الجزء الثالث عشر




قطفت بضعة وردات حمراء قانية، و جلست في الشرفة تتشاغل بتنظيفها و إزالة أشواكها. وخزت شوكة إصبعها، فسالت قطرة من الدم لتستقر على إحدى البتلات. تناولت الوردة و قربتها منها. ابتسمت حين ضاع لون قطرة الدم أمام لون الوردة الدامي... سرحت للحظات و قد أعاد إليها منظر الدم هواجس كثيرة طاردتها في الأيام الماضية. مسحت الدم عن إصبعها بمنديل ورقي و عادت إلى عملها، لكن بذهن مشتت و تركيز قليل...

أحست بخطوات تقترب من مجلسها. لم ترفع رأسها و هي تلمح الظل الذي يمتد أمامها و قد اقترب الوقت من الظهر. تناهى إليها صوت الخالة مريم و هي تتنحنح محاولة شد انتباهها. رفعت رأسها قليلا، بابتسامة شاحبة. جلست العجوز قبالتها و قالت بصوت مبحوح :
ـ أنا آسفة يا صغيرتي إن كان كلامي هذا الصباح قد آلمك...

لم تجب ليلى، لكنها ضغطت بالمنديل على إصبعها من جديد، كأنها تمنع الألم من التسرب إلى الخارج، تحبسه في دمها و في قلبها... فقد تعودت أن تكتم ألمها، إلا عن والدها... لكنها غير واثقة من أن والدها نفسه قد يقدر على التخفيف عنها هذا الألم بالذات!

تكلمت المربية بصوت هادئ و عميق، كأنها تحاول الوصول إلى أعماق ليلى :
ـ ليس ذنبك إن كانت والدتك امرأة قاسية و متعجرفة... و قد كان من لطف الله بك أن عشت بعيدا عنها! فيبدو أن نجيب أحسن تربيتك و علمك الحفاظ على دينك و أخلاقك... و يا ليته أخذ حنان أيضا، ربما كانت نشأت بصورة مختلفة...

تنهدت و هي تسترجع ذكريات قديمة، مرت عليها أربع و عشرون سنة. استطردت و هي تتأمل وجه ليلى، كأنها تقرأ في ثناياه تفاصيل تاريخها :
ـ عرفت والدتك شابة و امرأة... كانت منذ صغرها متكبرة و مغرورة... مغرورة بجمالها و نسبها... و بعد زواج نبيل من هاجر، تمتعت بثروة أخيها و عاشت حياة مرفهة، زادتها غرورا إلى غرورها... والدك كان صديق نبيل، و كان حينها يشغل منصبا هاما في وزارة الخارجية... تعرف عليها في إحدى السهرات التي يحضرها رجال الأعمال و السياسيون، فقد كانت ترافق نبيل و هاجر إلى معظمها... أعجب بها من النظرة الأولى... فهي تبدو رقيقة و هادئة... لم يتردد في خطبتها، و بعد فترة وجيزة تزوجا. نجاة كانت في غاية السعادة و هي ترى أول أحلامها يتحقق : أن ترتبط برجل وسيم و ثري و ذي مركز مرموق... لكن سعادتها لم تدم طويلا، فبعد أشهر قليلة من الزواج بدأت صورتها تتضح أكثر أمام عينيه، و أدرك الخطأ العميق الذي ارتكبه بزواجه منها... و حين عين سفيرا للبلاد، قرر السفر بمفرده، متعللا بعدم استقرار وظيفته بعد... كأني به أراد أن يمنح نفسه فرصة إعادة النظر في زواجه و اتخاذ القرار المناسب... في تلك الفترة كانت نجاة في غاية الاستياء... و صارت تصرفاتها لا تطاق! تصب جام غضبها على موظفي القصر و تعاملهم باحتقار فظيع...

تغيرت ملامح وجهها و هي تذكر معاناتها في تلك الفترة و أردفت :
ـ كانت تسلط قسوتها علي بدون تردد... كلما ما وقعت عينها علي، تسمعني أبذأ الكلمات و أشدها وحشية... ترى نفسها محسودة من الجميع... و تظن أن العالم كله يشمت فيها، بعد تدهور علاقتها بزوجها! لكن حادثة ما ظلت عالقة بذهني... أذكر يومها أنني اشتريت عقدا... كان عقدا رخيصا، لكنه جميل و حباته ذات لمعان جذاب... كنت أحمل إليها الفطور إلى غرفتها، و حين انحنيت لأضع الطبق على المنضدة القريبة، فوجئت بيدها تمتد لتقتلع العقد من عنقي! تناثرت الحبيبات على الأرض و سقط بعضها في وعاء الحساء... و جرح السلك الرقيق عنقي تاركا علامة عميقة...

سكتت للحظات، كأنها تستعيد المشهد بحذافيره أمام عينيها، ثم قالت في مرارة :
ـ نظرت إلي في استهزاء و صرخت : هل تظنين بأن عقدا سخيفا سيغير شيئا من قبحك!! كنت في غاية الذهول و الألم... كانت كلماتها كالخنجر تخترق صدري... و مع ذلك، كان علي أن أجمع ما تناثر على الأرض و أعيد تحضير الفطور، و أنا أكتم عبرتي... و كثيرة هي المواقف التي كانت تحاول فيها إشعاري بتفوقها علي، بجمالها و رشاقتها... لم يكفها أنني أعمل في خدمتها طوال الوقت، مع أن دوري الأساسي كان الاهتمام بالأطفال!

كانت ليلى في غاية التأثر و هي تستمع إلى رواية الخالة مريم المحزنة. حزينة هي على معاناة المربية المسكينة، و حزينة لما كانت عليه أمها... فحقا، لا يملك الإنسان اختيار والديه! و ليس ذنبها أن والدتها كانت بمثل هذه الطباع...

واصلت المربية و هي تمسح دمعة يتيمة سالت على خدها دون رغبة منها :
ـ أمك لم تكن ترغب في الإنجاب... كانت ترى الحمل و الولادة عبأين ثقيلين، خاصة مع الأثر الذي يتركانه في الجسم، و هي كانت مهووسة بجمال جسدها! لكنها فرحت حين عرفت بأنها حامل، ذلك لأنه السبب الوحيد الذي قد يجعل نجيب يقرر الاستمرار معها! و بالفعل، كان ذلك ما حصل... فحين سمع بحملها، عاد إلى هنا و أخذها معه إلى اليونان، حيث كان يشغل وظيفة سفير للبلاد... و مرت سنوات طويلة دون أن أسمع عنها شيئا... سنوات خمس لم تطأ قدماها أرض البلد، و لا أظنها افتقدت شيئا فيها! فهي من النوع الثائر على التقاليد العربية و المجتمعات المحافظة... و أظنها وجدت ضالتها في أوروبا... و لا أظن أن أحدا افتقدها أيضا، فشرها كان يطال القريب و البعيد!

كانت ليلى تتألم في صمت، لكن ملامح وجهها كانت تشي بمعاناتها، فما تسمعه ليس بهين...

واصلت المربية حديثها :
ـ و في يوم ما، و دون سابق إنذار، فوجئت بسيارة أجرة تتوقف عند بوابة القصر، و تنزل منها نجاة و معها فتاة في سن الخامسة... لا أخفي عليك أن كوابيسي القديمة عادت إلي دفعة واحدة في تلك اللحظة... فآخر ما كنت أتمناه هو ظهور نجاة في حياتي من جديد! و لا أظنه شعوري وحدي، بل شعور كل من في القصر!!

قاطعتها ليلى في حيرة :
ـ و خالي نبيل؟ كيف كانت علاقتها به؟

عقدت مريم حاجبيها في تفكير :
ـ نبيل كان يتجاوز عن زلاتها و يتساهل معها كثيرا... فهي شقيقته الوحيدة، كما أنهما عاشا ظروفا صعبة بعد إفلاس والدهما و دخوله السجن بسبب الديون! نبيل كافح كثيرا حتى يستعيد مكانته في المجتمع و يعيد مجد العائلة العريقة... لذا فإنه كان يدلل نجاة كثيرا، كنوع من التعويض المعنوي عن ما عاشته من آلام في طفولتها...

هزت ليلى رأسها في تفهم... و أسف. تابعت مريم روايتها :
ـ كان والدك قد طلق والدتك... فعادت ذليلة لتعيش مع أخيها. و بطبيعة الحال ازدادت نقمتها على كل من حولها، و لم تكن الضحية سوى حنان الصغيرة التي تعلمت الحقد منذ طفولتها. و لأنها لم تهتم بتربيتها، فقد نشأت مثل الأولاد! تماري فراس و أمين في ألعابهما الشقية... و كبرت على ذلك الشكل... تحظى بكامل الحرية، و تتأثر بشخصية نجاة المادية... و بدأت تتعثر في دراستها و كثرت رسائل المدرسة و شكاوى الأساتذة من سلوكها و غيابها المستمر عن الدروس... فقد كانت تخرج صباحا مع السائق إلى مدرستها، لكنها تشرد بعد ذلك و تقضي النهار في التسكع... إلى أن انفصلت عن الدراسة في سن السادسة عشرة!

عقدت ليلى حاجبيها في دهشة و قالت :
ـ كيف تترك المدرسة؟ و هل وافقتها والدتي؟ و خالي نبيل، ألم يتدخل؟

هزت المربية كتفيها في لامبالاة و قالت :
ـ حنان لم تكن ترغب في مواصلة الدراسة، فمنذ ذاك السن، كان كل ما يشغلها صالونات التجميل و عروض الأزياء و السهرات الراقصة و الأمسيات الشبابية... و والدتك هي من علمها هذا النوع من الحياة! لذلك فإنها لم تبال إن تركت المدرسة الحكومية، طالما أنها كانت تجاريها في تعلم فنون الإيتيكيت و العناية بالبشرة و اتباع الحمية المناسبة!! أما خالك، فإنه كان مشغولا طوال الوقت، و الحقيقة أنه في تلك الفترة كان يواجه صعوبات جمة في أعماله مما أبعده عن أجواء العائلة تماما... فكيف له أن يراقب سلوك الفتاة، و أمها نفسها في حاجة إلى مراقبة! إيمان كانت قد رحلت منذ سنوات عديدة و أمين هو الآخر كان شبه خارج عن السيطرة، لولا حزم ياسين معه و متابعة أماني الدائمة لدراسته... قبل رحيلها هي الأخرى...

همت ليلى بأن تستوضح أكثر عن ظروف وفاة أماني، و لكنها عدلت حين رأت مريم تتنهد و تواصل :
ـ كانت الظروف العامة في تلك الفترة مضطربة جدا... خالك ظل غارقا في الأحزان لفترة طويلة، بعد رحيل زوجتيه واحدة إثر الأخرى، و مع حوادث الانتحار التي جعلت سمعة العائلة تلوكها الأفواه... لذلك كانت مشاغل نجاة و ابنتها آخر ما يمكن أن يثير اهتمامه!

أطرقت ليلى في تفكير... تعلم أن السمعة في حياة رجل الأعمال هي أهم ما يملك! و الأزمات التي مرت بها العائلة كانت لها تداعياتها على شركة خالها بالتأكيد... حتى إن لم يختلف الأمر بالنسبة إلى من يتعامل معهم من شركاء و حلفاء، فإن حالته النفسية ستؤثر حتما على قراراته...

أخرجها صوت الخالة مريم من تأملاتها و هي تقول متابعة :
ـ لكن في الأشهر القليلة التي سبقت وفاتها، تغيرت نجاة نوعا ما... أصبحت تحس بتعب لأقل مجهود تبذله، و صارت أكثر هدوءا و لم يعد صوتها يسمع كثيرا و هي تصرخ على الخدم! الحقيقة أن الجميع استغرب ذلك، و سرت الهمهمات حول إصابتها بمرض عضال جعل قواها تخور مرة واحدة...

اقتربت الخالة مريم من ليلى أكثر و قالت هامسة :
ـ مع أنها أخفت ذلك عن الجميع، بدون استثناء... إلا أنه من الواضح أنها أصيبت بداء خطير... داء فقدان المناعة... بسبب علاقاتها المشبوهة...

وضعت ليلى كفها على فمها في صدمة، لتكتم صرخة كادت تصدر عنها، و سالت على خدها دمعة حرى، تبكي ماضي عائلتها المشين. أمها كانت بهذا الشكل؟ أمها ماتت بسبب معاصيها؟ كنت حزينة لأنها لم تعرف والدتها و عاشت بعيدا عنها... و الآن؟ هل تتمنى أنها كانت بقربها؟ هل كانت لتقدر على منعها من الاسترسال في طريقها المنحرفة؟

لم تستطع أن تتحمل أكثر. استمرت تبكي في صمت... لشد ما كانت متشوقة لتعرف عائلتها... لكن ليس بهذا الشكل! ليس بهذا العار! ارتفعت شهقاتها و لم تعد قادرة على السيطرة عليها...

أحضرت المربية كأسا من الماء و مدتها إليها في حنان :
ـ صغيرتي... ليس الذنب ذنبك... و لتحمدي الله لأنك عشت بعيدا عن هذه البيئة الفاسدة... الله حماك و حفظك، و والدك لم يقصر في تربيتك... لكن يا ليته أبعد حنان أيضا!

شربت ليلى جرعة ماء، و مسحت عبراتها بظاهر كفها... ظهرت على شفتيها شبه ابتسامة فيها الكثير من المرارة... نعم، إنها لتحمد الله على سلامتها من الأوبئة التي تنتشر في الأوساط المترفة، حيث يسيطر التفكير المادي على العقول و لا يبقى للقيم و الأخلاق أي أثر... تنهدت في ألم و لوعة... إنها لرحلة شاقة تلك التي تأخذك إلى ماض مر...

جلست مريم على الكرسي المجاور من جديد، تململت و هي لا تدري كيف تخفف عن ليلى... كان من الضروري أن تعلم كل شيء عن أمها و أختها، عاجلا كان ذاك أم آجلا... على الأقل، فلتبك هنا بعيدا عن العيون... ثم تتأقلم مع وضعها الجديد... و الحقيقة القاسية...

قالت مغيرة الموضوع :
ـ زواج فراس و حنان يبقى من النقاط المحيرة بالنسبة إلي! لطالما اعتبرت نفسي فاهمة لطباع ذاك الولد... لكن قراره هذا أغلق علي بالكامل! كان يعتبرها فتاة مدللة و تافهة، و لم تثر إعجابه في يوم من الأيام... بل كان يلوم أمين على تعلقه بها... فكيف وقع هو تلك الوقعة؟ كل هذا لا يبدو منطقيا... إلا إذا...

سكتت المربية و قد سرحت في أفكارها. كان ليلى قد هدأت و شد انتباهها الموضوع الجديد، فاستعجلتها و هي تقول في لهفة :
ـ إلا إذا ماذا؟

ظلت مريم ساهمة و لم تجب، كأنها تدرس الفكرة التي طرأت على ذهنها في الحال... فجأة تناهى إلى مسامعهما صوت منبه سيارة. وقفت الخالة و هي تسوي وشاحها، حين رأت سيارة العائلة تقترب من مدخل المزرعة. حاولت ليلى مرة أخرى :
ـ خالتي... ما الذي خطر ببالك؟

نظرت إليها مريم في تردد، ثم تمتمت :
ـ لا شيء... لا شيء...

تبعتها عينا ليلى في إصرار و خيبة، و هي لا تدري كيف تستخرج منها الكلمات. التفتت إليها العجوز مبتسمة و قالت :
ـ يبدو أن هناك من جاء لأخذك...

نزلت منال من السيارة و هي تهتف من بعيد :
ـ بسرعة ليلى... جهزي نفسك... سنغادر بعد قليل...

قفزت رانيا من السيارة بدورها و ركضت ضاحكة إلى الشرفة و هي تحمل في يدها كرتها الصغيرة، استقبلتها ليلى بذراعيها و حملتها عاليا و الطفلة تطلق صيحات فرح معبرة عن استمتاعها. أنزلتها ليلى، فجذبتها من ثوبها في رجاء :
ـ مرة أخرى... مرة أخرى...

ـ أنت ثقيلة يا حبيبتي، ذراعاي تؤلمانني!

عبست الفتاة و عقدت ذراعيها أمام صدرها و غمغمت في استياء :
ـ عمي فراس يحملني مرات كثيرة و لا يتعب!

أزعجتها المقارنة، و نكاية في فراس فقط... فقط لا غير، انحنت مجددا و حملت الصغيرة في الهواء!