الجزء العشرون



جلس الجميع على مائدة العشاء في الوقت المعتاد، و ظل المقعد المقابل لليلى شاغرا. التفتت رانيا التي تجلس على المقعد المجاور و هتفت في حيرة :
ـ أين عمي فراس؟

لم يكن فراس قد عاد إلى القصر بعد، مع أنه كان دوما من أكثر المحافظين على موعد العشاء المحدد... دقيق جدا في مواعيده. و مع أن السيد نبيل ينزعج في العادة كلما تأخر أحد أفراد العائلة عن الموعد، إلا أنه هذه المرة كان يتناول حساءه في هدوء و لم يعلق بكلمة... كأنه يدرك جيدا سبب غياب فراس و يتفهمه... تكلم أمين مبديا استغرابه :
ـ لم يكن طبيعيا اليوم! حين جاء إلى المستشفى هذا الصباح بدا مرتبكا... كأنه أضاع شيئا ما، ثم غادر بسرعة... أشك أن لديه مشاكل في العيادة...

أكملت ليلى شطيرتها في هدوء و قد سرحت نظراتها إلى الفراغ... يبدو أنه لم يكن طبيعيا مع الجميع... أمره غريب ذاك الـ فراس! تمر لحظات من الهدوء تراه فيها طبيعيا، و لحظات أخرى يدهشها فيها بنظراته القاسية و تصرفاته المحيرة... هل تكون تلك أعراض الاضطراب النفسي الذي لازمه منذ وفاة حنان؟ تنهدت بصوت مسموع و هي تضع المزيد من الحساء في صحنها...


كانت الليلة حارة نوعا ما. لم تستطع النوم و هي تفكر في والدها و في قدوم عمر بعد يومين فقط... لم تعد ألغاز القصر تشغل تفكيرها مثل السابق... لديها ما يكفيها من الهموم الشخصية! تقلبت في سريرها دون جدوى... و بعد لأي، ارتدت ملابسها ثانية و قررت النزول إلى الحديقة...

كان القصر مظلما تقريبا و قد أوى أغلب سكانه إلى النوم. سارت في هدوء في الممر المضاء بمصابيح ليلية خفيفة الإنارة ثم نزلت إلى الأسفل، مرورا بالبهو... كانت الحديقة هادئة، لا يسمع فيها سوى صوت الصراصير الليلية التي لا تمل الغناء، و حفيف أوراق الشجر التي يحركها النسيم بين الفينة و الأخرى.

اتخذت مجلسها على الأرجوحة الكبيرة في الفناء الأمامي، استرخت و أخذت تهزها في حركة بطيئة إلى الأمام و إلى الخلف، مثل مهد الطفولة... لشد ما تحتاج الآن إلى من يهدهدها و يمسح على شعرها حتى يغلبها النعاس... أمها لم تكن الشخص المناسب أبدا لمثل هذه الحركات... و أبوها يحتاج إلى من يرعاه في هذه الفترة. و هي؟ من يرعاها و يخفف عنها و يواسيها في محنتها؟ سالت العبرات على وجنتيها في صمت... كانت قررت أن لا تبكي أمام والدها حتى لا تشغل باله عليها... و لا تريد أن تبكي أمام منال أو أمين حتى لا يعتقدا بضعفها و قلة حيلتها... لكن على الأقل يمكنها أن تستسلم لدموعها حين تخلو إلى نفسها... حيث لا أحد يشهد على ألمها سوى النجوم و نسيم الليل الذي يداعب وجهها...


فجأة انتبهت إلى ظل شخص يقف غير بعيد عنها. لكن الإنارة كانت مسلطة على الأرجوحة في حين خيم الظلام على بقية أنحاء الحديقة، إلا من أعمدة إضاءة قليلة متفرقة... لم تتمكن من تمييز ملامح الشخص الواقف أمامها كأنه تمثال لا يبدي حراكا. لفت السترة على جسمها في إحكام و هتفت في شك :
ـ من هناك؟

بعد صمت قصير، جاءها صوت مألوف...
ـ إنه أنا...

قال ذلك و هو يتقدم إلى دائرة الضوء حتى تتمكن من رؤيته...

كان فراس قد عاد إلى القصر منذ دقائق قليلة و قد تجاوزت الساعة منتصف الليل... كان قد خرج في نزهة ليلية بعد يومه المتعب، ليروح عن نفسه، و يتفادى لقاء والده مجددا... لم يتصور أن الموضوع قد يشغل باله إلى تلك الدرجة. فقد كان تركيزه قليلا طوال النهار و قد أضناه التفكير المتواصل في كل ما يحصل معه في الأيام القليلة الماضية...

دخل من البوابة الخلفية، و تسلل في هدوء إلى المدخل الجانبي... لكن استرعى انتباهه ضوء الفناء الأمامي الذي كان مفتوحا على غير العادة، خاصة في تلك الساعة المتأخرة... اقترب في حذر ليتثبت من الأمر... و هناك رآها، كما لم يرها من قبل... كانت مستلقية على الأرجوحة العريضة، مطمئنة إلى وحدتها... تضم ذراعيها حول جسدها رغم حرارة الطقس... كأنها... كأنها تحمي نفسها، تغلق أبواب صدرها على آلامها و تخفيها داخلها في حرص... قفز إلى ذاكرته مشهد مشاجرتها مع رجاء منذ يومين... نفس الحركة، التي أشعرته بضعفها و خوفها... بحاجتها إلى مصدر أمان في حياتها... لكن والدها لم يعد قادرا على إشعارها بالأمان بعد الآن... فمن يمكنه ذلك؟ هل هو صديقها الذي أهداها باقة الورود؟ انقبض صدره لهذه الفكرة... لماذا انزعج اليوم حين رآهما في الممر؟ بل لماذا تضايقه فكرة وجود شخص ما في حياتها؟ أرقه هذا السؤال طوال اليوم، و هو لا يفهم لتصرفاته معنى يريحه... و يرضيه!

لبث مسمرا في مكانه يتأملها في صمت، يحاول أن يقرأ أفكارها... في من تراها تفكر الآن؟ ابتسم في سخرية و هو يقول في نفسه : ليس فيك على أية حال! فجأة حركت رأسها، فلمح آثار الدموع تلمع على وجنتيها... أحس بألم في صدره. إنها تبكي مجددا، و هو لا يحتمل أن يراها تبكي... تذكره بدموع حنان... لا... لا، دموعها مختلفة... دموع ألم و خوف... أما دموع حنان...

انقطع حبل أفكاره حين رفعت رأسها في اتجاهه... و رأته. لم يستطع أن يختفي بعد أن افتضح أمره. ما الذي جاء به إلى هنا، و كيف نسي نفسه و هو يطالع الفتاة بكل وقاحة؟! لا يدري كم مضى عليه من الوقت في وقفته تلك... لم يعد بإمكانه الهروب. تقدم بعد تردد قصير، و رأى الدهشة في عينيها حين تعرفت عليه...

اقترب حتى لم يعد يفصلهما سوى مترين أو ثلاثة و هو يخفي كفيه في جيبي سرواله... أطرق و هو يقول بصوت هادئ :
ـ كيف حالك ليلى؟ آسف لأنني أخفتك...

بدت متفاجئة من هدوئه بعد انفعاله الظاهر هذا الصباح. مسحت دموعها بكمها و حاولت أن ترسم ابتسامة على وجهها و هي تهمس بصوت شبه مسموع :
ـ لا بأس... أنا بخير...

رفع رأسه ببطء لينظر إليها، و ابتسم بدوره... تلك الابتسامة النادرة التي تحوله إلى شخص آخر مختلف تماما! قال بصوت دافئ و هامس :
ـ يحزنني ما يحصل ما والدك حقا... و أتمنى لو كان بيدي أن أقدم شيئا... لكن ما أريده منك هو تطمئني إلى وجود عائلة إلى جانبك، يهمها أمرك و تحرص على حمايتك... مهما حصل في المستقبل، أنت ستبقين فردا منا... تأكدي من ذلك...

نظرت إليه في ذهول و هي لا تكاد تصدق أذنيها... فراس بنفسه يرحب بها بينهم؟! هل صفا قلبه تجاهها أخيرا؟ و نظراته هذا الصباح؟ هل يكون قد استوعب أخيرا أنها شخص آخر غير حنان؟ همهمت في امتنان :
ـ شكرا لك... فراس...

خيم الصمت عليهما قبل أن يحس فراس بحرج الموقف بالنسبة إليها. قال أخيرا :
ـ تأخر الوقت... قد يكون من الأفضل لو تعودين إلى غرفتك...

وقفت على الفور، كأنها تنتظر إشارة منه، عبرت الفناء بخطوات سريعة... ثم توقفت عند المدخل و التفتت... كانت ابتسامتها واضحة و هي تقول :
ـ تصبح على خير...

هز رأسه و هو يهمس بدوره :
ـ تصبحين على خير...

ظل واقفا مكانه لبضع دقائق بعد اختفائها... لا يدري لماذا فعل ذلك... لكنه لم يستطع أن يقف متفرجا على ضعفها... أراد أن يشعرها بالأمان و لو للحظات... و تصرفه ذاك خلف في صدره ارتياحا غريبا، لم يستشعره منذ زمن...


********


استيقظت كعادتها مبكرة، لتشرف على إعداد وجبة الغداء الخاصة التي يحضرها العم هاشم لوالدها... تذكرت موقفها مع فراس ليلة البارحة و هي تسوي وشاحها أمام المرآة، فارتسمت على شفتيها ابتسامة... ما إن عادت إلى غرفتها و وضعت رأسها على الوسادة، حتى راحت في سبات عميق... نامت مرتاحة البال، كأن الأمر الذي كان يشغلها قد حل بعصا سحرية! عجيب أنت يا فراس...

قبل أن تغادر، تذكرت شيئا... فتحت الصندوق الخشبي الصغير و تناولت القلادة... القلادة المكتملة بشقيها المتلاصقين. تأملتها للحظات، ثم وضعتها حول عنقها، و خرجت على الفور لتلحق بخالها الذي يرافقها اليوم إلى المستشفى...


وضعت سلة الطعام على الطاولة و خرجت من غرفة المريض لتغير الماء في آنية الزهور... حين عادت، كان والدها و خالها منسجمين في حديث هامس... ما إن دخلت حتى توقفا و التفتا إليها في نفس الوقت. بدا لها الأمر غريبا، كأنهما يخفيان عنها أمرا ما... ربما يتحدثان عن الشراكة التي بينهما و يظنان أنها لا تعلم بعد! ضحكت في سرها... أمركما مكشوف عندي، لو تدريان!

بعد قليل، دخل فراس رفقة الطبيب المشرف على علاج والدها... يبدو أنهما على معرفة سابقة... تشاغلت بتصفيف الورود في الآنية، ريثما قام الطبيب بالفحص الروتيني... أما فراس فقد كان مطرقا طوال الوقت، يتجنب نظرات والده الذي لم يتوقع أن يجده هنا...

حين انصرف الطبيب، التفت نجيب إلى ليلى و هو يقول :
ـ تعالي ليلى... اقتربي...

تركت ليلى الورود التي لم تنته من تنسيقها بعد، و هبت إليه على الفور، تناولت كفه بين كفيها الصغيرتين و قالت باسمة :
ـ ها أنا عندك... أمرك!

نظر إليها والدها مطولا، ثم التفت إلى فراس الذي كان يتابع المشهد في بعض التوتر... ابتسم مجددا و هو يقول محدثا ليلى :
ـ صغيرتي... هناك موضوع هام، أود أن أتحدث معك فيه...

امتقع وجه فراس و كأنه عرف مسبقا أي موضوع هو... تنحنح و هو يقول مقاطعا :
ـ أستأذن أنا إذن... و أترككم على راحتكم...

استوقفه والده قائلا :
ـ انتظر قليلا، سننصرف معا بعد قليل...

نظر إليه فراس في استعطاف و قال بصوت خفيض :
ـ أنا آسف... يجب أن أذهب الآن...

ابتسم نجيب و هو يهز رأسه متفهما و قال :
ـ نعم يا بني... انطلق إلى عملك... لا بأس يا نبيل، دعني أهتم بالأمر...

ثم انسحب فراس يتبعه نبيل من الغرفة. في حين ظلت ليلى في حيرة من أمرها. كانت تعتقد أنها على علم مسبق بالموضوع الهام، لكنها لم تفهم سر توتر فراس المفاجئ... التفت إليها والدها مجددا و على شفتيه ابتسامة غامضة... فجأة، انتبه إلى القلادة التي تزين صدرها. مد أصابعه إليها في عدم تصديق، قلبها ليتأكد من أنها القلادة المكتملة، ثم فتحها ليطالع الصورة التي بداخلها و الأرقام المنقوشة. نظر إلى عينيها اللتين اغرورقتا بالدموع، و قال :
ـ مضى وقت طويل... مذ رأيتها مكتملة آخر مرة! سبعة عشر عاما أو تزيد...

نزعت القلادة عن عنقها و مدتها إليه. ضغطت على كفه، و هي تقاوم رغبتها في البكاء... قالت بصوت خفيض :
ـ المهم أننا استرجعناها الآن...

هز نجيب رأسه مجددا و هو لا يزال يتأمل القلادة و في عينيه نظرة حزينة. ثم ما لبث أن تنهد بعمق و رفع رأسه قائلا :
ـ أنتظر اليوم الذي ينقش فيه تاريخ زواج ابنة الوحيدة داخل القلادة...

احمرت وجنتاها و غضت بصرها في حياء و قد تسارعت دقات قلبها. هل الفرصة مناسبة لتحدثه عن عمر؟ واصل والدها قائلا :
ـ نعم يا ابنتي... لا يمكنني أن أرحل عن هذا العالم و أنا غير مطمئن إلى مستقبلك، و إلى وجود رجل إلى جانبك، يحميك و يضعك في عينيه... رجل يستحقك و يناسبك...

ربتت على كفه مجددا و هي تهمس :
ـ أطال الله عمرك... حتى ترى أحفادك... الله كريم...

ابتسم ابتسامة فاترة و هو يتذكر كلمات الطبيب التي يخفيها عنها، ثم قال :
ـ نعم... أسأل الله أن أراهم و أهتم بهم و أدللهم كما دللتك... رحمة الله واسعة...

ابتسمت في ارتياح... والدها مستعد للحديث في هذا الأمر، لذا يمكنها أن تدخل في الموضوع مباشرة و تمهد لزيارة عمر القريبة... أخذت نفسا عميقا و همت بالكلام... لكن والدها قاطعها فجأة و هو يقول بصوت جاد :
ـ ليلى... ما رأيك بفراس؟

أطبقت شفتيها دون أن تنطق و نظرت إليه في حيرة... فراس؟ ما علاقة فراس بموضوعنا؟
حين رأى أنها لم تعلق، واصل نجيب قائلا :
ـ خالك نبيل طلبك مني، لابنه فراس...

ثم نظر إليها مبتسما و أضاف :
ـ و أنا وافقت!

تسمرت في مكانها من الدهشة و الحيرة و الفزع و الارتياع... كل تلك المشاعر تجسدت في نظراتها الجامدة و هي تطالع والدها... ما الذي يقال هنا؟ إنها بالتأكيد تحلم! والدها يريد منها الزواج من فراس؟!

تكلمت أخيرا و هي لم تستفق بعد كليا من صدمتها :
ـ و لكن... فراس...

أجابها والدها على الفور :
ـ نعم، أعلم أن فراس كان زوج حنان... و أنه عانى كثيرا بعد وفاتها و أصيب بصدمة عنيفة، لا تزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا... لكن هذا لا يمنع أنه إنسان متميز، و فيه من الخصال التي أتمناها في زوج ابنتي الكثير...

لم تعرف هل من حقها أن تحدثه بالشكوك التي أثارتها في نفسها مذكرات حنان، و عن نقاط الاستفهام الكثيرة التي تدور حوله... لكنها لا تملك دليلا، و ليس من الهين أن توجه إليه أصابع الاتهام بدون مبرر منطقي قوي... ظلت صامتة لبضع لحظات، تبحث في رأسها عن ترتيب مناسب للكلام.

واصل نجيب قائلا :
ـ هل تعلمين... طوال السنوات الماضية، بعد طلاقي من نجاة، ظللنا على اتصال... كنت أحاول الاطمئنان على حنان بين الفترة و الأخرى، و أحيانا أسافر لألتقي نبيل و أسأله عن أحوالها... لكنني لم أكن قريبا بما فيه الكفاية... تركت نجاة تفعل ما تريده بابنتها... كان بيننا اتفاق، أن لا يتدخل أحدنا في حياة الآخر، و أن يربي كل منا "ابنته" على طريقته... كنت أعلم أن نجاة ليست أما صالحة... لكنني لم أستطع التدخل... أعترف أنني أخطأت حين وافقتها على كل هذه المهزلة و تخليت عن ابنتي ببساطة... لكن لم يكن لدي خيار آخر...

كانت علامات الأسى بادية على وجهه و هو يشد على ملاءة السرير بقبضة متشنجة. سكت نجيب، فاحترمت صمته و أفكار كثيرة تعج في رأسها... التمعت الدموع في عيني نجيب و هو يستطرد :
ـ لكن، حين أخبرتني بأن فراس تقدم لحنان... أرسلت أشخاصا ثقات ليسألوا عنه، عن شخصيته... و عن أخلاقه... عن كل شيء يخصه... نجاة أيضا حدثتني عن مواقفه معها... و عن أشياء كثيرة، جعلته يكبر في عيني... و صدقيني، اقتنعت أن أفضل ما حصل مع حنان في حياتها هو زواجها من فراس!

نظرت ليلى إلى والدها في عدم تصديق... أنت لا تعلم بما كتبت حنان في مذكراتها! لن تصدق مقدار التعاسة التي عاشتها بعد زواجها منه!

تنهد نجيب و هو يقول في هدوء :
ـ أنت و فراس... كلاكما يحتاج إلى الآخر... فراس لا يزال يعاني من عقدة نفسية منذ وفاة حنان... و أنت قادرة على إخراجه من أزمته!

عقدت ليلى حاجبيها في دهشة :
ـ أنا؟!

هز رأسه مؤكدا و هو يردف :
ـ نعم أنت... أنت قادرة على إخراجه من سجن الذكريات التي لا يزال يعيش داخلها... أنت بإمكانك الأخذ بيده حتى ينسى المأساة التي شهدها و يغير نظرته إلى الحياة... إنه ليحزنني حقا أن أراه على هذه الحال!

أطرقت ليلى في صمت... و مشاعر كثيرة تتنازعها... ما الذي عليها فعله؟