الجزء الرابع عشر



توقفت السيارة أمام مدخل القصر، فقفزت رانيا كعادتها و صعدت الدرجات راكضة... تبعتها منال وهي تحمل باقة كبيرة من الورود الحمراء البرية التي قطفتها من المزرعة. أما ليلى فنزلت بخطى متثاقلة... كانت لازالت تتحسر على ضياع الفرصة منها لتسمع أكثر من الخالة مريم، و لولا اشتياقها للاتصال بوالدها، للبثت في المزرعة يوما آخر! كانت قد قررت أن تطلب من خالها الاتصال به الليلة، فهو الوحيد الذي يمكنه التواصل معه مباشرة...

دلفت إلى البهو الذي يثير اهتمامها في كل مرة تمر به في غدوها و رواحها... أجالت بصرها من جديد في قسميه المتناقضين، و في عينيها نظرة حائرة. ابتسمت منال و هي تتقدمها و تشير بذراعها في حركة مسرحية :
ـ من هنا عالم هاجر... و هنا عالم إيمان!

نظرت إليها ليلى في استغراب، فتابعت منال شارحة :
ـ هاجر، سيدة القصر الأولى، كانت تحب الطابع الكلاسيكي، و قد كان أثاث القصر كله، منذ عهد زوجها الأول، من النوع التقليدي، بل التاريخي، حيث اعتنت باقتناء القطع النادرة و النفيسة و جعلت المكان يبدو كمتحف! لكن إيمان، زوجة خالك الثانية، كانت ثائرة على ذلك النمط، و تتميز بذوق عصري و عملي... لذلك قامت بتجديد أثاث القصر بالكامل، تقريبا... لتمسح عنه آثار هاجر و تترك لمستها الخاصة... لكن عمي نبيل لم يتركها تذهب في حملتها تلك إلى أبعد مدى، فأنقذ هذا الجزء من البهو، حتى يحافظ على ذكرى زوجته الراحلة... و كما ترين، صار بهو الاستقبال مكونا من نصفين مختلفين تماما... و كل منهما يعكس شخصية إحدى الزوجتين!

ابتسمت ليلى و قد فهمت أخيرا سر الديكور العجيب. سبقتها منال إلى الداخل لتقوم بتنظيف الورود و إزالة أشواكها قبل وضعها في المزهرية... كانت ليلى لا تزال تقف في البهو حين تناهى إليها صوت رانيا و هي تصرخ! تلفتت باحثة عن مصدر الصوت، فلفت انتباهها باب جانبي في الطرف الآخر من البهو، لم تكن قد لاحظته في السابق.

خطت نحو الباب في حذر. كان الباب الخشبي الثقيل نصف مفتوح. دفعته بهدوء و أطلت إلى الداخل لتكتشف الغرفة المجهولة. زكمت أنفها رائحة غريبة جعلتها تتراجع خطوة، بدت كأنها رائحة التعقيم التي تنتشر في المستشفيات... لكن ما رأته، تحت الإضاءة الخافتة للغرفة المنبعثة من الكوات الضيقة في السقف، جعلها تحجم عن الانسحاب... للحظات تسمرت في مكانها و على وجهها علامات الانبهار... كان من الجلي أنها غرفة المكتبة، لكنها مكتبة من النوع العملاق... فقد تراصت الكتب على الرفوف على امتداد الجدران الأربعة التي ترتفع خمسة أمتار أو تزيد... تقدمت إلى وسط القاعة و هي تتأمل اكتشافها العظيم... لم تعد الرائحة تضايقها... لم تكن قد رأت مكتبة منزلية بهذا الحجم من قبل. و لكنها تنسى على الدوام أن هذه ممتلكات عائلة القاسمي! لذلك من الطبيعي أن تكون مختلفة عن كل ما رأته من قبل...

أتاها صوت الصغيرة مجددا و هي تئن و تصرخ. التفتت لتجد رانيا و قد حشرت نصفها الأعلى تحت خزانة معدنية صغيرة في الركن البعيد من القاعة. و بدا أنها لم تعد قادرة على استخراج جسدها من هناك! انحنت ليلى و هي تهتف بها عابسة :
ـ ما الذي تفعلينه أيتها الشقية؟

سحبت الصغيرة من وسطها، فأخرجت رأسها و هي تبتسم في اعتذار و تمسك كرتها في يدها :
ـ الكرة هربت مني و تدحرجت إلى هنا...

ضحكت ليلى و هي تسوي خصلات شعر الطفلة الذي تشعث و فسدت تسريحته. حين رفعت رأسها، وقعت عيناها على صندوق فضي مزخرف يستقر على أحد رفوف الخزانة، خلف واجهة زجاجية. كان الصندوق ذا شكل مستطيل، و الجزء الأعلى منه مقبب، مع مساحة بلورية في الوسط، تسمح برؤية ما بداخله... اقتربت من الواجهة في فضول، و رفعت نفسها على أطراف أصابعها لتنظر إلى داخل الصندوق...

فوجئت بما رأت... كان الجزء السفلي مفروشا بالمخمل الأحمر و قد ظهرت فيه فجوات متوازية على امتداد المساحة، معظمها فارغ... أما الفجوات القليلة الملأى، فقد كانت كل منها تحتوي على خنجر صغير، مقبضه فضي، مزين بقطع حجرية زرقاء!

فاجأها صوت منال و هي تهتف عند مدخل الغرفة :
ـ ما الذي تفعلانه هنا؟!

تراجعت ليلى في حرج و شرحت بسرعة ما حصل. اقتربت منال في خطوات سريعة. كانت ليلى لا تزال واقفة قرب الخزانة و قد بدا عليها الاهتمام بالصندوق الفضي. قالت منال هامسة :
ـ هيا اخرجا بسرعة... عمي نبيل لا يحب أن يدخل أحد إلى هنا... لا شك أن أحد الخدم نسي الباب مفتوحا!

نظرت إليها ليلى في دهشة فواصلت منال و هي تجذبها من ذراعها :
ـ المكتبة تحتوي عددا من الكتب النادرة و القديمة، لذلك فإن بها نظام تهوئة خاص للحفاظ على الورق... و يجب أن تبقى مغلقة طوال الوقت... كما أن الدخول إلى هنا ليس مسموحا به للجميع!

أضافت بعد صمت قصير، لتشبع فضول ليلى :
ـ ذاك الصندوق الفضي، في الخزانة الصغيرة، يحوي مجموعة من الخناجر النفيسة التي اقتنتها السيدة هاجر في إحدى رحلاتها في مزاد علني للممتلكات إمبراطور الصين الراحل!

رفعت ليلى حاجبيها في تعجب، فواصلت منال و هي تلوح بيدها في لامبالاة :
ـ لست أدري إن كان ذلك صحيحا... و لكنه ما يقال حول تلك الخناجر الغريبة!

ابتسمت ليلى و هي تهز كتفيها في استهانة... لم يعد من الممكن التمييز بين الحقيقة و الخرافة في هذا المكان الغريب! تابعت منال شرحها :
ـ هاجر أرادت أن يحصل كل فرد من أفراد العائلة على أحد هذه الخناجر، و ينقش عليه اسمه... ذلك لأن الأسطورة الصينية تقول بأن الخنجر يحمي صاحبه و يجلب له الحظ!

ضحكت ليلى في مرح... هل مازال هناك من يصدق هذه الخرافات! تابعت منال و هي تضحك بدورها :
ـ و لكن من المفارقات العجيبة، أن هاجر نفسها استعملت خنجرها الخاص في انتحارها... و كذلك فعلت أماني و حنان!!

حدقت ليلى فيها في حيرة، و أحست لوهلة بأنها تقرأ قصة رعب من الخيال الأمريكي السخيف... لكن صوت منال شدها إلى الواقع، فيبدو أن للقصة بقية :
ـ الصندوق يحتوي على أحد عشر خنجرا... و الخناجر التي لا تزال فيه، خمسة... أربعة منها أعيدت إليه بعد وفاة صاحباتها... هاجر، إيمان، أماني و حنان... و خنجر واحد لا يلمس بعد...

وقفت ليلى مصعوقة... إذن أدوات الانتحار كلها يحتفظ بها في ذاك الصندوق! تذكرت كلمات سحر حول أداة الجريمة... هل يعقل ذلك!

انتبهت إلى نقطة ما في كلام منال فالتفتت إليها في استغراب :
ـ و لكن، لماذا حصلت أماني على خنجر؟ فهي لم تكن من أفراد عائلة القاسمي! أم أنك تقصدين نجاة؟

هزت منال رأسها مؤكدة :
ـ لا... لا، نجاة لم تحصل على واحد, فهي أصلا لم تكن تهتم بالعائلة و لا بطقوس هاجر الغريبة... و لكنني واثقة من أن أماني حصلت على خنجرها... كان ذلك قبل زواجي بياسين، لذلك لم أتساءل كثيرا حول الموضوع... لكن الأمر غريب فعلا! هل كان ذلك لأن ياسين خطبها؟

أحست ليلى بأن في الأمر سرا ما و بدأت أفكار كثيرة غريبة تتزاحم في رأسها في تلك اللحظة. تبعت منال التي أخذت تصعد الدرج و هي تقول :
ـ تعالي، سأريك خنجري إن شئت... لكن لا تقتربي من الصندوق مجددا... عمي نبيل سينزعج من ذلك...


********


دخلت الجناح خلف منال التي لم تتوقف عن الثرثرة عن الخرافات المستحيلة التي يتناقلها الخدم حول طباع هاجر الغريبة و ما تحتفظ به من قطع أثرية مسحورة و تحف عجيبة... كانت تدخل جناح ياسين و منال للمرة الأولى، بل إنها زيارتها الأولى للطابق الثاني، بعد الجولة السريعة التي قادها فيها العم صابر، كبير خدم القصر، في أول يوم لها هنا...

توجهت منال نحو منضدة الزينة، و فتحت صندوقا خشبيا صغيرا يحتوي بعض قطع الحلي و الإكسسوارات، تناولت بحذر خنجرا صغيرا حادا، ذا نصل معقوف و مدته إلى ليلى و هي تقول :
ـ هذا الخنجر حصلت عليه ليلة زفافي! هدية غريبة أليس كذلك؟

قالت ذلك متضاحكة، ثم أشارت إلى خزانة زجاجية في الجانب الآخر من الجناح و قالت :
ـ ياسين يحتفظ بخنجره هناك، و رانيا أيضا حصلت على واحد عند ولادتها! كل واحد نقش عليه اسم صاحبه... انظري!

أمسكت ليلى السلاح الأبيض بين يديها و هي بالكاد تسيطر على انفعالاتها... فقد أصابها الذعر و هي تتخيل ما استعمل من أجله مثل هذا الخنجر. كانت منال قد أحضرت الخنجر الخاص بياسين و ناولتها إياه هو الآخر و هي تقول :
ـ انظري، الخناجر متشابهة جدا، و لا سبيل إلى التمييز بينها! صنعت بدقة وبراعة كبيرة... لذا اعتمدت هاجر فكرة النقش، حتى لا يقع التباس...

دخلت رانيا إلى الجناح و هي تطارد كرتها كالعادة، تدحرجها على الأرض ثم تركض خلفها لتعيد دحرجتها... توجهت نحوها منال و هتفت في حزم :
ـ رانيا! يجب أن تستحمي و تغيري ملابسك... انظري إلى حالتك الرثة!
أمسكت الصغيرة من ذراعها، و هي تصرخ في احتجاج، و جذبتها في قوة إلى غرفة الاستحمام الخاصة بالجناح...

كانت ليلى لا تزال تقف و هي تمسك الخنجرين، تقلبهما بين كفيها في اهتمام، و تعاين النقوش المزخرفة التي تظهر على طرف المقبض بحروف لاتينية... ثم ما لبثت أن هزت كتفيها في استسلام، بعد أن يئست من إيجاد فرق بينهما... هتفت بمنال، التي كانت تسمع صوتها قادما من الداخل وهي تصارع رانيا المتمردة على الاستحمام :
ـ سأعيد الخناجر إلى مكانها...

أجابتها منال و قد كاد صوتها يغيب أمام صوت تدفق المياه في الداخل :
ـ حسن... خنجر ياسين ضعيه في الرف الثاني من الخزانة...

أودعت ليلى خنجر منال صندوقها الخشبي، ثم توجهت إلى خزانة ياسين في طرف القاعة. فتحتها و وضعت الخنجر كما طلبت منها منال. همت بإغلاقها، لكنها توقفت فجأة حين لفت انتباهها وريقات ملفوفة بعناية بخيط أحمر، تستقر على الرف السفلي. لم تكن هذه الوريقات لتشد انتباهها في الظروف العادية، خاصة أن الخزانة تخص شخصا غريبا عنها، لكن لون الورق و زخرفته جعلاها تتردد. مدت يدها لتمسك باللفافة. انتبهت حواسها دفعة واحدة... إنه نفس الملمس! لم يكن ورق مفكرة حنان المميز ليتوه عنها! كانت مضطربة، و قد أخذت أوصالها في الارتعاش... إنها متأكدة من أنها أوراق من المفكرة، نجت قبل الحرق!

لكن كيف وصلت إلى خزانة ياسين؟ و لماذا يحتفظ بها؟ كان الفضول يسيطر عليها، بل رغبتها الملحة لكشف سر ما حصل... هل تروي هذه الصفحات سر زواج فراس و حنان يا ترى؟ يبدو أنها ذات أهمية خاصة! ترددت أكثر... لا، لا يمكنها أن تأخذ اللفافة من الخزانة دون إذن صاحبها!

استيقظ ضميرها و أخذ يقرعها بشدة. مدت يدها لتعيد اللفافة إلى مكانها و الألم يعتصر قلبها. لكنها هذه المرة توقفت من جديد و قد سمرتها الدهشة... في نفس الرف من الخزانة، كانت هناك قطعة لامعة، كانت تختفي خلف أوراق المفكرة، لمعانها ذكرها بشيء تعرفه جيدا... كانت لفافة الورق لا تزال في يدها اليمنى، فمدت يدها اليسرى لتلتقط الحلية ذات الشكل الغريب... قربتها منها في ذهول و هي تتأمل النتوءات الحادة التي برزت في وسطها... كانت الحلية تتدلى من خيط ذهبي رفيع مميز... لكن شكل الحلية كان غريبا عليها. لم تكن قد رأت مثلها من قبل، و مع ذلك، فقد أحست أنها تعني لها الشيء الكثير...

فجأة، انقطع صوت تدفق المياه، فأدركت أن منال ستخرج عما قريب. أعادت الحلية مكانها بأصابع مرتعشة، و توقفت عند لفافة الورق و قد بدا عليها التردد الشديد، و لكنها أخيرا، دستها في حقيبتها و هي تسكت الصوت المعترض في داخلها. ألم يكف أنها فقدت المفكرة في المرة السابقة؟ ستقرؤها سريعا ثم تعيدها قبل أن ينتبه ياسين أو منال... لكن لا يمكنها أن تضيع الفرصة ثانية... هكذا أقنعت نفسها...

تنحنحت لتسيطر على انفعالها و هتفت :
ـ منال، سأذهب إلى غرفتي... أراك فيما بعد...

أطلت منال برأسها مبتسمة و هي تقول :
ـ حسن... أراك على الغداء...

رسمت ليلى على شفتيها ابتسامة سريعة، و حثت الخطى لتخرج من الجناح قبل أن تلاحظ منال اضطرابها...