رابعاً: التعاون في مجال طلب العلم:
وهذا باب من التعاون يكفي في معرفته مطالعة كتب السير الغاصّة بالقصص التي بلغت من التعاون أوجه، فهذا عمر - رضي الله عنه - يقول: كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.. الحديث رواه البخاري 4792
"وَكَانَ عُمَر مُؤَاخِيًا أَوْس بْن خَوْلِيّ لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ وَلا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ، وقَوْله (جِئْته بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَر ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ الْوَحْي أَوْ غَيْره) أَيْ مِنْ الْحَوَادِث الْكَائِنَة عِنْد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وفِي رِوَايَة " إِذَا غَابَ وَشَهِدْت أَتَيْته بِمَا يَكُون مِنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيِّ " يَحْضُر رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِذَا غِبْت وَأَحْضُرهُ إِذَا غَابَ وَيُخْبِرنِي وَأُخْبِرهُ ". وَفِي رِوَايَة " لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ وَلَا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ " (باختصار من فتح الباري: شرح الحديث السابق: كتاب النكاح)
وقد تعرض لطالب العلم ضائقة خلال طلبه فيهبّ إخوانه لمعاونته: قال عمر بن حفص الأشقر: كنا مع محمد بن إسماعيل (وهو البخاري) بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه أياما فطلبناه فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفذ ما عنده ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث. (تاريخ بغداد 2 / 13).
وقد يعين العالم من ليس من أهل العلم ويحتسب بالإنفاق عليه أجر تفريغ العالم وطالب العلم للتدريس والطّلب: قال هياج بن عبيد كان لرافع قدم في الزهد وإنما تفقه الشيخ أبو إسحاق وأبو يعلى بن الفراء بمعاونة رافع لهما لأنه كان يحمل وينفق عليهما. (سير أعلام النبلاء 18/52)
ويدخل في التعاون العلمي: التعاون في تأليف الكتب، فقد جاء في ترجمة الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي - رحمه الله - أنه " ولع بتخريج أحاديث الإحياء ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونان. " (طبقات الشافعية ج: 4 ص: 30) فاستفدنا من ذلك تخريج ثلاثة كتب صارت من أهم المراجع لطلاب الحديث.
ومن هذا الباب أيضا شرح المواد الدراسية من الخبير بها للقاصر عن فهمها، وكان بعض نبلاء المسلمين يشتري المصاحف والألواح ويوزعها على أطفال الكتاتيب معونة لهم على حفظ القرآن الكريم.
خامساً: التعاون في الدعوة والتعليم وإنكار المنكر:
فهذا يقترح فكرة لموضوع وهذا يجمع قصصا واقعية عنه وهذا يعمل بحثا ميدانيا أو استبيانا حول الموضوع وآخر يجمع الأدلة الشرعية وكلام العلماء بشأنه وهذا يحشد الشواهد والأبيات الشعرية المتعلقة به وآخر أوتي موهبة في التحدّث يلقيه في محاضرة تسير بها الركبان. أو كاتب مجيد يخطّ بأسلوبه ذلك المحتوى من العمل المشترك في رسالة أو كتاب يؤثّر في نفوس القراء.
وعالم أو طالب علم لديه - مما فتح الله به عليه - ما يقدّمه في دورة علمية، وآخر يملك خبرة إدارية يسيّر بها أعمالها وثالث عنده مال يبذله لإسكان الطلاب الفقراء وإعاشتهم فترة الدورة، وهكذا وعصرنا الذي نعيش فيه يحتاج كثيرا إلى الأعمال المشتركة والبركة مع الجماعة.
وفي مجال إنكار المنكر المنكر تعاون عظيم أيضا: فهذا يجمع معلومات عن المنكر ويستقصي خبره في المجتمع وهذا يبحث حكمه شرعا وثالث يعين على إيصاله إلى من ينكره ويغيّره، وآخر يخطب عنه ويحذّر منه.
وهذا الاشتراك في العمل الصالح له اجر عظيم وقد قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَةً الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ وَالْمُمِدَّ بِهِ)) رواه الترمذي 1561 وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
فلا بد أن تكون هناك أدوار تكاملية إذا أنّ كثيرا من المشروعات وأمور الدّين لا يمكن القيام بها فرديا، وإتاحة المجال للتخصصات المختلفة أن تعمل بتعاون سيثمر نتائج باهرة.
سادساً: المعاونة في إقامة الأنشطة الخيرية والأعمال الإسلامية:
والمشاركة فيها بالنفس والمال، والجود عليها بالوقت، والحثّ على الحضور، وتكثير السّواد فيها، وحسن استقبال روّادها، وإتقان وضع برامجها وترتيب جداولها، وشحذ الهمم لتنفيذ مهامّها، والعمل على تحقيق مقاصدها، ونشر فكرتها، وتصحيح مسيرتها، والذبّ عنها، وحراسة أهلها، ومقاومة محاولات هدمها وإعاقتها.
سابعاً: التعاون في القيام بحقوق المسلمين:
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)) (مسند الإمام أحمد 15147)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ)) ( رواه مسلم 3258).
ففِي هَذَا الْحَدِيث: الْحَثّ عَلَى الصَّدَقَة وَالْجُود وَالْمُوَاسَاة وَالإِحْسَان إِلَى الرُّفْقَة وَالأَصْحَاب، وَالاعْتِنَاء بِمَصَالِح الأَصْحَاب، وَأَمْر كَبِير الْقَوْم أَصْحَابه بِمُوَاسَاتِ الْمُحْتَاج، وَأَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حَاجَة الْمُحْتَاج بِتَعَرُّضِهِ لِلْعَطَاءِ، وَتَعْرِيضه مِنْ غَيْر سُؤَال، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله (فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره) أَيْ: مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَع بِهِ حَاجَته.
وَفِيهِ: مُوَاسَاة اِبْن السَّبِيل، وَالصَّدَقَة عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَة، وَعَلَيْهِ ثِيَاب، أَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي وَطَنه، وَلِهَذَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْحَال. وَاللَّهُ أَعْلَم.
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع، ويدخل ضمنه مجالات متعددة، منها:
إعانة الملهوف
عن يزيد بن الأسود قال: لقد أدركت أقواماً من سلف هذه الأمة قد كان الرجل إذا وقع في هوي أو دجلة نادى: يا لعباد الله فيتواثبون إليه فيستخرجونه ودابته مما هو فيه ولقد وقع رجل ذات يوم في دجلة فنادى يا لعباد الله فتواثب الناس إليه فما أدركت إلا مقاصّه في الطين فلأن أكون أدركت من متاعه شيئاً فأخرجه من تلك الوحلة أحب إلي من دنياكم التي ترغبون فيها. (شعب الإيمان 6/ 107)
فانظر: أخي المسلم كيف كان السلف الصالح يتفانون في إغاثة الملهوف وإعانته على نازلته وضرورته.
إعانة الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من الاعتداءات
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل - وفي رواية أي العمل أفضل - قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قال قلت أي الرقاب أفضل قال أنفَسها عند أهلها وأكثرها ثمنا - وفي رواية وأغلاها ثمنا - قال قلت أرأيت إن لم أفعل قال تعين صانعاً أو تصنع لأخرق.. الحديث رواه مسلم 84 وهو في صحيح البخاري بلفظ: تعين ضايعاً.
وعند قوله أن تعين صانعا (ضايعا) أو تصنع لأخرق نتذكّر القصة العظيمة التي قصّها علينا ربنا- تبارك وتعالى- في سورة الكهف:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وآتيناه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (85)..
آتيناه من كل شيء سببا أي من أسباب التمكين من الجنود وآلات الحرب وأعطيناه الأسباب والوسائل، وهذا يعني أنّ صاحب الإمكانات تكون التبعة التي عليه أكثر من غيره بسبب ما أعطاه الله.
ثم قال - عز وجل -
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا(93)قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94)قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97)قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (98) سورة الكهف، ففي هذه الآيات صورة من صور التعاون على الخير ودفع الشر وصدّ حملات المفسدين.
وفي تاريخنا أمثلة عظيمة في هذا المقام، ففي ترجمة محسن بن محمد بن على فايع الصنعاني أنه: كان حسن الأخلاق واسع المروءة رفيع السيادة والفتوة كريم الطباع مفضالاً بَذَل نفسه في معاونة الفقراء والمساكين والوافدين إلى الخلفاء وأتعب خاطره في الطلب لهم وتفقد أحوالهم والسعي في قضاء حوائجهم وعلاج مرضاهم والقيام بمئونتهم وجعلت بنظره صدقات وصلات فبالغ في التحري عليها وإنفاقها في وجوه الخير وعمّر المساجد العجيبة وزاد في بعضها زيادة محتاج إليها واعتنى بدراسة القرآن وأهل المنازل وجعل لهم راتبا معلوما خصوصا في شهر رمضان.. وله الزيادة الواسعة النافعة في مسجد الفليحي بصنعاء وكان يضيق بالمصلين فأنفق عليه جل ماله وبنى لله مسجداً في ساحة سمرة معمر بصنعاء عمره في آخر أيامه ووقف له، وكان كثير العوارض والأمراض متلقيا لها بالقبول (البدر الطالع 2 /192)
وكان بعض النبلاء المسلمين يعطي فقراء الفلاحين البذور، والتقاوي إعانة لهم على زرع محاصيل يستفيدون منها. ومن صور التعاون العامة؛ ما جاء في آداب الطريق وقد جمعها الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في قوله:
جَمَعْت آدَاب مَنْ رَامَ الْجُلُوس عَلَى*** الطَّرِيق مِنْ قَوْل خَيْر الْخَلْق إِنْسَانَا
اُفْشِ السَّلام وَأَحْسِنْ فِي الْكَلام*** وَشَمِّتْ عَاطِسًا وَسَلامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْل عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ*** وَأَغِثْ لَهْفَان اِهْدِ سَبِيلا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكُر وَكُفَّ*** أَذَى وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْر مَوْلانَا
التعاون في مواجهة شدائد العَيْش
من حكمة الله - سبحانه وتعالى - أن جعل بعض الناس أغنياء، والبعض الآخر فقراء، ؛ ليساعد بعضهم بعضا، خاصة في أمور معاشهم، ومعاونتهم على شظف الدنيا، ومواساتهم فيها، ويشهد لذلك ما رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى أنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم –: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُم))ْ (صحيح البخاري 2306)
قَوْلُهُ: (إِذَا أَرْمَلُوا) أَيْ فَنِيَ زَادهمْ، وَأَصْله مِنْ الرَّمْلِ كَأَنَّهُمْ لَصِقُوا بِالرَّمْلِ مِنْ الْقِلَّةِ، وفي الحديث: فَضِيلَة الْإِيثَارِ وَالْمُوَاسَاةِ، وَاسْتِحْبَاب خَلْطَ الزَّاد فِي السَّفَرِ وَفِي الإِقَامَةِ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تعاون أصحاب المسئوليات فيما بينهم
لعل من أهم صور التعاون؛ تعاون كل من تجمعهم مهمة واحدة لإنجاز هذه المهمة على الوجه الذي يرضي الله تعالى، وهذا هو مفهوم توجيه النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ حيث قَالَ يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلا تَخْتَلِفَا (رواه البخاري 2811)
وتلك الوصية النبوية جاءت لتؤصِّل عند جميع المسلمين دور التعاون في إنجاح جميع الأعمال والمهامّ حتى العظيم منها، ولهذا كان من أوائل ما اهتم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة عقد أسباب التعاون، وكان ذلك بأن آخى بين المهاجرين والأنصار ليحصل بذلك مؤازرة ومعاونة لهؤلاء بهؤلاء (سير أعلام النبلاء 1/ 143)؛ وذلك لأن المعاونة تورث المحبة والترابط.
وقد قيل لسعيد بن عامر بن حذيم: إن أهل الشام يحبونك؟ قال: لأني أعاونهم وأواسيهم.
هذا وصور التعاون على البرّ والتقوى كثيرة جدا لا يُمكن حصرها ومجال الاستدلال بتلك الآية الجامعة الفاذّة واسع جدا وهذا الذهبي - رحمه الله - لم يستدل من القرآن على مشروعية التعزية إلا بها فقال: - رحمه الله -: " واعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير وذكْر ما يسلّي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهوِّن مصيبته وهي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضا داخلة في قول الله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى، وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية واعلم أن التعزية - وهي الأمر بالصبر - مستحب قبل الدفن وبعده قال أصحاب الشافعي من حين يموت الميت. (الكبائر 1/188).
وللتعاون أصول وضوابط حتى ذكر بعض المصنفين علما يسمى " بالسياسة المدنية " بعد ذكره علم تدبير المنزل فقال في أبجد العلوم:
أ - علم التدبير المنزلي والحكمة المنزلية: وهي العلم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملوك ونحو ذلك، وفائدة هذا العلم أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود.
ب - علم السياسة المدنية: وهو علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة وفائدته أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان. (أبجد العلوم 2 /246)
وهذا من أهم مقاصد المدنية؛ ألا وهو التعاون على أمور المعيشة، ومصالح الأبدان والنفوس، فكيف إذن إذا كان التعاون من أجل مصلحة الدين؟
التعاون على الشيطان
ورد في بعض الآثار في صفة المؤمن أخو المؤمن يتعاونان على الفتّان: أي الشيطان
والتعاون على الشيطان: أن يتناهيا عن اتباعه والافتتان بخُدَعه (الفائق 3 /102)
ولا يجوز لمسلم أن يعاون الشيطان على أخيه المسلم.. كما دلّ عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ اضْرِبُوهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ لا تَقُولُوا هَكَذَا لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ. رواه البخاري 6777
قال ابن حجر - رحمه الله -:
وَوَجْهُ عَوْنِهِمْ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَان يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُل لَهُ الْخِزْيُ فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ. وَوَقَعَ عِنْد أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق اِبْن وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْن شُرَيْح وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَابْن لَهِيعَةَ ثَلَاثَتهمْ عَنْ يَزِيد بْن الْهَاد نَحْوه وَزَادَ فِي آخِره " وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ اِرْحَمْهُ " زَادَ فِيهِ أَيْضًا بَعْد الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ بَكِّتُوهُ " وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّبْكِيتِ وَهُوَ مُوَاجَهَتُهُ بِقَبِيحِ فِعْلِهِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَر بِقَوْلِهِ " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ مَا اِتَّقَيْت اللَّهَ - عز وجل -، مَا خَشِيت اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مَا اِسْتَحْيَيْت مِنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَرْسَلُوهُ " وَفِي حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَزْهَر عِنْد الشَّافِعِيّ بَعْد ذِكْر الضَّرْب " ثُمَّ قَالَ - عليه الصلاة والسلام -: بَكِّتُوهُ فَبَكَّتُوهُ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ " وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَاصِي بِالإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّه كَاللَّعْنِ. انتهى
الضرب الثاني من ضروب التعاون: التعاون على الإثم والعدوان
وقد جاء النهي الصريح في كتاب الله - عز وجل - عن التعاون على الإثم والعدوان، قال تعالى: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "، وكما تتعدد صور التعاون على البر والتقوى فكذلك تتعدد ضروب التعاون على الإثم، وحيث أن المقصود الأساس في هذه الرسالة الحثّ على التعاون على الخير فأكتفي بهذه الصور للعكس ومن ذلك:
- التعاون على إقامة الشرك والكفر
وهذا له ضروب كثيرة ومن أمثلته المعاونة في بناء المساجد والأضرحة والقباب على القبور وجعل السّدنة الذين يأخذون النذور والقرابين وجمع التبرعات لصيانتها وترميمها، ومن هذا الباب أيضا المعاونة على بناء كنائس النصارى
ومن القصص الجيدة في إنكار ذلك أبيات أرسلت لا بن شهاب لما عاون عرب طور سيناء على بناء البيعة بعكبرا، يقول الشاعر المسلم يحثّ على رفض ذلك ومعاقبة من فعله:
أردتكم حصنا حصينا لتدفعوا *** نبال العدى عني فكنتم نصالَها
فيا ليت إذا لم تحفظوا لي مودتي *** وقفتم، فكنتم لا عليها ولا لها
فيا سيف دين الله لا تنبُ عن هدى *** ودولة آل هاشم وكمالها
أعيذك بالرحمن أن تنصر الهوى *** فتلك لعمري عثرة لن تُقالَها
أفي حكم حق الشكر إنشاء بيعة النـ *** صارى لتتلو كفرها وضلالها
يَشيد موذينا الدمشقيُّ بيعة *** بأرضك تبنيها له لينالها
وينفق فيها مال حران والرُّها *** وتفتيحها قسرا وتُسبى رجالُها
وترغم أنف المسلمين بأسرهم *** وتلزمهم شنآنَها ووبالَها
أبى ذاك ما تتلوه في كل سورة *** فتعرف منها حرامها وحلالها
ويركب في أسواقنا متبخترا *** بأعلاج روم قد أطالت سبالها
فخذ ماله واقتله واستصف حاله *** بذا أمر الله الكريم وقالها
ولا تسمعن قول الشهود فإنهم *** طغاة بغاة يكذبون مقالها
ويوفون دنياهم بإتلاف دينهم *** ليرضوك حتى يحفظوا منك مالها
بل من شروط أهل الذمة التي ذكرها العلماء: " أن لا يحدثوا كنيسة وأن يعاونوا المسلمين ويرشدوهم ويصلحوا الجسور فإن تركوا شيئا من ذلك فلا ذمة لهم. " معجم البلدان ج: 1 ص: 57
ولذلك كان من البلية والفساد العظيم فتح مجالات التعاون مع النصارى وغيرهم من أعداء الإسلام؛ لما يترتب على ذلك من هدم القيم الإسلامية والمثل العليا للأمة... يقول السلطان عبد الحميد:
" إن طراز التفكير عند الأوربيين وعند النصارى طراز غريب مليء بالتناقضات فلا يستطيع الإنسان أن يحدد رأيه فيهم فيوما تراهم عريقين صادقين ويوما سفلة ظالمين،.. إنهم أناس لا يؤمنون بمبدأ ولا يدينون بدين يستصغرون رب العالمين تعالى الله عما يقولون، لقد جاءنا أناس منهم بصفة أساتذة أفاضل فأصابتنا الدهشة عندما عرفناهم وعرفنا دناءتهم، إن مفاهيم الحياة عندهم تغاير مفاهيمنا والبون بيننا شاسع والهوة سحيقة كيف يمكننا أن نفكر في التعاون معهم في مثل هذه الظروف " (مذكراتي السياسية 1/196)
- الاستعانة بالشياطين على السحر والاعتداء وإيذاء المسلمين وكذلك الاستعانة بهم على سائر الحرام: قال ابن القيم - رحمه الله - في كلامه عن العشق: فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم إلى الشرك والظلم كفر السحر، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده؛ وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان. انتهى (الجواب الكافي 1/154)
- التعاون على إحياء البدع وإقامتها
ومن ذلك المشاركة في مجالس الذكر المبتدعة والإنفاق عليها والدعوة إليها والتشجيع على غشيانها وفتح مجالات البدع المختلفة ولا يفعل هذا إلا أعداء السنة والجهلة بها وما أُحييت بدعة إلا وأميتت سنة.
- أن يعاون الظلمة بأخذ المكوس: ويكون في زمرة العمال الظلمة المترصدين في الطرق وغيرها. (أنظر أبجد العلوم 2/58)
- أن يدل رجلا على مطلوب ليقتل ظلما أو يحضر له سكينا: وهذا يحرم لقوله: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " (شعب الإيمان 1/ 268)
- المعاونة في الأغاني نظما وتلحينا وتنظيما لحفلاتها وتسجيلها ونشرها: قال في شعب الإيمان 4/281 ويحرم كذلك تجهيز الشِّعْر للمغنين.
- المعاونة على المنكر عموماً
وشرّ المراتب في المنكر بعد ارتكابه المعاونة عليه ثم الرضا ثم المداهنة ثم السكوت عن الإنكار.
وعلى المسلم أن يصبر على أذى من يخالفهم لأجل منكرهم
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " وذلك ان كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختار أهلها ويؤثرون من يشاركهم في أمورهم وشهواتهم إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطّاع الطريق ونحو ذلك وأما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلا فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدا له على ذلك وإما لئلا يعلو عليهم بذلك ويُحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك إليهم ولئلا يكونوا تحت منّته وخطره ونحو ذلك من الأسباب... انتهى (الاستقامة 2/256)
وفي رفض التعاون على الإثم والعدوان يقول ابن القيم - رحمه الله -:
" الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات.
فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر؛ فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتّب على موافقتهم، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فراراً من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرَّ منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يُعقِب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تُعقِب ألما عظيما دائما والتوفيق بيد الله. انتهى (إغاثة اللهفان 2/193).
نسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى المحاربين للإثم والعدوان وأن يرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله
مواقع النشر