الحمد لله مقلب القلوب ، مفرج الكروب ، غافر الذنوب و قابل التوب ، لا اله إلا هو سبحانه و تعالى الحبيب الذي لا يقبل مشارك ، و لا يرضى غريب و الصلاة و السلام على رسول الله ، طبيب القلوب المبرأ من العيوب و على آله و صحبه و سلم.
حيرني حديث حذيفة الذي يقول فيه الرسول صلى الله علية و سلم : ( تعرض الفتن على أمتي كالحصير عوداً عوداً فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير القلوب على شاكلتين قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفا و لا ينكر منكراً ، و قلب أبيض مثل اللبن لا يضره شيء ما دام على ذلك ) أو كما قال صلى الله عليه و سلم .
فأي قلب يحبه الله تعالى وأي قلب قلبك ؟!
حقيقة القلب
حقيقة القلب تلك المضغة التي جعلها الله تعالى محطّ نظره يوم القيامة ، و جعلها موطن الإيمان و التوحيد و القبول و الرفض للأعمال : ( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم و لا إلى ثيابكم و لكن ينظر إلى قلوبكم ) .
فالقلب مضغة حيرت الأطباء فلا شفاء لأمراضها العضوية إلا بشق الأنفس .. هو المحرك الحقيقي الذي يحرّك كل الأعضاء و بفساده لا يبقى شيء صالح في الإنسان .. ففي حديث النعمان بن بشير ، قال صلى الله عليه و سلم : ( ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا و هي القلب ) فما الأنواع الموجودة للقلب ؟
أنواع القلوب
و ذكر الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم في حديث حذيفة أن القلوب نوعان : نوع أبيض مثل الصفا لا يضره شيء ما دام على ذلك .
و قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً و لا ينكر منكراً .
و انظر إلى حارثه حين سأله الرسول صلى الله عليه و سلم : ( كيف أصبحت يا حارثة؟ ) قال أصبحت مؤمناً حقاً . قال : ( لكل شيء علامة فما علامة إيمانك ؟ ) قال : أصبحت و كأني أرى القيامة قد قامت ، و كأني بعرش ربي بارزاً ، و كأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعّمون ، و أهل النار في النار في النار يعذبون .. فهل ترى أي القلوب كان قلب حارثة حين قال له الرسول صلى الله عليه و سلم : ( عرفت فالزم ) .
لقد كان قلبا أبيضاً بياض الصفا ، و طاهراً طهر الكعبة ، و نقيا نقاء ماء السماء .. فأي القلوب قلبك ؟!
القلب السليم
هو القلب المصفى المنقي من الآثام و الطاهر من الدنايا ، ولا يعكّر صفوه دنيا و لا شهوة و لا شيطان ، وإن زل عاد و أناب و إلى ربه تاب .
هو القلب الذي تهطل أمزان المغفرة على واحته الخضراء ، فتغسل بقايا فتات حب الدنيا و الشهوة و النفس قلب من العطاء لا يكلّ و لا يملّ ، و لا يمنّ على ما أعطى و عن طريق الحق لا يزلّ .
قلب صاف من الشهوة بنور الإيمان منور ، و بالتقوى معمور ، و بالحب لله و لرسوله مغمور ، من غرور الدنيا و رواسبها صاف و من الغرور .. قلب مفعم بالنقاء ، تسمو به الروح نحو السماء .. لذلك كان إبراهيم صاحب قلب سليم : { و إن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم } فما سرّ سلامة قلب إبراهيم ؟
إنه الإيمان الصافي النقي المقرون بالحجة و البرهان و المتابعة المستمرة ، فهو إذ جنَّ عليه الليل لم يعبد النجم و لا القمر ، ولكنه استدل على ذلك بوجود خالق الشمس و القمر .. ولذا كان قلبه سليماً معافى مما سوى الله ، فانظر إلى قلبك هل ممكن أن تقول عليه قلباً سليماً ؟!
صفات القلب السليم
والقلب السليم ليست مصادفة يوصف بها أي قلب ، و لا تعتمد على جاه و لا على مال ، و لا على عز و شرف إلا من استقام على منوال { فإن العزة لله و لرسوله و للمؤمنين } و كما أن الأرض الصالحة المنتجة التي يرعاها المزارع ويحبها لها مواصفات ؛ فإن القلب السليم الذي يحبه الله تعالى له أيضا مواصفات و من هذه الصفات كما يلي :
1- الإقبال على الحق ، قال تعالى : { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }
2- حب الحق وانشراح الصدر بالإسلام ، قال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } .
3- إجابة دعوة الإيمان ، وحب الازدياد منه ، ولذا كانت صفات المؤمنين الذين أحبهم الله تعالى في سورة آل عمران : { ربنا إننا سمعنا مناد ينادي للإيمان أن امنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا و توفنا مع الأبرار } .
4- التذكر لله و لرسوله و للآخرة و لقاء الله تعالى ؛ فإن كنت كذلك فاعلم أنك على خير ، و احمد الله تعالى على ذلك ، و إلا فاتهم قلبك و أعكف على إصلاحه .. و هذه من علامات صلاح القلب كما يقول أحد السلف رحمه الله : ( إذا لم تجد قلبك عند أربع : عند الله تعالى و رسوله ، وعند حضور الصلاة ، و عند قراءة القران ، وعند تذكر الموت و الآخرة فابك على نفسك ؛ فإنه ليس لك قلب " ، قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } .
5- اليقين ، وهي مرتبة تعلو الإيمان ؛ فإنها من مراتب الإحسان ، والموقن هو الذي لا يخالط إيمانه شك و لا ريبة و لا خطرة ، بل إنه كما كان الصديق حين قالوا له : إن صاحبك يدّعي أنه صعد إلى السماء ! قال : " إن قال كذلك فقد صدق " .
ولذا فالموقن هو الذي يعبد الله تعالى كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فالله يراه .
فسّرها الشاعر فقال :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت و لكن قل عليّ رقيب
و لا تحسبن الله يغفل ساعة *** و لا كل ما تعمله عنه يغيب
فالموقنين هم العاقلين ، وإلى الله بصدق العزيمة و الرجاء سائرين .. قال الله تعالى عنهم : { إن في خلق السماوات و الأرض لآيات لقوم يتفكرون } { و في خلقكم و ما يبث من دابة لآيات لقوم يوقنون } ؛ فإنه إن رأى السماء و الأرض والنعمة أيقن أنها لله ، و أن الكل عائد إلى الله .. فلا تلهيه أي لاهية عن الوصول إلى مآربه و الهرولة إلى ربه.
6- لين القلب لذكر الله تعالى و لذكر رسول الله ، و كذا كان الفائزون : { إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً و على ربهم يتوكلون } ، ولذلك استحقوا الظل يوم لا ظل إلا ظل العرش ( ورجل ذكر الله وحده ففاضت عيناه ) ؛ فإن رسول الهدى إذا ذكر ربه بات باكياً مشتاقاً وللقاء عشاقاً ، ومن بعده من الصحابة بل إن عمر وعثمان و علي و قبلهم أبو بكر ، كانوا إذا ذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتجت من حولهم المجالس من شدة بكائهم شوقا إلى لقياه ، وحنينا إلى كفه الشريفة الساقية في حوض الكوثر فجسّدها بلال على فراش الموت ، قائلاً : " غداً ألقى الأحبة محمداً و صحبه " و السائرين على نهجهم : { يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } .
7- إتباع القران الكريم و السنة النبوية حذو الفذة بالقذة ، ولا نخالف و نرتد بعد أن هدانا الله تعالى على علمٍ و بصيرة ، بلا تقليد أعمى ، و لا امعية لغير رسول الله ، ولنعلم أن إيمان المقلّد مردود ، و بكائه مزيف غير محمود ؛ فإن أبا بكر وقف حين سول الشيطان للناس الرجوع ، و قال لهم : " إن محمد صلى الله عليه و سلم لا يموت " فوثب دفاعاً عن الدين ، و ابن حنبل رحمه الله جلد سبعين ألفاً دفاعاً عن السنة ، و نال غيرهم ألوانا من العقاب و الجزاء لتمسكهم بالسنة ، وقد علموا قوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } و أطاعوا أمر الله { و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول } و لذا كانوا هم خير القرون فالحق بهم ترقَ رقيهم و إلا ..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
ثم ماذا ؟!
هذا المقياس الرباني للقلب السليم فاعلم إن سوى هذا القلب مردود ، فقد قال رب العزة : { يوم لا ينفع مال و لا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم } فقس قلبك على هذا المقياس ، وادخل إلى قلبك و فتشه ، واعتصره اعتصاراً حتى لا تبقي فيه زاوية إلا و دخلتها ، ثم انظر ماذا ترى ؟!
و الآن اخرج منه كل ما يتضاد مع العناصر السابقة للميزان المذكور عن علم و معرفة و لا تقليد و امعية ؛ فإنها إن كانت كذلك فلا تعود إلى مثله أبداً إن شاء الله , ثم اعلم أخي الحبيب الفاضل أنك أنت المحاسب وحدك ، وأنك أنت المقصود وحدك ، ومناط التكليف وحدك { ولا تزر وازرة وزر أخرى } عندها تكون قد استكملت شروط القياس السليم للقلب السليم .. فاعتن بقلبك .
و قد علمت أنه مكان نظر الرب تبارك و تعالى ، فانظر إلى أي موضع تريد من ربك أن ينظر ؟ و موطن الإيمان فانظر أين تضعه ؟ و مناط التكليف فلا تخلط الطيب النقي بغيره .
جعلني الله و إياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و العاقبة للمتقين .. و الحمد لله رب العالمين.
مواقع النشر