقل شيئا... لكنني كشفتك بذكائي!

ضحكتا معا، ثم انصرفت منال لتستدعي أمين و دخلت ليلى غرفتها لتغير ملابسها. بعد قليل عادت منال و على وجهها علامات الاستياء :
ـ أمين ليس في غرفته... و العم صابر يقول بأنه لم يقض ليلته في القصر! أين تراه يكون؟

عقدت ليلى حاجبيها متفكرة. كانت آخر مرة رأته فيها ليلة البارحة في الحفلة، أراد أن يعرفها على الضيوف، لكنها تركته حين رأت فراس... هزت رأسها لتبعد عنها صورة فراس التي تبادرت إلى ذهنها من جديد، بعد كل الجهد الذي بذلته لتبقيها بعيدا... كانت قد قررت أن تنسى الموضوع مؤقتا، ريثما تستقر حالتها الصحية و تتماسك، فالدوار لا يزال يعاودها بين الحين و الآخر، و لم تتحمل الانفعالات... و لكن يا ليتها تستطيع!

ـ ما الحل إذن؟

فكرت منال لبرهة ثم التمعت عيناها و هي تقول :
ـ ليس أمامي إلا أن أفسد على ياسين قيلولته!

أخذت رانيا من يدها و همست إليها :
ـ تعالي حبيبتي... سأرسلك في مهمة...

ابتسمت ليلى و هي تراقبهما مبتعدتين و منال تلقن صغيرتها تفاصيل خطتها الجديدة...


*********


سرحت ببصرها إلى الخارج عبر نافذة السيارة التي أبطأت من سرعتها عند مرورها بمركز المدينة. كانت الشوارع مزدحمة و السيارات تسير متقاربة. تاهت نظراتها في الطريق... و أخذها التفكير. كلما كانت على سفر، أو في رحلة من مكان إلى آخر، تراودها أفكار غريبة، بخصوص رحلتها الطويلة... تلك التي يسمونها الحياة! لكن اعتبارها لحياتها اختلف منذ وصلت إلى هذه البلاد... كانت أول محطة لها في حياتها... هنا استنشقت أول أنفاسها... لكنها غادرتها سريعا، و لم تحمل معها أية ذكرى عنها... و الآن، هاهي قد عادت... فكم سيدوم مكوثها هذه المرة؟ أم تراها عودة نهائية؟ سرت في جسدها قشعريرة... لا تدري لم ساورتها تلك الشكوك، بأنها قد تقيم هنا إلى أمد بعيد...

أخرجها صوت ياسين من تأملاتها و هو يسألها :
ـ ليلى... هل قمت بالتسجيل في الجامعة؟

ابتسمت في استغراب... إنه أول شخص يهتم بدراستها و جامعتها!
ـ ليس بعد... فأنا لا أعلم بعد كم تطول إقامتي هنا...

تذكرت والدها الذي لم يتصل بها منذ سفره، و يكتفي بالاطمئنان عليها عبر خالها... فاكتست ملامحها الحزن و أشاحت بوجهها إلى النافذة حتى لا يلمح أحد عبرتها... إنه اليوم الخامس لغيابه عنها...

ـ أرى أنه من الأفضل أن تسجلي... تحسبا للظروف...

التفتت إليه في اهتمام و دهشة... بدا في صوته شيء ما... شيء يوحي بأنه يعلم أكثر مما يقول!

ـ يمكنني الاهتمام بملفك... إن أردت سأستعلم في الجامعة عن الأوراق اللازمة و آجال الترسيم...

هزت رأسها موافقة و هي تطالع صورته في المرآة العاكسة، و همست بكلمات شكر خجولة. ياسين ليس من النوع الثرثار، و احتكاكها به كان قليلا جدا منذ وصولها. لكن احساسا غريبا راودها و هو يسألها عن التسجيل و الدراسة... كأنها عادت طفلة صغيرة، يحدثونها عن المدرسة الجديدة...

هتفت منال التي كانت تجلس إلى جوار زوجها في المقعد الأمامي :
ـ تتحدث كأنك ستكلف نفسك عناء التنقل إلى الجامعة! كل ما ستفعله هو إرسال أحد الموظفين ليقوم بما يلزم!

ضحك ياسين ضحكة عالية و هو يقول :
ـ و ما فائدتهم إذن!

حولت ليلى بصرها إلى النافذة من جديد... و راحت تتصفح الوجوه... وجوه سائقي السيارات الحانقين و المنفعلين من تعطل حركة المرور المرهقة في مثل هذا الوقت من اليوم... تعالت أصوات المنبهات حين اقتربت سيارة ياسين من المخرج المؤدي إلى الطريق الزراعية... و بصعوبة تمكن من الانسلال عبر الطريق الجانبية... فجأة توقفت نظرات ليلى عند سائق إحدى السيارات. شاب يخفي عينيه خلف نظرات شمسية و يرخي ذراعه عبر النافذة، متقدما في هدوء، كأن كل ما يحصل حوله لا يعنيه... كان الوجه مألوفا، بل أكثر من مألوف...

همست غير مصدقة و هي تتابع السيارة التي انحرفت في اتجاه آخر :
ـ مأمــــــــون!!!

استدارت كلية إلى الخلف و هي تتابع بنظرات قلقة السيارة التي راحت تبتعد حتى ابتلعتها أمواج السيارات المتحركة و اختفت خلف بنايات الشارع.

شدتها رانيا، التي كانت تجلس إلى جوارها، من سترتها و هي تتساءل :
ـ ماذا هناك خالة ليلى؟

استقامت في جلستها مجددا و قالت بصوت ينم عن عكس ما تقول :
ـ لا شيء يا حبيبتي... لا شيء...

لكن نظرة الشك و القلق لم تفارق عينيها...
طالعها ياسين عبر المرآة العاكسة في انتباه... لم يغفل عما حصل منذ قليل، و هو الذي كان يراقب حركاتها منذ البداية. عقد حاجبيه في اهتمام... يبدو أن الأحداث ستتقدم بأسرع مما كان منتظرا...


*********


ـ العشاء جاهز...

ركضت ليلى خلف رانيا التي قفزت إلى الشرفة و هي تطلق صيحات امتزجت بضحكها الطفولي، و سارعت لتختفي خلف الخالة مريم. دست الصغيرة رأسها في ثوب العجوز ظانة أن ليلى لن تراها طالما أنها لا تراها بدورها! اقتربت منها ليلى في حذر و هي تمسك ضحكتها، و بهدوء، وضعت إكليل الزهور التي قطفتاها معا على رأسها. فتحت رانيا عينيها متوجسة و أبعدت وجهها عن حضن المربية ببطء، ثم رفعت كفها لتلمس شعرها، و حين وجدت الإكليل، صرخت من جديد في احتجاج و انطلقت لتطارد ليلى...

وضعت مريم كفيها عند خصرها و هي ترمقهما مبتسمة :
ـ قلت العشاء جاهز يا بنات!

ظلت ليلى تدور حول الأريكة طورا و تختبئ خلف المقاعد طورا آخر في مناورات رشيقة... و رانيا تحاول الوصول إليها عبثا، و قد ملأتا المنزل الريفي الهادئ صخبا و هرجا... و أخيرا، ارتمت ليلى على مقعد وثير و قد أنهكها التعب، كانت تتنفس بسرعة و هي تمسح حبيبات العرق التي تجمعت عند جبينها... لم تستطع أن تتوقف عن الضحك، خاصة حين استغلت رانيا فرصة جلوسها، فرفعت جسدها الصغير على أطراف أصابعها لتضع الإكليل أخيرا على رأس ليلى.

صرخت ليلى متظاهرة بالتكشير :
ـ هذا غش!

في حين أخذت رانيا تقفز و تهتف هتافات الفرح... غير عابئة باحتجاجها...

ـ ماذا تلعبان؟

التفتت ليلى لتلمح منال داخلة و هي تتأبط ذراع ياسين في حركة رومانسية... عادا للتو بعد جولة طويلة في الحقول المحيطة بالمنزل... أملاك عائلة القاسمي...

استوت ليلى في جلستها ما إن انتبهت إلى وجود ياسين و أجابتها ليلى و هي تقاوم نوبة الضحك التي تمكنت منها :
ـ صنعنا إكليلا من الزهور التي قطفناها في الحقل... ثم كل منا تحاول أن تضع الإكليل على رأس الأخرى... كانت مطاردة ممتعة...

هتفت الخالة مريم للمرة الثالثة :
ـ العشاء جاهز... تفضلوا من هنا...

هذه المرة تحرك الجميع و تحلقوا حول المائدة التي تزخر بما لذ وطاب...


رفع ياسين عينيه عن صحنه و نظر عبر الشرفة... كانت الشمس قد مالت إلى المغيب، و اكتسى الأفق لونا أحمر دافئا... قال محدثا منال التي كانت تضع الملعقة في فم رانيا :
ـ تأخر الوقت... بسرعة، يجب أن نعود...

حدجته منال بنظرة احتجاج :
ـ ألا ترى أنني أطعم رانيا!

مسح يديه في حركة عصبية و هو يغمغم :
ـ تعلمين أن والدي يقدس وجبة العشاء العائلية... على الأقل نجلس معه على المائدة... و تنهي رانيا عشاءها هناك...

استسلمت منال على مضض... همت ليلى بالوقوف، لكن الخالة مريم التي كانت تجلس إلى جوارها، أمسكت بذراعها مبتسمة و قالت مخاطبة منال و ياسين :
ـ ليلى ستظل عندي الليلة... كانت الأمسية قصيرة و بودي لو أجلس إليها بعض الوقت...

انشرحت أسارير ليلى للاقتراح، فهي كانت تفكر في العشاء و في لقائها المحتم مع فراس! ابتسمت منال بدورها و هي تهز كتفيها قائلة :
ـ تعلمين، ليلى فتاة راشدة و تتحمل مسؤولية أفعالها كاملة... فإن كانت راضية، فهي لك!

لاح التوتر على ملامح ياسين و التفت إلى ليلى متسائلا :
ـ ليلى... هل تودين البقاء؟

هزت رأسها علامة الموافقة و ابتسامة خجولة على شفتيها. تردد ياسين للحظات، لكنه أخيرا انحنى ليحمل رانيا بين ذراعيه و توجه نحو الباب و هو يقول :
ـ حسن... اهتمي بها جيدا... سأبعث إليها السائق صباح الغد...

ابتسمت ليلى في رضا، و غمرتها المشاعر غريبة عينها التي انتابتها في السيارة اليوم... أحست بالامتنان لياسين لاهتمامه بها... تخيلته أخا أكبر، مسؤولا عنها في غياب والدها... و أشعرها خيالها ذاك بالارتياح... و الأمان... تساءلت في نفسها، لو لم تكن هاته العائلة الصغيرة تسكن القصر، كيف كانت إقامتها فيه ستكون؟!

شيعت السيارة بعينيها و هي تلوح لرانيا التي كانت تطل عليها من زجاج السيارة الخلفي، ثم عادت إلى الداخل و هي تحس ببعض الراحة... فالحقيقة أن الجو كان منعشا، و الأمسية كانت ممتعة و مسلية...
جلست الخالة مريم إلى جوارها و ربتت على كتفها في حنان و قالت :
ـ لم تأكلي جيدا على العشاء... تعالي نكمل طعامنا...

ابتسمت ليلى شاكرة و همست :
ـ جزاك الله خيرا يا خالة... اكتفيت و الحمد لله...

ـ لا يا حبيبتي... أنت لا تأكلين جيدا! لا أصدق أن جسمك قد هزل خلال يومين!

عانقتها ليلى و هي تقول مبتسمة :
ـ أنت تبالغين يا خالتي... صدقيني أنا بخير...

غمزت مريم بعينها و هي ترنو إليها في دهاء :
ـ و لكن هناك من قلق عليك... و طلب مني الاهتمام بإطعامك!

رفعت ليلى حاجبيها في دهشة و لبثت تحدق فيها منتظرة المزيد من التوضيحات. فتابعت مريم و الابتسامة لا تفارق شفتيها :
ـ فراس اتصل بي اليوم، و طلب مني أن أدعوك لقضاء بضعة أيام في المزرعة... قال أن صحتك متدهورة، و نفسيتك متعبة بسبب بعدك عن والدك... لذلك اتصلت بمنال و طلبت منها أن تصحبك إلى هنا...

لبثت ليلى ساهمة، تنظر إلى الفراغ و قد سرحت في أفكارها... فراس... هل تخطط لأمر ما؟ هل قصدت إبعادي عن القصر الليلة؟ أم أن كل الهواجس التي في رأسي ليس لها أساس؟!!!

ـ ما بك يا ابنتي؟

أشعرها صوت المربية الدافئ بالطمأنينة، ألقت برأسها على صدرها و قالت و هي تتنهد بعمق :
ـ أنا متعبة يا خالتي... متعبة...

احتضنتها العجوز في حنان، لم تكن ليلى ترغب في الكلام... تريد أن تطفئ الأصوات التي ترتع في رأسها و تتلاعب بأفكارها... ظلت مريم تمسح على رأسها... إلى أن غلبها النعاس...


*********


استيقظت مرتعبة، جلست على الأريكة العريضة حيث كانت نائمة، و راحت تجيل بصرها في المكان... هدأت و زفرت في ارتياح حين تعرفت على غرفة الجلوس... مسحت وجهها بكفها و هي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. لم يكن سوى كابوس... حمدت الله و قامت من مجلسها تريد أن تمحو من ذاكرتها الصور التي مرت بها منذ لحظات...

كان الغرفة مظلمة تقريبا، يتسلل إليها ضوء خافت قادم من الغرفة الداخلية، و لم تكن مريم هناك... نظرت إلى ساعتها، كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بقليل. يبدو أنني نمت لوقت طويل! اقتربت من نافذة الشرفة، و وقفت تتأمل الطبيعة الهادئة في ليلة صيفية مقمرة... كانت الليل قد أرخى سدوله، و غرقت الساحة في ظلام دامس... تنهدت بعمق. و سألت الله أن يعيد إليها والدها سالما... رؤيتها لمأمون اليوم زادتها قلقا على قلق... خافت أن يكون كابوسها حقيقة، فدعت الله من كل قلبها أن يكون مجرد وسوسة...

كان القمر شبه مكتمل، ابتسمت و هي تلاحظ صفاءه و وضوحه... لا يبدو بهذا الشكل في السماء الباريسية! فالسماء هناك بالكاد تصفو بضعة أيام في السنة... و خاصة الصيف المنصرم، فقد أمطرت بشكل منقطع النظير طوال أشهره الثلاثة...

فجأة لمحت شبحا يتحرك في الساحة أمامها و يقترب من المنزل الريفي... تسارعت دقات قلبها و هي تدقق النظر... يا إلهي، ليس مجددا! تسمرت في مكانها و هي تفكر في ما يمكنها فعله... إنها بمفردها هنا مع الخالة مريم. امرأتان عاجزتان بلا رجل يحميهما! لم تدرك الوضع قبل الآن... فتلكن متفائلة، ربما كان أحد العمال... و لكن ما الذي جاء به في مثل هذا الوقت؟! ربما يكون الحارس؟ نعم من المؤكد أنه الحارس! راقبت الشبح و هو يتقدم نحو حوض الورود البرية الحمراء... أخفت جسدها وراء الستارة و أخذت تطل باحتراس. رأته يقترب أكثر في اتجاه الشرفة المكشوفة... صار أمامها مباشرة على بعد أمتار قليلة، لا يفصلها عنه سوى زجاج النافذة... و بهدوء تام، جذب كرسيا و جلس عليه موليا إياها ظهره!


كان الظلام مخيما في الخارج فلم تستطع أن تتبين ملامحه... لكن من المؤكد أنه من أهل البيت... قفزت إلى ذهنها صورة وحيدة... فراس!!!

دارت في رأسها الأفكار و الوساوس... ما الذي يخطط له؟ و لماذا جاء بي إلى هنا؟ هل يكون قد علم باكتشافي لما جاء بالمفكرة، فأراد إبعادي حتى يواجهني بالأمر هنا بعيدا عن أنظار أبيه و إخوته؟! عادت إليها كلمات حنان... يمثل اللطف و البراءة أمام العائلة، و يكشف عن وجهه الآخر معها... بالطبع، لا يريد لأحد أن يشهد مشادة بينه و بينها، حتى لا تطفو التساؤلات و الشكوك على السطح من جديد!! ابتسمت في سخرية... و هي التي اعتقدت لبعض الوقت أنها أساءت الظن به... لست هينا يا فراس!

لبثت تراقبه في انتباه... لاحظت أنه أخذ يقفل أزرار سترته الخفيفة، و يلف ذراعيه حول جسمه... الطقس بارد في الخارج! التفت في اتجاه المدخل، كأنه يتردد... لكنه في النهاية عدل عن ذلك و ظل مكانه... إلى متى سيظل ساكنا هناك؟ هل أنبه ضميره في اللحظات الأخيرة؟ لكنني مستعدة للمواجهة!

لم تدر كيف واتتها الشجاعة... ابتعدت عن النافذة في هدوء، لفت على جسدها إزارا للخالة مريم، كان مرميا على أحد المقاعد... و فتحت الباب...
انتبه الشبح الجالس على صوت صرير الباب، و تسلل بعض الضوء إلى الخارج...
رأته يلتفت إليها... لعنت لحظة الجرأة التي دفعتها إلى تلك الفكرة السخيفة... إنه الوقت الخطأ و المكان الخطأ للمواجهة!

وقف و قد بانت على وجهه الدهشة... هتف :
ـ ليلى! ما الذي تفعلينه هنا؟!

لم تكن دهشتها أقل من دهشته و هي تهتف بدورها :
ـ أمين؟! ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟!!