الجــــــــــزء الأول






رفع نبيل القاسمي سماعة الهاتف، و بدا على وجهه الارتياح و هو يستمع إلى صوت مخاطبه :
ـ أهلا نجيب... نعم... نعم... لقد جهزت كل شيء لاستقبال ليلى... اطمئن... فراس؟... أعلم أنه شديد الحساسية... ربما لن يتقبل الأمر بسهولة في البداية، لكنني سأكون إلى جانبها... لا داعي للقلق... دعني أتصرف...

في تلك اللحظة ترامى إلى مسامعه صوت منبه سيارة في الحديقة الخارجية للقصر... فتطلع من النافذة قبل أن يستطرد :
ـ لقد وصلت السيارة... سأحدثك لاحقا...

وضع السماعة و عدل سترته ثم خطا بثقة نحو البهو...

توقفت سيارة رياضية فاخرة أمام الباب الرئيسي للقصر، بعد أن عبرت الممر الطويل الممهد، المؤدي إلى البوابة الخارجية... نزلت الراكبة الوحيدة ليلى كامل في حركة رشيقة... تناولت حقيبة يدها ثم سلمت الخادم الذي تقدم إليها مفاتيح السيارة... ألقت نظرة فاحصة على الحديقة الخلابة فاسترعت انتباهها ورود حمراء آسرة جعلت ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها، ثم استدارت لتتأمل واجهة المبنى الشامخ المنتصب أمامها، و قد لاحت في عينيها علامات الدهشة و الإعجاب... لكنها ما لبثت أن ابتسمت في ثقة و هي تسوي حجابها و تقدمت بخطى ثابتة لتصعد درجات السلم الحجري المؤدي إلى المدخل... انحنى أمامها الخادم العجوز ثم سبقها إلى الداخل...

كان بهو الاستقبال عبارة عن صالة فخمة ذات أثاث كلاسيكي قديم، وزعت قطعه بذوق و براعة في نظام جذاب... تتوسط القاعة زربية فارسية ذات رسوم و زخارف متناسقة، ألوانها شاحبة تحاكي ألوان الخريف... و في صدر المجلس تربعت أريكة ضخمة من خشب الأبنوس، خمنت على الفور أنها من طراز لويس الرابع عشر، تحيط بها مقاعد من نفس النوع، بنفس الزخرفة الثقيلة... و في المقابل كانت هنالك منضدة زجاجية متوسطة الحجم من الإبداع الصيني، لا تخطئ العين ألوانها المميزة... انجذبت عيناها تجاه مزهرية بلورية تراصت فيها نفس الورود الحمراء التي لمحتها منذ قليل في الحديقة، تضفي على جو القاعة رونقا فريدا... و على مساحة الحائط، امتدت لوحة فنية تمثل غابة كثيفة مظلمة في شتاء قارس... و على قدر ما أعجبت بالمهارة الفنية الواضحة في ثنايا اللوحة، على قدر ما أصابت قلبها بالوحشة و الوحدة و ذكرتها بوضعها... و بالأيام القليلة الماضية من حياتها...

تنهدت في أسى و هي تستدير لتقع نظراتها على الجزء الثاني من البهو الذي كان مناقضا تماما للأول... أثاث عصري بسيط، ذو ألوان زاهية... بساط صغير بديع، و منضدة طويلة نسقت فوقها أعداد من التحف الصغيرة الظريفة، استقرت خلفها مرآة عاجية، طالعت فيها صورتها ثم ابتسمت في رضا و تألقت عيناها الكستنائيتان ببعض الغرور... على عرض الحائط المقابل توزعت لوحات صغيرة متناثرة تمثل مشاهد طبيعية مشرقة...

ابتسمت ليلى و هي تلقي نظرة أخيرة على الجانبين و تلحظ في صمت المفارقات العجيبة التي اجتمعت في فضاء واحد... زوجان مختلفا المزاج؟ ربما... انتبهت إلى السيد نبيل الذي نزل للتو و وقف على بعد بضع خطوات منها يتأملها في صمت و على شفتيه ابتسامة ودودة... تقدمت منه، عانقته في حرارة متكلفة و تبادلا عبارات الترحيب...

و ماهي إلا لحظات حتى سمعت ضوضاء قادمة من الطابق الأول، ثم ظهر شابان ينزلان الدرج في بعض الهرج... انضما إلى السيد نبيل و ليلى التي غضت بصرها في حياء... وقفا غير بعيد عنهما، و بادر السيد نبيل معرفا :
ـ هذه ليلى... ابنة عمتكما نجاة... رحمها الله... و صديقي العزيز نجيب... تعلمان أنها ستقيم بيننا ـ طيلة فترة سفر والدها للإشراف على مشروعه الجديد ـ أرجو أن ترحبا بها جيدا... و تعتبراها مثل شقيقة لكما...

ثم التفت إلى ليلى متابعا :
ـ أرجو يا ابنتي أن تجدي راحتك بيننا...

طالعها الشابان بنظرات متفحصة... كانت فتاة قد تجاوزت العشرين من عمرها بسنتين اثنتين، مليئة بالحيوية و متقدة الذكاء... تلمحه في نظراتها الهادئة، المتحدية، و ابتسامتها الرقيقة التي لا تفارق شفتيها... و لم يكن الجمال ليبخل عليها بقدر وافر منه...

ـ هذا ابني الأكبر... ياسين...

كان ياسين رجلا ضخم الجثة، فارع الطول متين البنيان، تظنه أحد المصارعين المحترفين. و بدا أنه قد تجاوز الثلاثين من عمره ببضع سنوات، تدل هيأته على حياة الرفاهية التي يعيشها دون عناء أو تكلف.

انتبه ياسين، الذي كان يطالع ليلى بنظرات فاحصة، على صوت والده و هو يسأله :
ـ أين زوجتك؟

أجاب في امتعاض :
ـ منال؟... أخذت رانيا و ذهبت في زيارة إلى بيت أهلها...

هز السيد نبيل رأسه متفهما، في حين تقدم ياسين من ليلى و هو يمد يده مصافحا، دون أن تفارق عينيه تلك النظرة الجريئة :
ـ أهلا ليلى... تشرفت بمعرفتك...

لم تكن ليلى ترغب في المصافحة... لكنها بعد تردد قصير مدت يدها لتصافحه في خجل... ابن خالها الذي تراه للمرة الأولى... ليس من اللائق أن تستفزه منذ اللحظات الأولى. هكذا أقنعت نفسها!

ـ و هذا أمين... ابني الأصغر...

قاطعه أمين بحركة مفاجئة و هو يتقدم نحو ليلى و ينحني أمامها انحناءة عريضة، ثم يهم بالتقاط يدها على طريقة الجنتلمان في القرن التاسع عشر! لكن ردة فعل ليلى كانت أسرع من حركته، فسحبت يدها في حدة و ألقت عليه نظرة صارمة... لكن أمين ابتسم في لباقة، رغم الإحراج الذي تعرض إليه للتو، و تابع في غير اهتمام :
ـ أعرفك بنفسي... أنا أمين... الابن الأصغر لعائلة القاسمي... و أنا الأكثر انطلاقا و مرحا في العائلة... يعرفني الجميع بلباقتي مع الجميلات و خبرتي في العلاقات الاجتماعية... طالب هندسة في الصف الثالث... أظن لا يهمك أن تعرفي إن كنت قد رسبت سنتين أو ثلاثا... على أية حال، يسرني وجودك بيننا... لا شك أنك لاحظت المحيط الرجالي الذي يسكن هذا البيت... و أرجو أن تضيفي إلى حياتنا نوعا من التغيير بعد أن أصابنا الروتين و الملل...

كان أمين فتى جذابا بأتم معنى الكلمة، و كان من الواضح أنه يدرك مدى وسامته خاصة حين يقف جنبا إلى جنب مع ياسين الذي كانت ملامحه عادية و خالية مما يثير انتباه الجنس الآخر... كما أن أمين كان لا يزال في بداية شبابه، لا يتجاوز عمره الأربع و العشرين سنة، و في نظراته الكثير من الثقة... و الغرور!

رمقه ياسين بازدراء في حين رماه نبيل بنظرة غاضبة أوقفته... أما ليلى فإنها اكتفت بإشاحة وجهها عنه و في عينيها الكثير من الاستغراب و الامتعاض. أما أمين فابتسم و هو يلوح بيده استهانة :
ـ هل قمت بشيء غريب؟ لقد رحبت بابنة عمتي على طريقتي!

ثم أضاف في صوت خافت، لكنه تناهى إلى مسامع ليلى :
ـ لو كان فراس هنا... لكان الموقف أكثر إثارة...

تسارعت دقات قلب ليلى و هي تسترجع ما ذكره لها والدها من معلومات عن العائلة... و من دون كل أفراد عائلة القاسمي، كانت متشوقة للقاء فراس...

نظر أمين إلى الخادم العجوز بعد أن انصرف والده و قال متسائلا :
ـ هل أخطأت يا عم صابر؟

ابتسم العم صابر و هي يخفض رأسه في ارتباك و لم يجب

قطع نبيل الصمت و هو ينادي الخادم من الغرفة الداخلية، حيث اختفى منذ لحظات :
ـ صابر... احمل حقائب الآنسة إلى الغرفة المعدة لها... و اتركها لتستريح قليلا...

خرج الخادم ليحضر الحقائب التي كانت عند أسفل الدرج الحجري، و ما لبث أن عاد مسرعا و تقدم ليلى إلى السلم المؤدي إلى الطابق الأول، من حيث نزل ياسين و أمين قبل بضعة دقائق... تبعته ليلى في خطوات رزينة، تتبعها النظرات بانطباعاتها المختلفة...


********


تقدمت ليلى في الممر المفروش بالزرابي و المزدان بالثريات متدلية من السقف. كانت الفوانيس الصغيرة و المتلاصقة تضفي على المكان ضوءا خافتا ذا لون أصفر ساحر...
على الجانبين علقت صور لأفراد العائلة و رسومات حائطية...

راحت تتأملها و هي تتبع العم صابر بخطوات هادئة... فجأة توقفت أمام صورة فتاة في مثل سنها تقريبا، أو تصغرها بسنوات قليلة... و بدا لها أنها تطالع صورتها هي، ليلى، منذ بضع سنين مضت! نعم، فالشبه بينهما مما لا يختلف فيه اثنان!

تسارعت دقات قلبها و كست ملامحها تعابير غريبة، لم تدرك هي نفسها كنهها... لكنها سرعان ما تمالكت نفسها و سارعت الخطو لتلحق بالعم صابر الذي توقف أمام غرفة في نفس الممر...

حين خطت إلى داخل الغرفة المعدة لها وجدت نفسها في عالم جديد غاية في الروعة... كان أول ما لفت نظرها هو ورق الجدران الأزرق السماوي المحلى برسوم رقيقة بيضاء. لون هادئ و مريح جعلها تبتسم في رضا و هي تتقدم لتضع حقيبتها على البساط. كان أثاث الغرفة في غاية الأناقة و البساطة... شديدة الاختلاف عن غرفتها السابقة، في منزلها... فراش كبير على الطراز الأمريكي الحديث، منضدة تحمل مختلف أنواع العطور و أدوات الزينة، مرآة عاجية، و مصابيح صغيرة ترسل نورا أزرق سماويا... و في الجهة المقابلة، صوان ملابس مصنوع من خشب الأرز الأبيض و مكتب صغير... و مع كل هذا، شرفة تطل على الحديقة! تأمات غرفتها "الخاصة" في انبهار، ثم ألقت بنفسها على السرير الوثير الناعم و تنفست الصعداء... أغلقت عينيها و غرقت في لجة أفكارها... كم ستبقى هنا يا ترى؟ أملها أن تنتهي رحلة والدها بأسرع ما يمكن و تعود لتسكن معه في بيتهما الصغير في فرنسا...

لم تدرك كم مضى عليها من الوقت و هي مستلقية في تلك الوضعية المريحة و مستسلمة لأفكارها... لكنها انتبهت على صوت طرق خفيف على الباب... فتحت عينيها و استقامت في مجلسها. تناهى إليها صوت رجالي يقول :
ـ ليلى... هل يمكنني الدخول؟

فزعت و قامت لتسوي حجابها أمام المرآة و هي تتساءل : من؟

ـ أنا أمين... هل أنت نائمة؟

توجهت نحو الباب و فتحته ليطالعها وجه أمين المبتسم... كان قد ورث عن والده عينيه السوداوين العميقتين و شعره الأسود الناعم... و عن والدته المتوفاة البشرة البيضاء الصافية و الغمازة في الذقن، مع أنف مستقيم حاد... ملامحه تشي بالحدة و التحفز، لكنه بدا ودودا إلى أبعد الحدود... خطا إلى الداخل دون كلفة، في حين اتسعت عينا ليلى في دهشة و استهجان، لكنها لم تنطق بكلمة...

نظر إلى الحقيبة التي كانت لا تزال في موضعها. جلس ببساطة على المقعد المواجه للمكتب واضعا ساقا على أخرى، و تكلم كمن يخاطب صديقا حميما :
ـ أرى أنك لم تستقري في غرفتك بعد‍! فالحقيبة لم تفرغ... و أنت لم تغيري ثيابك...

وقف برشاقة فارعا طوله ثم أجال بصره في الغرفة مضيفا :
ـ أنت محظوظة لحصولك على هاته الغرفة... فهي كانت غرفة المالكة الأولى للقصر... زوجة أبي الأولى... والدة ياسين... صحيح أنه تم تجديد الأثاث، بالكامل تقريبا... لكن الغرفة تحافظ على طابعها الخاص و الغامض...

كانت تجيل نظراتها في أرجاء الغرفة و هي توافقه في قرارة نفسها على غموض طابعها و رونقها الفريد من نوعه... نظرت إليه فجأة حين أحست بعينيه تستقران على وجهها في إصرار
ـ لا أظنني سأقول شيئا جديدا عنك... لكنك يا ابنة عمتي في غاية الجمال!

تراجعت مبغوتة من هذا الغزل الصريح فاستدرك متابعا :
ـ أرجو أن لا تتضايقي من صراحتي... فقد اعتدت التعبير المباشر عما يجول في خاطري...

اتسعت ابتسامته، أمام احمرار وجهها، و همس :
ـ لا تتأخري عن موعد العشاء بعد نصف ساعة... أراك لاحقا!

تقدم نحو الباب بمثل البساطة التي دخل بها... و قبل أن يتوارى عن ناظريها، أطل برأسه من فتحة الباب و همس :
ـ فراس سيكون معنا على العشاء... كوني حذرة!

وقفت للحظات مبهوتة... كانت تحس بالضيق... فمن الواضح أنها ستواجه الكثير من المتاعب حتى توقف أمين عند حده و تفرض عليه احترامها... ثم تاهت أفكارها في ملاحظته الأخيرة... لكنها ما لبثت أن هزت كتفيها في لامبالاة و شرعت في توضيب ملابسها في الصوان بتأن. غيرت ملابسها و غادرت الغرفة... و لم تستطع مقاومة رغبة ملحة في النظر ثانية لصورة الفتاة التي تشبهها المعلقة في الممر...

نزلت درجات السلم في هدوء و هي تنظر إلى البهو من عل... فجأة توقفت حين طرق سمعها صوت نبيل و كان من الواضح أنه يخاطب أحد أبنائه :
ـ أرجوك... انس الموضوع تماما... لا داعي لتعقيد الأمور أكثر من اللازم... فراس... كن واقعيا... كل شيء انتهى منذ 3 سنوات... و الغرفة منذ تلك الآونة شاغرة... فلماذا لا تسكنها ليلى؟

جاء صوت فراس حادا، رغم محاولة صاحبه الجاهدة لتهذيبه :
ـ لكنك تعلم أنني لا أريد ذلك... لا أريد ذلك! و مع هذا سمحت به!!

ـ لقد أنهينا الموضوع سابقا... أليست 3 سنوات بكافية لتنسى تلك الحادثة؟

بدا أن فراس يكاد ينفجر غاضبا... أو باكيا... أو كليهما معا :
ـ أنسى؟؟!! و كيف يمكنني أن أنسى؟!! هل ما حدث شيء ينسى؟؟!! أنت تطلب المستحيل...

تنهد نبيل في ضيق و هو يقول :
ـ فلتعلم إذن بأنني تعمدت أن أفتح الغرفة من جديد لتقيم بها ليلى... لأجبرك على النسيان! آن الأوان لتعود إلى حياتك الطبيعية...

ران صمت ثقيل لبعض لحظات قبل أن يقول فراس :
ـ و لكنها ليست أي شخص... إنها أختها التوأم...

قاطعه نبيل بصوت هادئ حمله شحنة من الحنان الأبوي :
ـ من الأفضل أن تهدأ الآن... قد تصل ليلى في أية لحظة...

أحست ليلى بالحرج حين سمعت اسمها و أدركت أن عليها الظهور فورا، لتضع حدا لهذا الحوار المتشنج... أخذت نفسا عميقا ثم واصلت طريقها محاولة التصرف بصفة طبيعية... و دلفت إلى غرفة الطعام المحاذية للبهو...

توجهت إليها الأنظار حال وصولها. رمقها ياسين بنظرة جانبية، في حين أطلق أمين صفيرا طويلا معلنا عن إعجابه... أما فراس فقد رفع إليها عينيه في بطء، و ما أن توقف بصره على وجهها حتى تراجع في حدة... كأن شحنة كهربائية أصابته... ربت نبيل الذي كان يجلس قريبا منه على كتفه مشجعا، فوقف و توجه نحوها. وقف قبالتها و مد كفا مختلجة لمصافحتها... لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة و خبأ كفيه و راء ظهره و هو يهمس بصوت مبحوح جاد به حلقه في عناء شديد : مرحبا!

و بسرعة عاد إلى مجلسه و لبث مطرقا و قد ازداد وجهه شحوبا.
وقف نبيل و دعا ليلى إلى الجلوس قربه... قبالة فراس...

بدت نظرات ياسين إليها بلهاء... أو أن ليلى وجدتها كذلك... فقد ظل يحدق فيها طوال فترة العشاء بصورة فظيعة! فتحاشت قدر الإمكان النظر إليه، و كان من حسن حظها أنه يجلس في طرف المائدة، إلى جانب فراس... في حين لم يتوقف أمين الذي كان يجلس إلى جانبها، قبالة ياسين، عن الثرثرة... فملأ الفراغ بصوته الجهوري :

ـ أوه... ليلى! إنها مناسبة تستحق الاحتفال بالفعل، أليس كذلك؟ لكن ماذا... صحنك لم يلمس بعد! يبدو أن طعام العم هاشم لا يعجبك... كلي أرجوك... فقد لا تتمتعين معنا كثيرا بعشاء هادئ، قبل أن يقرر أخي العزيز ياسين إقامة زوبعة بمشاكله التافهة التي لا تنتهي... تناولي قطعة السجق هذه... تبدو محمرة بصفة جيدة... بالمناسبة، تبدين أنيقة دائمة دون ماكياج... و من ذا الذي يفضل لوحة زيتية تحتوي على كل الألوان و الأصباغ! الطبيعة دائما أفضل من الأقنعة المزيفة، و أنا شخصيا أفضل الفتيات الفخورات بجمالهن الطبيعي دون غش... ألست محقا؟... فراس... فيم كنا نتحدث قبل قدوم ليلى؟ آه... نعم... أبي يعتزم أخذنا في عطلة نهاية الأسبوع لقضاء اليوم بأكمله في المزرعة... المكان رائع هناك و شديد الرومانسية... أراهن على أنك من محبي الطبيعة!

كانت ليلى تحس بالغيظ الشديد من ملاحظاته الوقحة. ابتلعت قطعة أخرى من اللحم في صعوبة، و هي تلحظ الوجوم المخيم على الوجوه، عدا وجه أمين طبعا... الذي واصل قائلا :
ـ ستستمتعين كثيرا... العم صابر أيضا يحب المزرعة... فقد غرس في المرة الماضية حوضا من الورود البرية الحمراء... حنان أيضا كانت تحب الورود الحمراء...

أحست بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، فقد توجهت الأنظار كلها إلى أمين الذي بدا عليه الارتباك، بما فيها عيني ليلى... توقفت حركة الأكل و لم يعد صوت الملاعق و الأشواك التي ترتطم بالصحون يسمع لمدة بضع ثوان... و أخيرا نطق أمين :
ـ ألم يحدثك أحد عن حنان؟

كان فراس إلى تلك اللحظة يحاول الحفاظ على هدوئه و نظراته المهذبة، مسيطرا قدر الإمكان على انفعالاته... و لكن ما إن نطق أمين بتلك الجملة حتى سقطت الشوكة من يده محدثة رنينا على الأرضية المجلزة... ثم انتصب واقفا و هو يمسح يديه في عصبية و غادر القاعة بخطى متوترة... نظر أمين حوله كالمتهم الذي يحاول دفع الشكوك عنه، ثم التفت إلى ليلى و استطرد مغيرا الموضوع :

ـ هل تريدين شيئا من البيض؟ سيستاء العم هاشم إن لم تنهي طبقك... لم توقفت عن الأكل؟ خذي كأس العصير هذا... سينعشك...