الجزء الثــــــــــــالث



أمضت بقية الفترة الصباحية في عملية التعرف على أرجاء القصر... فعرفت أن غرفة فراس هي الغرفة الملاصقة لغرفتها في حين كانت قبالتها غرفة أمين. أما ياسين و السيد نبيل فيقيمان في الطابق العلوي. في الأثناء كانت رجاء تلازم فراس. و لم تجازف ليلى بالاقتراب منهما حين لمحتهما يجلسان في الصالة العلوية. أمضت الكثير من الوقت في الحديقة، خاصة بعد أن انصرف كل من ياسين و خالها إلى أعمالهما... و بعد الغداء، جاء سائق رجاء لأخذها، فتنفست ليلى الصعداء!

لكنها في نفس الوقت كانت تشعر بالملل... فليس هنالك فتاة أو امرأة تحادثها... ليس هنالك غير أمين، الذي لم يتوقف عن عرض خدماته! أما فراس، فما إن تخلص من صحبة رجاء حتى عاد إلى غرفته و لم يظهر طيلة فترة ما بعد الظهر. ياسين و السيد نبيل يغيبان طوال اليوم في الشركة... و فراس الذي يستعد للانتقال إلى عيادته الخاصة لم يذهب اليوم إلى المستشفى لإحساسه بالتعب بعد ليلة البارحة المضطربة...

صعدت أخيرا إلى غرفتها و إحساسها بالملل يقتلها... تناولت مصحفها و جلست تقرأ بصوت خافت... شعرت براحة كبيرة... دعت بخشوع من أجل سرعة عودة والدها و نجاحه في صفقته. لم يتصل بها اليوم... كان قلقها يتزايد لأنه ليس من عادته أن يغيب عن ناظريها كل هذه المدة...

أزاحت الستار و هي تتنهد في قوة. فتحت باب الشرفة و استقبلت النسيم و هي تغمض عينيها في انشراح. تقدم بضع خطوات و استندت بمرفقيها على جدار الشرفة و سرحت بعيدا... كم تحتاج إلى الاتصال بالعالم الخارجي. لا أحد يفهمها مثل صديقتها المقربة سحر التي تركتها في فرنسا. لم تحصل على اشتراك هاتفي بعد، كما أنها تفتقد كثيرا الشبكة العنكبوتية منذ وصولها... يجب أن تطلب من خالها إمدادها بكل هاته الاشتراكات... خاصة إن كانت فترة إقامتها ستطول!

كان فراس يجلس في شرفته ذاك العصر و قد احتضن مجلدا ضخما، من كتبه الطبية بالتأكيد! كان يريد أن يتجاهل ذاك الكم الهائل من الذكريات التي هاجمت عقله فجأة... حاول أن يشغل نفسه بالقراءة، لكنه كان يفقد تركيزه بسرعة و تأخذه أفكاره بعيدا... إلى حنان! اجتاحه إحساس بالضيق و الألم... ثلاث سنوات مرت و هو غير قادر على تجاوز الذكرى، غير قادر على استعادة التوازن في حياته... تلك الحادثة غيرت الكثير في نفسه، غيرته بلا رجعة... الكل لاحظ عصبيته الزائدة، بروده و انطواءه...

فجأة، انتبه حين طرق مسامعه تنهيدة عميقة، و ما لبث أن رأى خيالها يظهر في الشرفة المجاورة... تقدمت أمام عينيه و هي تستقبل النسيم البارد دون أن تنتبه إلى وجوده... تعلقت عيناه بجانب وجهها الذي يظهر من زاويته، و تداخلت المشاعر في نفسه... حنان؟ لا... إنها ليلى! تمالك نفسه بصعوبة و سيطر على دمعة أوشكت أن تتسلل إلى طرف عينه... لشد ما تعذبت روحه في كل مرة يقع نظره على صورة لها، لكن أن يراها أمامه بهذا الشكل "الحقيقي" فهو ما لا يقدر على تحمله... لماذا يا حنان؟ لماذا؟ أغمض عينيه في قوة ليطرد طيفها، وضع رأسه بين يديه و تنهد في ألم...

في تلك اللحظة انتبهت ليلى إلى أنفاسه التي تتردد بقوة غير بعيد عنها، التفتت في سرعة و لمحته على تلك الحالة، يضغط على رأسه بكلتا يديه في ألم واضح و قد تغيرت ملامحه :
ـ فراس... هل أنت بخير؟

رفع رأسه في اضطراب... كان قد نسي وجودها للحظات... بدا عليه أنه لم يستوعب الموقف بعد... جاءه صوت ليلى ثانية :
ـ هل أنت بخير؟

إنه متأكد من أن الصوت لم يكن صوتها... النبرة مختلفة! ارتبك، وقف فجأة فسقط الكتاب الذي كان في حضنه... نظر إليها نظرة أخيرة، و همس في ذهول :
ـ أنا آسف...

ثم سارع بالدخول إلى غرفته، تاركا ليلى في حيرة و قلق...


*******

انتبهت ليلى على نقر خفيف على باب غرفتها. كانت قد عادت إلى الداخل بعد اختفاء فراس من الشرفة، و لبثت تقطع الغرفة جيئة و ذهابا في قلق واضح... كان جليا بالنسبة إليها أنه لم يكن على ما يرام... لم يكن الطرق شبيها بطرقات أمين الموقعة. عقدت حاجبيها في تساؤل : من يكون القادم في مثل هاته الساعة؟

اقتربت في خفة من الباب و هتفت بصوت رقيق :
ـ من هناك؟

أجابها صوت أنثوي غريب.
ـ ليلى... هلا فتحت؟

تهللت ليلى فرحا طالما كان الصوت أنثويا و هرعت لتفتح الباب، و قد أدركت من الطارق مسبقا. طالعتها امرأة شابة تقترب من الثلاثين، ترتدي ثوبا محتشما أنيقا و قد ألقت على رأسها غطاء دون اهتمام، يكشف عن مقدمة شعرها. استقبلتها بابتسامة واسعة و احتضنتها في حرارة و هي تقول :
ـ أهلا بك... كيف حالك؟ أنا منال... زوجة ياسين... و هذه رانيا ابنتي...

اتسعت ابتسامة ليلى حين انتبهت إلى الكائن الصغير الذي يمسك بطرف ثوب منال و يتطلع إليها بعينين بريئتين و ابتسامة مترددة. انحنت بسرعة لتقبل الفتاة الصغيرة التي يبلغ عمرها 4 سنوات و حسب و ربتت على رأسها في حنان.

تخلصت رانيا من حضن ليلى في سرعة و اختفت خلف والدتها في خجل... لكنها ما لبثت أن أطلت في فضول، فلم تتمالك ليلى نفسها أن أطلقت ضحكة صغيرة على شكل الفتاة المضحك.
ـ سلمي على الخالة ليلى... هيا رانيا...

عادت الفتاة لتختفي من جديد في ارتباك و غمغمت و هي تدفن وجهها في ثوب والدتها :
ـ مرحبا خالة ليلى...

ضحكت ليلى و منال من جديد ثم قالت منال :
ـ كنت في زيارة لمنزل والدي و لم أعلم بوصولك إلا الآن، من العم صابر... أرجو أن لا يكون الملل قد أصابك في هذا القصر الكبير، حيث الكل منشغل عن غيره!

ابتسمت ليلى و قد وجدت من يشاركها همومها!
ـ نعم، فأنا لم أسجل في الجامعة بعد لإتمام المرحلة الثالثة من دراستي... و حين ينشغل كل بأعماله أجد نفسي وحيدة بلا عمل!

ـ لا تقلقي... فأنا متفرغة لك كليا... انقطعت عن العمل منذ أنجبت رانيا...

سألتها ليلى و هما تتوجهان نحو الصالة العلوية في نفس الطابق :
ـ و ماذا كنت تعملين قبل ذلك؟

ـ كنت موظفة في شركة عمي نبيل... في قسم العلاقات العامة...

ضحكت و هي تواصل قائلة :
ـ ثم التقيت بياسين... و حصل ما حصل!

شاركتها ليلى الضحك و قد أحست بالراحة إلى هاته المرأة التي تبدو عليها الطيبة و التلقائية، و فوق كل هذا فهي أنثى مثلها و تفهمها أكثر من أي شخص آخر في هذا المكان!

استمرت الأحاديث بينهما ساعة من الزمن حول مواضيع شتى، و رغم الفارق العمري فقد وجدتا الكثير من النقاط المشتركة بينهما، و أهمها شغفهما بالمطالعة و حب الطبيعة و المناطق المفتوحة... فقد كانت ليلى قد تعودت على الوحدة، فلم يكن يخفف عنها إلا قراءة الكتب و الجلوس في المناطق الخضراء و التأمل إضافة إلى الإبحار على الإنترنت بطبيعة الحال. أما منال، فإن أصلها الريفي و طموحها إلى تغيير وضعها اشتركا في تشكيل محاور اهتمامها... و لم تنس ليلى أن تصارح منال بحاجتها إلى وسائل الاتصال بالعالم الخارجي فوعدتها منال بأن تفاتح السيد نبيل في أقرب فرصة...

نظرت منال في ساعتها و قالت :
ـ حان وقت العشاء... أراهن على أني عمي ينتظرنا على المائدة!

وقفتا و توجهتا إلى الدرج... و في تلك اللحظة فتح باب غرفة فراس... ظهر فراس و قد بدا أكثر هدوء و تماسكا... ركضت نحوه رانيا في حماس و هي تهتف بصوت مرح :
ـ عمي فرااااس...

استقبلها فراس بذراعيه و رفعها عاليا و هي تطلق ضحكاتها الرنانة في سعادة حقيقية... اقتربت منهما منال مبتسمة :
ـ كيف حالك فراس؟

كان لا يزال يحتضن الصغيرة في حب و قال متظاهرا بالغضب :
ـ لا تسأليني عن حالي و قد حرمتني من حلوتي ثلاثة أيام كاملة!

ضحكت منال، و اكتفت ليلى التي وقفت على بعد أمتار منهم بابتسامة. انتبه فراس إلى وجودها حين تقدم بضع خطوات لينزل إلى قاعة الطعام... ابتسم و هو يمر قريبا منها و قال محدثا رانيا :
ـ حبيبتي... كيف كانت رحلتك؟ ألم تشتاقي إلي؟

عانقته الفتاة بذراعيها الصغيرتين و طبعت قبلة على خده و هي تهتف :
ـ اشتقت إليك كثيرا جدا جدا...

ثم همست في أذنه :
ـ أين الحلوى التي وعدتني بها؟

ضحك فراس على دهاء الفتاة الصغيرة و قال و هو ينزل الدرجات في هدوء واحدة واحدة :
ـ الآن وقت العشاء... الحلوى نتناولها فيما بعد... اتفقنا؟

هزت الفتاة رأسها موافقة...
كانت ليلى و منال تمشيان خلفهما. و كانت المرة الأولى التي ترى فيها ليلى فراس يضحك... كان يبدو مختلفا حين يضحك. تلين ملامحه التي تصلبت من شدة التجهم و تلتمع عيناه ببريق الحياة، البريق الذي تحل مكانه ظلال قاتمة حين يتملكه الغضب و العصبية... و هو الطبع الذي سيطر عليه في السنوات القليلة الماضية. و لم يعد هنالك أحد قادر على إضحاكه إلا رانيا الصغيرة، التي ينسى العالم بأسره حين يدخل دنيا براءتها...