بقلم : د. ميسرة طاهر
من عادتنا أن نرافق طفلنا الصغير بين الحين والآخر إلى أماكن الألعاب في بعض الأسواق، حيث نمضي بصحبته ساعة من زمن يتنقل فيها بين لعبة وأخرى، لأن الاتفاق معه مبني على ميزانية محددة للألعاب،
اعترض عليها في البداية ثم انصاع لها بعد أن أدرك أن لكل أمر في الحياة حدود دنيا وأخرى عليا لا ينبغي أن يتجاوزها المرء منا، وخلال مناقشات طويلة أدرك وهو راض أن المال في كل الحالات وسيلة لتحقيق الأهداف المشروعة، وأن كل شيء يزيد على حده ينقلب لضده، لم نعد نختلف معه على أي الألعاب سيمارس، لأنه صار مقتنعا أن الحد الأعلى هو أربع ألعاب، يختارها هو ولا تفرض عليه، وتترك له حرية ممارسة ما ينسجم مع سنه،
ولم تكن هذه المرة مختلفة عن غيرها، هو يلعب وأنا أدون ما ألاحظه من مشاهد ولوحات اجتماعية، وفي هذه المرة كانت اللوحات التي شاهدتها كثيرة، القاسم المشترك بينها جميعا كثرة الخادمات، وكنا تقريبا الأبوين الوحيدين مع طفليهما داخل مدينة الألعاب، في حين أن بقية الأطفال وكانوا كثر ليس معهم إلا الخادمات.
الأسرة الأولى كانت بصحبة خادمة معها طفلان ورضيع من الواضح أنه لم يتعد شهره العاشر، يرقد في عربة وقد غطته خادمته ببطانية والطفلان ولد في الثامنة تقريبا من العمر وبنت في حدود السادسة يترددان عليها يأخذان منها المال فيذهبان به إلى إحدى الألعاب، حتى إذا نفد عادا ليأخذا غيره، وهي بالقرب من عربة الرضيع تقبله تارة وتحضنه وتعطيه قارورة الحليب تارة أخرى وتهز له العربة تارة ثالثة، وكانت بديلا جيدا للأم على الأقل خلال الساعة التي لاحظت سلوكها معه ومع أخويه الكبيرين،
وفي الطرف الآخر طفلة في حدود السادسة من عمرها حملتها خادمتها وأجلستها على كرسي اللعبة ثم صفعتها على وجهها وهي تصيح في وجهها: «اجلسي ولا تتحركي»، وكانت الصفعة محفزا قويا لزوجتي كي تذهب إليها وتقول بدرجة عالية من الحزم: لم تضربينها؟
ثم أقبلت على الطفلة وقالت لها: حين تصلين إلى دارك أخبري أمك أنها ضربتك، والصدمة الكبيرة بالنسبة لي ليست صفعة الخادمة للطفلة فقط ولا كثرة الخادمات مع الأطفال، وغياب أمهاتهم، وإنما جواب الطفلة التي قالت: إن أمي مع صاحباتها في السوق، وفي طريق عودتي من مكان الألعاب إلى السيارة كان لزاما أن أمر على مجموعة المطاعم التي مثلت الجزء الثاني والمكمل للوحة، حيث كان معظم الجالسين على الطاولات نساء بدون أطفال، فتأكدت من صدق ما قالته تلك الطفلة من أن أمها وصويحباتها يجلسن لاحتساء القهوة أو الشاي أو غيرهما،
ويكسبن أو يخسرن مزيدا من الحسنات من خلال الحديث عن فلانة أو علانة، وأطفالهن متروكون بين يدي الخادمات يصفعونهم أو يهملونهم أو يعلمونهم ما لا ينفعهم بل يضرهم.
عدت مع طفلي وأمه إلى بيتنا وأنا أفكر بما شاهدت وتساءلت طوال الطريق: عن الصورة التي سترسم في أذهان هؤلاء الأطفال جميعا عن أمهاتهم، وهل ستأتي لحظة يعاتب فيها الأطفال أمهاتهم ويسألونهن عن سبب تركهم بين يدي الخادمات؟ وما هي الصورة التي سترسم في أذهانهم عن دور الأم؟
وهل سيكررون مع أطفالهم حين يكبرون ما شاهدوه من سلوك الأم (النموذج)؟ وهل يحق لأمثال هؤلاء الأمهات أن يتساءلن مستقبلا عن أي سلوك معوج يبدو من أولادهن؟ وهل يمكن لمثل هذا الإهمال أن يترك بصمته في عقوق الأبناء مستقبلا لأمهاتهم؟ وهل ستستطيع أمثال هؤلاء الأمهات أن يلحظن التغيرات السلبية التي يمكن أن تتشكــل في ســلــوك أطفالهن من بداية تشكلها أم أنهن سينتبهن بعد أن يكون الفأس قد وقع في الرأس كما يقولون؟
مواقع النشر