ثانياً: يوم النحر:
وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، ويسمى بعيد النحر وعيد الأضحى؛ لأنه اليوم الذي يبدأ الناس فيه بذبح أو نحر قرابينهم من الهدي والأضاحي، كما يسمى بيوم الحج الأكبر؛ لأن معظم مناسك الحج تقع فيه.
يوم الحج الأكبر هو يوم النحر - كما سيأتي - ويوم الحج الأكبر هو الزمن، والحج الأكبر هو العمل فيه.
وسمي يوم النحر بـ يوم الحج الأكبر لوقوع معظم وأهم مناسك الحج فيه ففي ليلته الوقوف بعرفة، والمبيت بالمشعر الحرام - مزدلفة - والرمي في نهاره، والحلق أو التقصير، والطواف والسعي.
ومما ورد في يوم النحر من فضائل يختص بها مع اشتراكه مع بقية أيام العشر من ذي الحجة ما يلي:
1 - أنه يوم الحج الأكبر، قال تعالى: ( وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) [التوبة: 3]
عن علي - رضي الله عنه - قال: (يوم الحج الأكبر، يوم النحر) [الطبري: 10/ 71].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بهذا وقال: " هذا يوم الحج الأكبر " فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم، اشهد " وودع الناس فقالوا هذه حجة الوداع) [البخاري].
قال النووي - رحمه الله -: (إن الله تعالى قال (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) ففعل أبو بكر وعلي وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة هذا الأذان يوم النحر بإذن النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الأذان والظاهر أنه عين لهم يوم النحر فتعين أنه يوم الحج الأكبر ولأن معظم المناسك فيه.
وقد اختلف العلماء في المراد بيوم الحج الأكبر فقيل: يوم عرفه، وقال مالك والشافعي والجمهور هو يوم النحر، ونقل القاضي عياض عن الشافعي أنه يوم عرفة وهذا خلاف المعروف من مذهب الشافعي.
قال العلماء: وقيل الحج الأكبر للاحتراز من الحج الأصغر وهو العمرة) [النووي على صحيح مسلم: 9/ 116].
وقال أبو جعفر الطبري - رحمه الله - بعد أن ذكر الاختلاف في كون يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة أو يوم النحر قال: (وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال يوم الحج الأكبر يوم النحر؛ لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علياً نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين وتلا عليهم براءة يوم النحر.
هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر أتدرون أي يوم هذا، هذا يوم الحج الأكبر.
وبعد فإن اليوم إنما يضاف إلى معنى الذي يكون فيه كقول الناس يوم عرفة وذلك يوم وقوف الناس بعرفة ويوم الأضحى وذلك يوم يضحون فيه، ويوم الفطر وذلك يوم يفطرون فيه، وكذلك يوم الحج يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر؛ لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج، فأما يوم عرفة فإنه وإن كان الوقوف بعرفة فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر والحج كله يوم النحر) [تفسير الطبري: 10/ 74 - 75].
[تفسير الطبري: 10/ 74 - 75].
وقال ابن كثير - رحمه الله -: ([يوم الحج الأكبر] وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعاً) [تفسير ابن كثير: 2/ 333].
واختلف في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم يوم الحج الأكبر فقال بعضهم سمي بذلك لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين.
فعن الحسن قال: إنما سمي الحج الأكبر من أجل أنه حج أبو بكر الحجة التي حجها واجتمع فيها المسلمون والمشركون فلذلك سمي الحج الأكبر ووافق أيضا عيد اليهود والنصارى.
وقال آخرون الحج الأكبر القران والحج الأصغر الإفراد، فعن مجاهد قال: (كان يقول الحج الأكبر والحج الأصغر، فالحج الأكبر القران، والحج الأصغر إفراد الحج).
وقال آخرون الحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة، فعن عطاء قال: (الحج الأكبر الحج، والحج الأصغر العمرة).
قال الطبري - رحمه الله -: (وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال الحج الأكبر الحج لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها فقيل له الأكبر لذلك، وأما الأصغر فالعمرة لأن عملها أقل من عمل الحج فلذلك قيل لها الأصغر لنقصان عملها عن عمله) [تفسير الطبري: 10/ 75 - 76].
2 - وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه قال: " أي يوم هذا؟ " فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: " أليس يوم النحر " قلنا: بلى قال: " فأي شهر هذا؟ " فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: " أليس بذي الحجة " قلنا: بلى قال: " فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه "[صحيح البخاري].
3 - وعن عبد الله بن قرط - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى: يوم النحر، ثم يوم القر " [أبو داود] ويوم القر: هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة.
4 - وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب " [الترمذي].
بعض خصائص يوم النحر وأحكامه:
1 - يقع فيه أكبر تجمع مشروع مستحب للمسلمين كل عام؛ لكونه عيداً لهم، فيستحب فيه إظهار البهجة والفرحة والسرور من غير سرف ومبالغة.
2 - تستكمل فيه معظم أركان ومناسك الحج، فبعد الوقوف بعرفات، تستكمل بقية المناسك في يوم النحر من طواف الإفاضة، والسعي لمن يلزمه السعي، و رمي جمرة العقبة، ونحر الهدي أو ذبحه، والحلق والتقصير.
3 - تشرع فيه صلاة العيد، على خلاف بين العلماء في صفة مشروعيتها، فهي عند الأحناف واجبة على الأعيان ممتن تجب عليهم الجمعة، وعند المالكية والشافعية أنها سنة مؤكدة، وظاهر مذهب الحنابلة أنها فرض كفاية، وللتوسع يراجع كتب أهل العلم باب صلاة العيد.
4 - تشرع فيه تقبل التهاني، فعن خالد بن معدان قال: لقيت واثلة بن الأسقع في يوم عيد، فقلت: تقبل الله منا ومنك، فقال: نعم، تقبل الله منا ومنك، قال واثلة: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فقلت: تقبل الله منا ومنك،قال: " نعم، تقبل الله منا ومنك "[سنن البيهقي الكبرى]
وعن جبير بن نفير قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك) وحسن ابن حجر - رحمه الله - إسناده [فتح الباري: 2/ 446].
5 - يسن عدم الأكل حتى يرجع من الصلاة لحديث بريدة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، وكان لا يأكل يوم النحر حتى يرجع) [ابن ماجه].
6 - يستحب للذاهب لصلاة العيد أن يخالف في طريقه بين رجوعه وذهابه، فعن جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق)[البخاري].
7 - أنه أعظم يوم عند الله - كما سبق في الحديث - إلا أن هذا العموم مخصص بيوم الجمعة؛لحديث أبي لبابة بن عبد المنذر - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى، ويوم الفطر " [ابن ماجه، وأحمد في المسند].
8 - ليلة يوم النحر تعقب الانتهاء من الوقف بعرفة الذي هو الركن الأعظم من أركان الحج الذي هو وقت غفران الذنوب.
9 - أنه يحرم صيام يوم النحر بإجماع العلماء.
10 - يشرع فيه إظهار التكبير والجهر به في المساجد والطرقات، وأما صيغة التكبير الأمر فيه واسع، فعن سلمان قال: كبروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، وجاء عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما -: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
11 - تستحب فيه الأضحية ويكره تركها للقادر عليها فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تقرب إلى الله تعالى يوم النحر بشيء هو أحب إلى الله تعالى من إهراق الدم، وأنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وأن الدم ليقع من الله تعالى بمكان قبل أن يقع على الأرض فيطيبوا بها نفساً "[الترمذي والحاكم]، على أن من أراد أن يضحي أن يمسك عن أخذ شعره وأظفاره لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره) [مسلم].
إلى غير ذلك من الخصائص والأحكام التي يختص بها هذا اليوم المبارك.
وبخصوص ما ورد من آثار تدل على فضيلة العشر الأواخر من رمضان مع يشكله ذلك من الآثار الواردة في فضل الأيام العشر من ذي الحجة قال ابن كثير - رحمه الله -: (فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث وفضله كثير على عشر رمضان الأخير؛لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.
وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل وبهذا يجتمع شمل الأدلة والله أعلم) [تفسير ابن كثير: 3/ 218].
فحري بالمسلم أن يستقبل هذه الأيام بما ينفعه، وأن يشحذ همته ويعزم العزم الجاد على اغتنام هذه الأيام: بالأعمال والأقوال الصالحة، ومن عزم على شيء أعانه الله عليه وهيأ له الأسباب التي تعينه على إكمال العمل، ومن صدق الله صدقه الله:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْسُبُلَنَا غڑ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
) [العنكبوت: 69].
فالغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام المباركة، فما منها عِوَضٌ ولا تُقدَّر بقيمة، المبادرةَ المبادرةَ بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، وقبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرجعة فلا يُجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمِّل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء محبوسا في حفرته بما قدَّم من عمل.
وهنيئاً ثم هنيئاً لمن عزم على استغلال عشر ذي الحجة بالعمل الصالح وتحري الخير والإكثار من الذكر والدعاء وأداء القربات المشروعة رجاء أن يكون من المرحومين المنافسين في الخيرات:( إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) [المطففين: 22 - 26].
وأقول ختاماً: يا عبد الله، اغتنم هذه الأيام قبل أن تفوتك فتندم، ولات ساعة مندم.
الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن معلا اللويحق وفقه الله
مواقع النشر