اهتم الخلفاء الأمويون بالقدس بشكل كبير وحظيت في عهدهم بمظاهر الاحترام والتقديس ولقد بات معروفًا بين الباحثين والمختصين في العمارة الإسلامية، أن مبنى المسجد الأقصىالمبارك الحالي،
هو المسجد الأقصى الثاني، باعتبار أن المسجد الأقصى الأول (القديم) هوذاك الذي بناه الخليفة الراشد
عمر بن الخطاب (13 – 23 هجرية/ 63 – 644 ميلادية)، بعد الفتح الإسلامي لبيت المقدس سنة 15 هجرية/ 636 ميلادية،
والذي امتاز بناؤه بعد أن أصبحت بيت المقدس في العصرالأموي ،جزءا من ولاية الشام
وكان بناؤه في ذلك الوقت من الخشب وجذوع الشجر كهيئة مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) في حينه,
وكان يتسع لألف مصل, ثم جدده معاوية بن سفيان (رضي الله عنه)، فاتسع لثلاثة آلاف مصل.
وعلى ما يبدو أن هذا المسجد لم يصمد طويلاً أمام تقلبات العوامل الطبيعية المؤثرة وذلك لبدائية انشائيته ،
حتى قام الأمويون بتأسيس وبناء المسجد الأقصى الحالي .
في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وفي سنة66هـ الموافق685م شرع البناؤون في بناء مسجد الصخرة وفرغوا منه سنة72هـ الموافق691م وجاء المسجد آية في فن الهندسة لا في العصر الأموي فحسب بل وفي كل العصور.
وسمي بهذا الاسم لأنه يضم في داخله الصخرة التي يعتقد بعض المسلمين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم
عرج منها إلى السموات العلا.
ويمتاز بقبته الجميلة، ذات الزخارف الإسلامية الرائعة.
وكان الخليفة قد رصد لبنائه خراج مصر لسبع سنين.
وعهد بإنشائه للعالمين العربيين رجاءالكِندي ويزيد بن سلام.
كما مهد عبد الملك بن مروان الطرق الرئيسة بين الشام والقدس من أجل تسهيل سبل الزيارة لهذين المسجدين.
ويعد مسجد قبة الصخرة في القدس أول مسجد بني في بلاد الشام، إذ كان المسلمون يقيمون الصلاة في مساجد متواضعة موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
بناء المسجد الأقصى في العهد الأموي:
ما نتحدث عنه على أنه المسجد الأقصى في هذا البحث ,
كما جرت العادة على تسميته ,هو ما يسمى بالجامع القبلي
و الجامع القِبْلي (بكسر القاف وتسكين الباء) هو الجامع المسقوف الذي تعلوه قبة رصاصية،
والواقع جنوبي المسجد الأقصى المبارك، جهة القبلة، ومن هنا جاءت تسميته بالقبلي.
أما تسميته بالجامع، فلأنه المصلى الرئيسي الذي يتجمع فيه المصلون خلف الإمام في صلاة الجمعة
في المسجد الأقصى المبارك، ومنه تمتد صفوفهم لتملأ الساحات غير المسقوفة في المسجد المبارك.
فهو المصلى الرئيسي للرجال في المسجد الأقصى المبارك حيث يقف الإمام، وحيث يوجد المحراب والمنبر الرئيسيان.
وقد أخطأ الكثيرون من المسلمين بظنهم أن المبنى ذا القبة الذهبية (قبة الصخرة الواقعة في قلب المسجد الأقصى المبارك)
هو كل المسجد الأقصى المبارك,
فأراد آخرون بحسن نية تصحيح المعلومة، فأعلنوا أن هذا الجامع القِبْلي هو كل المسجد الأقصى المبارك, وهذا أيضا خطأ إذ أن الثابت أن المسجد الأقصى المبارك أوسع وأشمل،
فهو يشمل الأسوار وما بداخلها من ساحات وبنايات ومدارس ومصليات ومساطب وقباب وأروقة ومحاريب،
بمساحة إجمالية تبلغ 144 ألف متر مربع.
ومما ينسب لبني مروان في المسجد الأقصى المصلى المرواني :
ويقع المصلى المرواني تحت ساحات المسجد الأقصى المبارك الجنوبية الشرقية،
ويتحد حائطاه الجنوبي والشرقي مع حائطي المسجد الأقصى المبارك،
وهما كذلك حائطا سور البلدة القديمة في مدينة القدس المحتلة. عرف هذا الجزء من المسجد الأقصى المبارك قديما بالتسوية الشرقية،
إذ بناه الأمويون أصلا كتسوية معمارية لهضبة بيت المقدس الأصلية المنحدرة جهة الجنوب حتى يتسنى البناء فوق قسمها الجنوبي
الأقرب إلى القبلة على أرضية مستوية وأساسات متينة ترتفع لمستوى القسم الشمالي.
ويرجح أن يكون قد بنى قبل الجامع القبلي, لهذا السبب، وأنه استخدم للصلاة ريثما يتم بناء هذا الجامع.
يضم المصلى 16 رواقا حجريا قائما على دعامات حجرية قوية،
ويمتد على مساحة تبلغ نحو أربعة دونمات ونصف (الدونم = ألف متر مربع)،
حيث يعد أكبر مساحة مسقوفة في المسجد الأقصى المبارك حاليا.
ويمكن الوصول إليه من خلال سلم حجري يقع شمال شرق الجامع القبلي , أو من خلال بواباته الشمالية الضخمة
المتعامدة على السور الشرقي للمسجد الأقصى المبارك، والتي تم الكشف عنها مؤخرا.
أما الجامع القبلي في الأصل فهو مكون من 15 رواق، ثم أعيد بناؤه وترميمه بعد تعرضه لزلازل
أدت إلى تصدعه عدة مرات بعد ذلك، واختصرت أروقته إلى سبعة. فهو حاليا يتألف من رواق أوسط كبير عال،
وثلاثة أروقة على جانبيه، وفوق الرواق الأوسط من جهته الجنوبية ترتفع القبة المصنوعة من الخشب
والمغطاة بألواح الرصاص لنحو 17 مترا. يبلغ طوله 80م، وعرضه 55م, ومساحته حوالي أربعة دونمات ونصف
(الدونم = ألف متر مربع)، وله 11 بابا, ويتسع لـ 5500 مصل.
و هناك روايتين حول من بنى المسجد الأقصى آنذاك:
الأولى:
في عام74هـ الموافق693م وبعد أن فرغ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من بناء مسجد قبة الصخرة بدأ في بناء المسجد الأقصى ويقع هذا المسجد إلى الجنوب من مسجد قبة الصخرة على بعد ثلاثمائة متر تقريبا.
الثانية :
بنى المسجد الأقصى المبارك الحالي الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك
في الفترة الواقعة ما بين (90 – 96 هجرية/ 709 – 714ميلادية)
فقد أكدت ذلك وثائق البريد (أوراق البردي) التي احتوت على مراسلات
بين قرة بن شريك عامل مصر الأموي وأحد حكام الصعيد، حيث تضمنت كشفًا بنفقات العمال
الذين شاركوا في بناء المسجد الأقصى، مما يؤكد أن الذي بنى المسجد الأقصى هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
ويرى بعض المؤرخين أن الذي بدأ في بنائه عبد الملك بن مروان ولكنه تم في عهد الوليد بن عبد الملك.
رغم ذلك لا يوجد مصدر تاريخي آخر يؤكد
ذلك, لأننا نجد إشارات تاريخية عديدة تذكر اسم الخليفة الأموي
الذي بنى المسجد الأقصى
فبعضهم أشار إلى الخليفة عبد الملك بن مروان والبعض الآخر إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك.
ومهما يكن من أمر, سواء الذي بناه الخليفة عبد الملك أو ابنه الوليد, أو بدء البناء في عهد
عبد الملك وأكمله الوليد
فإن خلاصة القول أن الأمويين هم الذين اختصوا وبنوا المسجد الأقصى المبارك.
واهتم خلفاء بني أمية بعد ذلك بمسجد الصخرة والمسجد الأقصى (ما يسمى اليوم بالمسجد القبلي) من حيث الترميم والتجديد والتزيين.
ولما تولى الوليد بن عبد الملك الخلافة، اهتم بالقدس، وتقبل بيعة الناس في مسجد قبة الصخرة.
وفي رواية عن ابن أبي عيلة أن الخليفة الوليد كان يعطيه قصاع الفضة ويقسمها على فقراء بيت المقدس.
وانطلاقًا من هذا الواقع الجديد، لا بد لنا أن نقول: إن الأمويين لم يغفلوا ولو للحظة واحدة
عن قدسية بيت المقدس ومكانتها في الإسلام.
فنراهم ترجموا هذا الاهتمام بالفعل والعمل،وذلك من خلال مشاريعهم المعمارية الضخمة التي قاموا بتنفيذها في منطقة بيت المقدس،
حيث بدأ المسيرة المعمارية المباركة هذه الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان في بناء قبة الصخرة المشرفة، وكأنه أوصى ابنه الخليفة الوليد بن عبد الملك،
الذي امتاز عهده بالرخاء وكثرة البناء، حتى اشتهر بذلك، أوصاه لإكمال هذه المسيرة،
فقام ببناء المسجد الأقصى ودار الإمارة ومعالم أخرى.
إذن
فإن الوجه الحضاري الإسلامي الذي نراه اليوم للمسجد يعود الفضل في تشكيله للخلافة
الأموية.
فالأمويون من بنى المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة وقد دل علىذلك
جل الحفريات التي جرت في الجهةالجنوبية للمسجد الأقصى ,
والتي كشفت النقاب عن المخطط المعماري لدار الإمارة الأموية فيبيت المقدس,
من خلال البقايا المعمارية والأثرية لجملة مبان ضخمة عبارة عن قصور وقاعات كبيرة,
دلت وأكدت تاريخ الأمويينالعريق في بيت المقدس.
وبهذه الاكتشافات صحح المؤرخون بعض المفاهيم فيما يخص بعض المعالم الأثرية في بيت المقدس,
مثل الأثر الذي يعرف بإسطبل سليمان وباب الرحمة وغيرها,
وكان قد علق في أذهان العديد من الباحثين والمختصين على أن تاريخ تلك المعالم
يعود لفترات سبقت الفتح الإسلامي لبيت المقدس.
ومن هذا المنطلق الجديد, يعود الفضل بدلالة
الأثر للأمويين في تجسيد هذا المشروع المعماريالضخم
الذي يتراءى لنا اليوم في باحةالحرم الشريف,
وما يؤكد ذلك هو النقش التذكاري المعمول من
الفسيفساء المذهبة
بالخط الكوفي الأموي والواقع أعلى التثمينة الداخلية للقبة في الجهة الشرقية الجنوبية منها, يقول النص :
(..بنى هذه القبة عبد الله عبد الله الإمام المأمون أميرالمؤمنين في سنة اثنين وسبعين تقبل الله منه)
وهنا لا بد للقارئ أن يتساءل كيف تداخل اسم المأمون الخليفة العباسي (198–218 هـ
/813 – 833 م) مع التاريخ 72 هـ,
والجواب هنا أن أثناء أعمال الترميم التي جرت
في فترة الخليفة العباسي المأمون قام أحد الفنيين بتغير اسم (عبد الملك) الخليفة الأمويباني قبة الصخرة,
ووضع مكانه اسم (المأمون) ولكنه نسي أن يغير التاريخ حيث تماكتشاف الأمر بسهولة.
ولكننا نقول حتى لو تم تغيير التاريخ فإنه من الصعب القبول به, ذلك أن التحليل المعماري لمخطط قبة الصخرة
يعود بعناصره وزخارفهإلى الفترة الأموية
وليس العباسية إضافة إلى ما ورد في المصادر التاريخية من نصوص تؤكد على أن
الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هو نفسه الذي قام ببناء هذه القبة وصرف على بنائها خراج مصر لسبع سنيين,
وقد أكد هذا المؤرخ الخليل المقدسي المتوفي عام 975 م حينما وضحه أثناء مناقشة مع عمه (البناء)
بخصوص العمارة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وولده الوليد, حيث يقول في ذلك على لسان عمه :
(…ألا ترى أن عبدالملك لما رأى عظم قبة القمامة (القيامة) وهيبتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمينفنصب على الصخرة قبة على ما ترى ..)
وانطلاقًا من هذا الواقع الجديد، لا بد لنا أن نقول: إن الأمويين لم يغفلوا ولو للحظة واحدةعن قدسية بيت المقدس ومكانتها في الإسلام.
فنراهم ترجموا هذا الاهتمام بالفعل والعمل،وذلك من خلال مشاريعهم المعمارية الضخمةالتي قاموا بتنفيذها في منطقة الحرم الشريف، حيث بدأ المسيرة المعمارية المباركة هذهالخليفة الاموي عبد الملك بن مروان في بناء قبة الصخرة المشرفة، ولما كان حريصًا على إتمام هذاالمشروع أوصى ابنه الخليفةالوليد بن عبد الملك، الذي امتاز عهده بالرخاء وكثرة البناء، حتى اشتهر بذلك، أوصاه لإكمالهذه المسيرة، فقام ببناء المسجد الأقصى ودار الإمارة ومعالم أخرى.
بيعة سليمان بن عبد الملك بالقدس
اهتم الخليفة سليمان بن عبد الملك بفلسطين،فبعد أن أتته بيعة الأجناد وهو في البلقاء سنة714م جاء بيت المقدس، فأتته الوفود مبايعة، فلم تر وفادة كانت أهنأ من الوفادة إليه... فكان يجلس في قبة في صحن مسجد بيت المقدس مما يلي الصخرة... ويبسط البسط، وعليها النمارق والكراسي والوسائد.
وإلى جانبه الأموال وكتاب الدواوين. وقد همّ بالإقامة في بيت المقدس،واتخاذها منزلا،وجمع الأموال والناس فيها.
في نهاية العصر الأموي سادت الاضطرابات والفتن مما جعل أسوار بيت المقدس تتعرض للهدم على يد مروان بن محمد وذلك عام746م.
ويختلف بناء المسجد الحالي عما كان عليه زمن الأمويين اختلافا كبيرا فقد رمم المسجد عدة مرات بعد ذلك وأعيد بناؤه عدة مرات بسبب الزلازل التي كانت تحدث وتسبب الكثير من الأضرار بالمسجد.
هذا بالإضافة إلى التوسعات التي لحقت به.
ولا شك أن للمسجد مكانة كبيرة عند المسلمين فهوأول القبلتين ومسجد الإسراء والمعراج
الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلمبالأنبياء إماما.
و للتنويه كانت مساحة المسجد الأقصى في العهد الأموي أكبر بكثير مما هي عليه الآن, وقد ظل
المسجد قائما بتخطيطه الأصلي الأمـوي حتى سنة 130هـ/746 م حيث تهدم جانباه الغربي والشرقي من جراء الهزة الأرضية في نفس السنة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواقع النشر