الحلقة الأخيرة



أبعدت الهاتف عن أذنها حين دوت صرخة ثائرة من سحر و هي ترد على اتصالها :
ـ ليلـــــــى... أين اختفيت كل هذا الوقت!! قلقت عليك جـــــــــــــدا!!!

ابتسمت ليلى في حزن و هي تقول مهدئة :
ـ تلك قصة طويلة جدا... أمهليني حتى أخبرك بكل التفاصيل...

قاطعتها سحر على الفور و هي تهتف :
ـ أخبريني أولا... ماهي قصة زواجك؟!!

ـ زواجي؟ عمّ تتحدثين؟!!

ـ نعم زواجك من ابن خالك... و الدكتور عمر يرسل إليك تهانيه!! لم أصدق أذني حين قال ذلك حين رأيته بعد رجوعه بأيام قليلة... حسبته ذهب خاطبا فوجد نفسه معزيا، و إذا به يعود مهنئا! و الأدهى هو أنه ظن أنني قد أكون على علم بالمستجدات، لكنني صدمت للغاية...أخبريني ما القصة؟

سكتت ليلى و لم تنطق بكلمة... هكذا إذن يا فراس...
لبثت مطرقة في أسى، لقد عاشت الحلم لأسابيع قليلة... حلم كل فتاة في سنها، أن تلتقي فراس أحلامها و يطير بها على ظهر جواد أبيض... لكنها تجد نفسها مضطرة إلى التخلي عن الحلم... ستوليه ظهرها قبل أن تهنأ به. بات من المحتم عليها أن تنسى عمر و تستعد لمواجهة صعوبات حياتها الجديدة. لا يمكنه أن تطلب منه ترك حياته المستقرة الهادئة و خوض الأمواج المتلاطمة من أجلها... صحيح أنها لا تشك في شهامته و أخلاقه، لكن ما يجمعهما لا يعدو أن يكون إعجابا بين طالبة و أستاذها... و ذلك لا يجبره على التضحية بكل شيء لأن ظروفها لم تعد ملائمة!

صرخت فيها سحر مجددا :
ـ أخبريني بكل شيء... و بالتفصيل الممل!!

قصت عليها ليلى الأحداث الأخيرة المفجعة و ما صاحبها من ألم و قلق و معاناة... و ما إن فرغت من روايتها و أطلقت تنهيدة عميقة، حتى هتفت سحر في تأثر :
ـ يا الله! كل هذا يحصل في عائلة خالك! لا حول و لا قوة إلا بالله...

رسمت ليلى على شفتيها ابتسامة ساخرة و هي تقول :
ـ أغرب من الأشرطة العالمية!

صمتت سحر لبرهة قبل أن تستطرد مغيرة الموضوع، كأنها تذكرها بما تحاول تناسيه :
ـ الدكتور عمر تغير كثيرا في الفترة الأخيرة يا ليلى... أصبح أكثر تحفظا مع الطالبات و لم يعد منطلقا و مرحا كما كان... بدا لي متأثرا جدا... رغم أنه يحاول استعادة نسق حياته و الانغماس في العمل... و يحز في نفسي أنه خدع بتلك الطريقة... يجب أن يعلم بكل شيء الآن...

تمتمت ليلى و هي تحس بمرارة في حلقها :
ـ لن يغير ذلك من الأمر شيئا... الظروف لم تعد نفسها... ربما من الأفضل أن ينسى... أنا متأكدة أنه سينسى مع مرور الوقت...

هتفت سحر في اعتراض :
ـ لكن لماذا؟ مازال بالإمكان إصلاح كل شيء!

بلعت ريقها في صعوبة و هي ترد بصوت خافت :
ـ لم يعد من الممكن أن أعود إلى فرنسا يا سحر... أظنني سأستقر هنا... في بلدي...

ظهرت آثار الصدمة في صوت سحر و هي تقول :
ـ كيف تتركين عالمك بهذه السهولة؟ و دراستك؟ و تتركينني وحيدة؟ لقد اشتقت إليك كثيرا...

تنهدت ليلى و هي تداري دموعها التي توشك على التسلل و قالت مهدئة :
ـ لا تقلقي... سنظل على اتصال باستمرار، و سأزورك كلما سنحت الفرصة... كما أنني سجلت في الجامعة هنا، و سأهتم بدراستي جيدا...

ـ لكن لماذا؟ ليس هناك ما يربطك بتلك البلاد!

ردت ليلى في حزم :
ـ بلى يا سحر... بلى... لدي الكثير لأفعله هنا...


************



نزلت من السيارة و ضمت سترتها الخفيفة إلى جسدها بأوصال مرتجفة. ألقت نظرة على البوابة العملاقة الموصدة في توجس و خطت في اتجاهها...

ـ هل تريدين أن أعود لأخذك؟

التفتت إلى مأمون الذي يطل برأسه من نافذة السيارة و قالت بسرعة :
ـ لا تزعج نفسك... سأعود بسيارتي التي تركتها هنا...

ثم ابتسمت و هي تقول في مرح محاولة السيطرة على اضطرابها :
ـ اهتم جيدا بالأطفال في غيابي... هشام أخبرني إن لم يعطك خالك الحلوى التي وعدك بها!

أطل هشام بدوره و هو يهتف :
ـ حاضر خالة ليلى...

ثم ألقى على مأمون نظرة انتصار... فما دامت ليلى في صفه فهو سيحصل على الحلوى بالتأكيد. و سرعان ما ابتعدت السيارة و الطفلان يلوحان لها عبر الزجاج الخلفي... قبل أن تختفي في أحد الشوارع الجانبية. تنهدت ليلى و هي تتقدم في اتجاه مبنى القصر. أجالت بصرها في المكان كأنها تدخله للمرة الأولى. ابتسمت في حزن و هي تتذكر المرة الأولى التي قدمت فيها إلى هنا... كان ذلك منذ شهور أربعة تقريبا! كم كانت قاسية و حامية. هل كانت تتصور ما ينتظرها حين عبرت البوابة للمرة الأولى؟ و لا مثقال ذرة! وصلت إلى الشرفة دون أن يعترضها أحد. بدا كأن القصر مهجور... لم تر الحارس و لا أحدا من الخدم... أين ذهب الجميع؟

صعدت الدرجات المؤدية إلى البهو في بطء و حذر، ثم دفعت باب المدخل في هدوء... لمحت ظل امرأة متشحة بالسواد، تضع على رأسها حجابا و تهتم بتنظيف الأثاث في حركة بطيئة تنم عن الملل و الفتور. تأملتها في استغراب و فضول ثم تنحنحت لتلفت انتباهها. استدارت المرأة في ذعر، و حدقت في ليلى للحظات و على وجهها علامات عدم الاستيعاب، ثم هتفت في فرح حقيقي و هي تهب نحوها مرحبة :
ـ ليلى حبيبتي... أخيرا عدت!

عانقتها ليلى في دفء و مودة و التمعت الدموع في عينيها و هي ترى آثار الهموم على وجهها :
ـ منال كيف حالك... و كيف حال رانيا؟

مسحت منال دموعها بظاهر كفها و هي تهز رأسها و تبتسم :
ـ الحمد لله... الحمد لله على كل حال...

عادت ليلى لتعانقها بقوة أكبر و هي تهمس في أذنها :
ـ مبارك...

ضمتها منال بدورها و هي تجيب في صوت مختنق :
ـ كان يجب أن أفعلها منذ زمن... الحمد لله الذي هدانا إلى هذا... و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله...

ابتعدت ليلى عنها قليلا و نظرت إلى الخرقة التي بين يديها و قالت في تساؤل :
ـ أين الجميع؟ أين الخدم و الحارس و السائق؟ لماذا تنظفين بنفسك؟

تنهدت و هي تدعوها إلى الجلوس و قالت في مرارة :
ـ لقد تغير الحال يا عزيزتي... صرفنا الخدم و الحشم... و عن قريب سنضطر إلى مغادرة هذا المكان أيضا و نبحث عن شقة صغيرة تناسب الوضع الجديد...

حدقت فيها ليلى في دهشة، فتابعت منال موضحة :
ـ ستتم مصادرة جميع ممتلكات عمي نبيل... لتسديد الغرامة المالية الضخمة التي حكمت بها المحكمة... تم طلب الاستئناف، لكن الأمل ضئيل... إنها مسألة وقت فحسب قبل أن تهجم علينا القوى العامة و تطالبنا بإخلاء القصر و المزرعة... فضلا عن تسليم الشركة... حتى تعرض كلها في مزاد علني!

قبل أن تعلق ليلى، فتح الباب المطبخ و ظهرت الخالة مريم و هي تردي منديل الطبخ... و ما إن وقعت عيناها على ليلى حتى اتسعت عيناها دهشة و اندفعت نحوها مرحبة هي الأخرى... و بعد العناق و تبادل عبارات المواساة، كانت النساء الثلاثة يجلسن في البهو و قد خيم عليهن صمت ثقيل... لم يخف على ليلى جو التوتر السائد بين منال و المربية... ربما كان المصاب واحدا، لكن ياسين وشى بوالده و اتهمه في العلن، و لا شك أن الخلافات بين الولد و أبيه ستطول زوجة الولد و بقية أفراد العائلة...

تكلمت ليلى أخيرا لتسأل في حذر :
ـ كيف حال أمين... و فراس؟

ابتسمت منال في حزن و هي تقول و في عينيها نظرة ساهمة :
ـ رجال... رجال يعتمد عليهم حقا... أمين في العمل. قرر أن يعمل بالتوازي مع دراسته... و لعل ما حصل سيجعله يجتهد أكثر كي يحصل على شهادته هذه السنة. لم يعد هناك مجال للتكاسل و الدلال...

نظرت إليها دهشة في مزيج من الدهشة و الإعجاب :
ـ أمين يعمل؟!

الفكرة التي أخذتها عنه هي أنه شاب مدلل و محاط بجميع أسباب الرفاهية. لا يفكر. لا يعمل. و يحصل على كل ما يريد بأيسر السبل. و لم تكن تتوقع أنه سيتغير و يقف على قدميه بمثل هذه السرعة. بل لعلها كانت قلقة عليه أكثر من بقية أفراد الأسرة... فمنال امرأة مكافحة، من أصل ريفي. اجتهدت حتى تنجح في عملها و تصل إلى ما وصلت إليه قبل زواجها من ياسين... و فراس فتح عيادته الشخصية و يملك مورد رزق، لذلك لم تكن لتقلق على أحدهما. أما أمين الطفل الكبير، فإنها كانت تراه الأكثر قابلية للانهيار في ظروف مماثلة.

واصلت منال مؤكدة و هي تبتسم في مرح يتنافى مع الحزن الذي كان يكسو وجهها منذ لحظات :
ـ حصل على وظيفة في مكتب تسويق... و لا أظنه يجد صعوبة في البيع و الشراء و هو الذي تعود على اللقاءات الاجتماعية و يجيد فن التودد و الإقناع! كلها شهور قليلة قبل أن يحصل على شهادة الهندسة و يشتغل في المنصب الذي يناسب طموحاته...

هزت ليلى رأسها و هي تبتسم بدورها. كانت سعيدة للغاية من أجله...

في تلك اللحظة، فتح باب المدخل، و ظهر فراس و هو يحمل بعض المشتريات. التفت إلى الخالة مريم و بدا أنه لم يلاحظ وجود ليلى، و قال و هو يهم بالتوجه إلى المطبخ :
ـ سأضع هذه الحاجيات في المطبخ... هل الغداء جاهز؟

لكنه توقف فجأة و عاد ليدقق النظر في الجالسات في البهو، بعد أن التقط دماغه صورة غير مألوفة... أو لعلها لم تعد مألوفة بعد كل الأحداث الرهيبة التي توالت بعد لقائهما الأخير. حدق فيها في دهشة و كادت الأكياس تقع من بين يديه، لولا أن منال وقفت على الفور لتأخذها عنه. وقفت ليلى بدورها و اقتربت منه في هدوء و على شفتيها ابتسامة خفيفة :
ـ كيف حالك فراس؟

تمهل بعض ثوان قبل أن يرد بصوت هادئ خال من التعابير :
ـ الحمد لله...

لم تكن تشك في أن الشهور الماضية التي تلت وفاة والدها تركت آثارا في عيون الجميع. لكن الانكسار الذي رأته في عيني فراس في تلك اللحظة جعلها تدرك أنها كانت مخطئة في تقديرها... إنها تدرك الآن أن فراس كان أكثر المتأثرين بالأحداث الأخيرة. فقد وجد نفسه في وضع يحتم عليه تحمل مسؤولية العائلة كاملة... لم يكن بإمكانه التهاون في متابعة قضية والده و الاتصال المستمر بالمحامين، فهو يبقى والده رغم كل شيء... و كان في نفس الوقت يشرف على علاج أخيه الأكبر مع مجموعة من أصدقائه المتخصصين، لتجاوز الصدمة بأخف الأضرار. كما أن منال و ابنتها و الخالة مريم و أمين... كلهم يعقدون الأمل عليه، لأنه رجل البيت الآن! بدا كأن الوقت و الجهد الذين يقدمهما لعائلته بكل سخاء يقتطعان الشيء الكثير من صحته... فظهرت علامات الذبول في ثنايا وجهه، و ازداد جسمه نحافة بشكل ملحوظ في أشهر معدودة...

طالعته ليلى في أسف و هي تقاوم الدموع التي تجمعت في عينيها. إنه لا يزال صامدا رغم كل شيء، و يتقبل قدره برحابة صدر يحسد عليها. رجل يا فراس... رجل أنت! تكلم أخيرا ليقول في شيء من المرارة :
ـ أرجو أن حياتك تسير بحال أفضل مما هي عليه هنا...

أطرقت برأسها و قالت في ضيق :
ـ أنت تعلم أنني لا يمكن أن أشمت في خالي و عائلته مهما حصل... حتى و إن كنت أعلم أنه كان يطمع في ثروة والدي! إنما جئت لأزوركم و أطمئن إلى حالكم... فإن كان وجودي غير مرغوب فيه، فإنني سأغادر على الفور...

استوقفها بسرعة و هو يحاول تدارك موقفه، و قال في ارتباك :
ـ ليس ذلك ما قصدته... أنت فرد من العائلة، و ستظلين كذلك... لكن ما حصل لم يترك لي ذرة تركيز... الظروف تغيرت يا ليلى, تغيرت كثيرا...

ابتسمت و هي ترفع عينيها و تقول في دفء :
ـ أنتم عائلتي التي لن أتخلى عنها بعد إذ وجدتها... اعتبرني أختك الصغيرة، و ستجدني دائما إلى جانبك...


***********



أوقفت السيارة في حدة و قفزت منها على عجل... لبثت تفكر طوال رحلة العودة إلى الضاحية الجنوبية، و وجدت نفسها في غاية الحماس للفكرة الجديدة التي راودتها. لم تستطع الانتظار أكثر قبل البدء في تنفيذ الخطوات التي قررتها... دخلت إلى المنزل و هي تلهث من فرط الانفعال و الركض. حين دلفت إلى غرفة الجلوس ألفت هالة و طفليها جالسين أمام التلفاز، تلفتت حولها كأنها تبحث عن شيء مفقود ثم هتفت :
ـ أين مأمون؟

فتح باب الحمام و خرج مأمون على الفور ،بعد أن سمع هتاف ليلى و وقع خطواتها المستعجلة، و هو لا يزال يمسح يديه في المنشفة و اقترب منها في قلق :
ـ أنا هنا... ما الأمر؟

ألقت حقيبتها الصغيرة على الأريكة و جلست و هي تأخذ نفسا عميقا، ثم قالت و نظراتها تشع حماسا و تفاؤلا :
ـ أين وصلت في بحثك عن عمل؟

بدا عليه الارتباك و هو يجيب :
ـ أجريت بعض مقابلات... هناك بعض العروض المغرية... لكنني لم أحسم أمري بعد...

انحنت إلى الأمام و هي تقول و على شفتيها ابتسامة واثقة :
ـ لدي عرض أكثر إغراءا من كل العروض الموجودة في السوق!

حدق فيها في دهشة و تساؤل فواصلت موضحة :
ـ تعلم أن شركة خالي و جميع ممتلكاته ستعرض قريبا للبيع في مزاد علني... أريدك أن تلتقي بالمحامين و المشرفين القانونيين عن عملية البيع، و تحاول بأي ثمن أن تحصل على الصفقة!

التمعت في عينيه نظرة انتصار و هو يقول مؤيدا :
ـ لا شك أنك ستحصلين عليها بثمن زهيد لا يقارن بقيمتها الحقيقية! و أشك في وجود الكثيرين ممن يهتمون بالشراء و يملكون السيولة الكافية للدفع الفوري... إنها صفقة ممتازة بالفعل! كما أنه أصبح من الصعب في أيامنا إيجاد قصر في مثل فخامة قصر آل القاسمي و جمال موقعه...

ابتسمت ليلى في عتاب و هي تقول :
ـ لا يا مأمون... أنا لست في حاجة إلى القصر لأسكن فيه... لم أتعود حياة القصور و لا أريد أن أتعودها... لكنني أريد لأهله أن يظلوا فيه... يكفيهم ما رأوه من المصائب، و لا أريد لهم أن يتشردوا بعد عيشة العز و الرفاهية...

أطرق مأمون في خجل من نفسه... و إكبارا لموقفها الكريم، لكنه ما لبث أن قال في تساؤل :
ـ لكن هذه المهمة ستشغلني لأسابيع معدودة... و يمكنني الاهتمام بها في نفس الوقت مع عملي الجديد...

لوحت ليلى بسبابتها نافية و هي تبتسم في سرور :
ـ ليست هذه إلا مرحلة الاستعداد للعمل الحقيقي... يا حضرة المدير!

عقد حاجبيه في عدم استيعاب، فأردفت موضحة :
ـ الشركة التي سنشتريها، ليس هناك من هو في مثل كفاءتك و خبرتك ممن يمكنني أن أثق فيهم لتولي إدارتها... و أنا كما تعلم، يجب أن أهتم بتعليمي و شهادة الدكتوراه... لذلك ستكون لك السلطة الكاملة على الشركة...

عقدت الدهشة لسان مأمون الذي لبث يحدق في الفراغ لوهلة و هو يحبس بصعوبة دمعة تأثر استقرت عند طرف عينه... أما هالة التي كانت تستمع إلى حديثهما في صمت لم تتمالك نفسها أن أطلقت زغرودة تردد صداها في البناية. و لم يضيع هشام و فرح الفرصة، فأخذا في الهتاف و القفز على الأرائك في مرح و حبور...



**********
جلس مأمون أمام مقود سيارته المتوقفة قبالة سكن الطالبات و أخذ ينقر بأصابعه على عجلة القيادة في توتر و قلق... ليس يدري كيف طاوع هالة و جاء إلى هنا في هذا اليوم رغم أنه كان يعارض الموضوع بشدة في البداية... لكن أمورا كثيرة تغيرت و جعلته يغير رأيه، حتى أنه لم يقاوم كثيرا حين فاتحته هالة في الأمر من جديد...

مضت أكثر من سنة على توليه إدارة شركة عائلة القاسمي، التي أصبحت ملكا للوريثة الوحيدة لعائلة كامل... صحيح أنه لاقى بعض الصعوبات في البداية حتى يعيد الشركة إلى الطريق القويم. فقد كانت هناك تصفية كبيرة في صفوف الموظفين ليتخلص من الفساد الإداري و المالي، و كان ياسين خير عون له في تلك المهمة، بعد أن تماثل للشفاء و استعاد بعض توازنه، نظرا لمعرفته الوثيقة بتفاصيل العمل في العهد السابق و صلته بجميع طبقات العاملين تحت لواء والده. ثم كانت رحلة طويلة لتوظيف مسؤولين جدد و عدد كبير من المقابلات و الاختبارات... كأن الشركة تفتح أبوابها للمرة الأولى! لكن الحظ حالفه حقا و نجح في انتقاء المساعدين المناسبين في فترة وجيزة. و الآن و قد مرت سنة كاملة على إعادة الأمور إلى نصابها فإنه ينظر بعين الرضا إلى مردود الشركة و حساباتها التي تمضي في تحسن مستمر...

ليلى اختارت أن تهتم بدراستها و تركت له كافة مسؤوليات الشركة، حتى أنها لم تكن تهتم بالمراجعة المستمرة للحسابات. و مع ذلك فإنه كان يلح عليها في كل مرة حتى تحضر اجتماعات مجلس الإدارة الشهرية و تتابع بنفسها التقدم الذي تحرزه الأعمال... فهي تظل المالكة الفعلية و إن لم تباشر العمل بنفسها. و عدا تلك اللقاءات المتعلقة بالعمل، لم يعد يراها كثيرا، خاصة منذ مغادرتها منزل هالة و انتقالها إلى سكن الطالبات. كان ذلك الخيار الأفضل بالنسبة إليها، حتى لا تحس بالضيق في وجود أحمد زوج هالة و لا تشعر أنها تشكل عبءا على العائلة، و في نفس الوقت تتجنب السكن بمفردها في شقة مستقلة نظرا لإصرارها على عدم العودة للسكن مع عائلة خالها... على الأقل يمكنها أن تشعر ببعض الأمان وسط فتيات في مثل سنها، و في سكن محمي و مراقب من قبل الوزارة...

رفع بصره للمرة المائة في نصف الساعة التي مرت على انتظاره أمام المبنى، لينظر إلى نافذة الغرفة التي يعلم أنها تسكنها، فقد اهتم مع هالة بتهيئة جميع الظروف المناسبة لإقامتها... من المؤكد أنها لم تكن في حاجة إلى المال حتى تقتني لنفسها ما يلزمها لمسكنها الجديد، لكنها كانت تفتقد حب الحياة. فبعد وفاة والدها أصبحت تحس بفراغ كبير و ثقيل... لم تعد تجد في نفسها الرغبة في الاهتمام بنفسها و النظر في شؤون حياتها. إحساسها بالوحدة و الضياع لازماها لبضعة شهور... لكن الحمد لله، قرارها بمواصلة الدراسة نفسه يعد خطوة جيدة إلى الأمام... و لا شك أنها ستتعود رويدا رويدا على نسق حياتها الجديدة... على حياة بدون أب، الأب الذي كان كل عائلتها...

حين حادثته هالة في الموضوع للمرة الأولى، رفض بشدة و لم يرغب في مناقشة الأمر أصلا... كان يحس أنه مسؤول عن ليلى بعد رحيل والدها، و واجبه يملي عليه أن يكون إلى جانبها وفاءا لذكرى الوالد المحب الذي كانه نجيب... لكنه لم يقبل أن يعرض عليها عرضا كهذا و هو يعلم مقدار حاجتها إلى رجل في حياتها و مدى إحساسها بالوحشة. و لم يكن ليرضى بأي حال من الأحوال أن يبني زواجه على استغلال حاجتها تلك. يعلم أنها لم تكن لترفض... فلم تكن أمامها خيارات كثيرة! فهي كانت تقيم عند أخته، و هو كان يهتم بإدارة مصالحها. و بدون وجوده هو و هالة إلى جانبها لكانت وجدت نفسها وحيدة، أو ربما كان خالها تمكن من الاستيلاء على أموالها دون أن تملك فعل شيء يذكر... لذلك فهي كانت في موقف ضعف، و ضعفها ذاك كان ليجعلها تقدم تنازلات كثيرة. ربما كانت تثق فيه، و ربما كانت تتقبل شخصه... لكن كبرياءه لم تسمح له بالإقدام على تلك الخطوة. فهي ربما تقبل به في تلك الظروف الخاصة، و لكن بعض الشك سيبقى في نفسه بأن إجابتها قد تكون مغايرة، في ظروف مغايرة...

لا ينكر أن اقتراح هالة وافق هواه، و يكذب على نفسه و على العالم إن قال أنه لم يرمقها بنظرات إعجاب خفي منذ أن بدأ يلاحظ نضجها و دخولها مرحلة الشباب... لكنه لم يجرؤ على فعل شيء في حياة والدها. كان يخشى من عواقب تلك الخطوة المتهورة. السيد نجيب كان يحبه مثل ولده، و يهتم لأمره كثيرا... قربه من و من عائلته رغم الفوارق الاجتماعية، و خصه بمركز هام في شركته حتى خيل إليه في مرات عدة أنه يعده لخلافته في أعماله! لكنه لم يشأ أن يستسلم لتلك الأحلام. أو ربما استكثر على نفسه كل تلك النعم التي لم يحسب لها حسابا! إدارة شركة كبرى و زوجة شابة، ملتزمة و لامعة... كان يفيق من أحلامه في كل مرة فيصطدم بواقع عائلته و حياته. صحيح أنه كان يعمل باجتهاد و يثبت جدارته و كفاءته باستمرار، لكنه يبقى موظفا عند والدها... و تبقى هي ابنة السفير السابق و رجل الأعمال المعروف! فيكتشف في مرارة أنه لا يوجد سبب وجيه يجعله يحضى بتلك العطية دونا عن أبناء السفراء و رجال الأعمال الذين سيكونون دون شك أقرب إلى مواصفات رجل الأحلام الذي تحلم به فتاة في مثل مركزها! و لم يجد بدا من التسليم و العودة إلى رشده، خشية أن يقع في عواقب وخيمة لتهوره. فلم يكن يتخيل للحظة أن يهد تلك الصداقة العميقة و الأخوة الصادقة التي تربط العائلتين بطلب أرعن يتجاوز به الحدود المسموح بها... و كانت ثقة السيد نجيب، والده الثاني، أغلى عنده من أن يهدرها بتلك السهولة لهثا وراء السراب...

و بقي على تلك الحال سنوات عديدة، لا يكاد يفكر في الزواج رغم ملاحقة أمه و أخته له مذكرتين إياه بقرب إتمامه العقد الثالث من عمره. لكنه لم يكن يهتم... أو لعل حلمه الوردي لم يشأ أن يتخلى عنه تماما، طالما كان هناك بصيص من الأمل... يظهر حينا و يختفي حينا آخر... و هاهو اليوم، و بعد طول لأي يقف ذلك الموقف العصيب الذي تخيل نفسه يقفه مرات و مرات... ينتظر الحكم الذي قد يكون إعداما! ماذا لو رفضته؟ كيف يمكنه أن ينظر في وجهها أو يخاطبها في المستقبل؟ يعلم أنها تعتبره أخا. و قد كان لها كذلك لزمن طويل. فكيف يسمح لنفسه بتشويه تلك العلاقة البريئة الطاهرة؟ لن تعود علاقتهما مثل السابق أبدا... فقد اكتشفت أن نياته تجاهها تشوبها شائبة! غطى وجهه بكفيه في ألم. لا يمكنه أن يتخيل النتائج...

لكن إقدامه على هذه الخطوة جاء بعد تفكير طويل... فهو إن لم يعرض عليها الزواج، فلن يصله جواب أبدا! و ربما يندم فيما بعد إن تقدم إليها أحد الطامعين في ثروتها و استغل وحدتها و حاجتها و هو لا يستحقها... حينئذ لن ينفعه الندم بعد فوات الأوان. كما أنه الآن أصبح مديرا لشركة، و دخله ممتاز... صحيح أنه يتقاضى راتبه من أموالها، لكنه على الأقل لن يضطر إلى لمس مليم واحد من ثروتها حتى يضمن لها ظروف عيش قريبة من ظروف حياتها السابقة. لا يشك لحظة واحدة في أنها ستجرحه يوما لكونه من مستوى أدنى من مستواها، فهي لم تفعلها مرة واحدة منذ عرفها طفلة، و لا يظنها تفكر مطلقا بتلك الطريقة. لكن كبرياءه تأبى عليه ذلك...

تنهد مجددا و هو يطالع ساعته التي كانت عقاربها تتلكأ و تتباطأ كأنها تسخر من انتظاره البليد... مضت ساعة كاملة على غياب هالة داخل المبنى. فيم تراهما تتحدثان كل هذا الوقت؟ ألم يكن بوسعها أن تدخل في الموضوع مباشرة و تعود بالجواب؟ ألا تدري أنه يحترق في الخارج من حرارة الطقس و حرارة الانتظار!!

أخيرا، لمحها تخرج و تسير بخطوات وئيدة في اتجاه السيارة. تعلقت عيناه بوجهها يبحث فيه عن إجابة شافية. لكن ملامحها كانت خالية من أي تعبير. رمت بنفسها على الكرسي المجاور له دون أن تنطق. و حين أحست بجموده التفتت إليه في هدوء و هي تقول متسائلة :
ـ ألن تنطلق؟

كان آخر قطرات الصبر التي حافظ عليها إلى تلك اللحظة قد نفدت، فهتف في لهفة مخلوطة بغضب خفيف لبرودها و لامبالاتها :
ـ أخبريني... ماذا قالت؟

رمقته هالة بطرف عينها في دهاء و هي تقول في لهجة ساخرة :
ـ كنت أظنك غير راغب في الموضوع... و ما جئت اليوم إلا استجابة لإلحاحي!

زفر مأمون في غيظ و هتف في توسل :
ـ انطقي أرجوك و كفاك لعبا بأعصابي!

عندئذ ارتسمت ابتسامة على وجهها و هي تقول في طمأنة :
ـ طلبت وقتا للتفكير... فليس من المعقول أن تقرر في لحظات... إنه زواج و مستقبل كما تعلم...

تنهد في ضيق و هو يدير محرك السيارة استعدادا للانطلاق... يجب أن ينتظر بضعة أيام أخرى قبل أن يصدر الحكم. صبر جميل و الله المستعان. رنت إليه هالة من جديد و هي تقول هامسة :
ـ لا تقلق... بدت لي أقرب إلى الموافقة منها إلى الرفض...


***********



جلس على حافة البحر، الصديق الوفي الذي تعود إلى الشكوى إليه دون غيره... فهو يحمل كل أسراره و لا يفشيها أبدا... و استند بمرفقه إلى ركبته و هو يضع كفه على خده في استسلام. لم يعد أمامه سوى الاستسلام... بل لعل هذا الطبع لازمه منذ زمن بعيد، حتى ألف البكاء على الأطلال و التحسر بعد فوات الأوان...

اليوم زفافها! اليوم تصبح حليلة رجل غيره...

لماذا يؤلمه ذلك؟ ألم يعود نفسه على نسيانها منذ شهور طويلة؟ كان يعلم أن أمله قد اندثر منذ غادرت القصر هاربة و اختارت اللجوء إلى رجل آخر ليحميها. و هو بالفعل كان قادرا على حمايتها... على حمايتها من نفسه قبل كل شيء! في حين أنه هو لم يقدر على المحافظة على ثقتها التي وضعتها فيه. و تصرف بقلبه قبل أن يحكم عقله. و ذاك عيبه الدائم الذي كان و لا يزال يكلفه الكثير...

تنهد بعمق و هو يبعثر بأصابعه ذرات الرمال المبللة على الشاطئ... ترك أصابعه تغوص في الأرض و التقط حفنة من الرمال و تركها تتناثر ببطء حتى أضحت راحته يده فارغة. هكذا تفر منه دقائق حياته في رتابة و هدوء و هو غير قادر على اللحاق بها قبل أن تضيع. إلى متى ستعيش هكذا يا فراس؟ إلى متى تترك الظروف تتغلب عليك، فتضحي بأحلامك و آمالك في كل مرة لتضحي من أجل غيرك؟ من أجل العائلة... من أجل الشركة... من أجل الإنسانية!! و أنت، متى تعيش حياتك و تصنع مستقبلك؟ إلى متى ستتحكم فيك حساسيتك المفرطة و عاطفيتك الزائدة عن الحاجة؟ ربما آن الأوان لتبدأ بداية جديدة. بداية حقيقية يكون فيها نصيب لنفسك... على أسس سليمة لا تسيطر عليها المشاعر...

التقط حصاة صغيرة و رمى بها في اتجاه البحر لتبتلعها الأمواج في شراهة، كأنه يتخلص من بقايا التخاذل التي في نفسه. ثم هب واقفا على قدميه و قد امتلأ قلبه غضبا و ثورة... أنت قادر على بناء حياتك من جديد، و لن يثنيك شيء عن عزمك...

ارتفع رنين هاتفه بلحن مزعج ليقطع عليه حبل أفكاره. نظر إلى الرقم المتصل ثم عقد حاجبيه في استياء. رد على الاتصال، فجاءه صوتها متكسرا مائعا كالعادة و هي تسأله أين يكون. أجاب في حزم قاطع لم يعهد في نفسه :
ـ رجاء... أرجوك، حاولي أن تفهميني هذه المرة... لا أمل في مستقبل يجمعنا... إن كنت تريدين أن نحافظ على علاقة عائلية محترمة، فانسي هذا الرقم!

كانت علاقته بها إلى تلك الآونة يشوبها الكثير من التردد. يخشى أن يجرح مشاعرها أو يصدها بطريقة عنيفة تؤلمها... و ذاك ما جعلها تتمادى طوال السنين الماضية. ربما كانت تلك خطوة أولى في بناء شخصيته الجديدة. وداعا لفراس العاطفي المستسلم!

تلعثمت رجاء و قد صدمتها لهجته، حاولت أن تقول شيئا، لكنه عاجلها بقوله :
ـ إن لم يكن لديك أمر يسحق، فإنني مضطر إلى قطع الاتصال!

أنهى المكالمة... ثم تنهد في ارتياح. أنت على الطريق الصحيح...


**********



وقفت أمام قبر والدها و أخذت تملأ الإناء الذي يعلو سطح القبر بالماء... راقبت العصافير و هي تقترب لترتوي من الإناء و تلتقط حبات القمح التي نثرتها على الحجارة، و علت شفتيها ابتسامة هادئة... لعل أجر سقاية الماء يخفف عن والدها و يرزقه الرحمة... مضت سنتان كاملتان على رحيله عن هذه الدنيا. كانت تظن أن حياتها من بعده ستكون بلا معنى... لكنها توقن الآن أن الحياة لا تتوقف برحيل الأحبة، و أن الله عوضها عن والدها خير تعويض... زوج عطوف، يحنو عليها و يحسن رعايتها، تحس بالسعادة بقربه كل يوم أكثر من اليوم السابق.

رنت بعينيها إلى القبر، كأنها تحاول اختراق الحدود المادية لتصل إلى روح الراقد تحت الثرى، و خاطبته بقلبها... أبي، أعلم أنك سعيد من أجلي الآن. و أعلم أنك لو كنت على قيد الحياة لكنت باركت اختياري و أقررتني عليه. مأمون شخص ممتاز يا أبي. ليس في العمل و الإدارة و حسب، بل في كل صفاته و طباعه. هل تعلم... كنت في حيرة من أمري حين تقدم إلي. ليس لعيب أجد فيه، فأنا لم أر إلا الخير سواء منه أو من عائلته... لكنني لم أكن مستعدة لتلك النقلة في حياتي، و كنت أرفض فكرة الزواج... لكنني استخرت الله كما علمتني، و سألته أن يهديني الخيار الصواب... فوجدت في نفسي ارتياحا و انشراحا عجيبين و سارت الأمور بسهولة لم أتصورها...

أبي... أنا اخترت أن أظل في وطني و أستثمر أموالك في مشاريع محلية، تعود بالفائدة على البلاد و أهلها. أعلم أنها كانت رغبتك منذ زمن... لكن ظروف الحياة أخذتك و شغلتك. و ها أنا أحقق رغبتك و لو بعد رحيلك. مؤسف أن تضيع جهود أبنائنا و خيرة شبابنا و أموال مستثمرينا و رجال أعمالنا لخدمة بلاد غير بلادنا... لكنني لم أفهم ذلك إلا بعد أن عدت إلى هنا. بعد أن عرفت معنى العائلة... و معنى الوطن. أنا التي عاشت طوال حياتها دون وطن... لست ألومك الآن. فقد علمتني الدين و سقيتني المبادئ منذ نعومة أظفاري... لكن فاقد الشيء لا يعطيه. و أنت كنت تفتقد العائلة، و الوطن...

تحسست بطنها الذي كان آخذا في التكور و الانتفاخ... لن أحرم طفلي من هذه المعاني. و أملي أن يعرف حنان الوالدين و الاستقرار الذين لم أعرفهما... أسأل الله أن يوفقني... دعواتي لك بالرحمة...

ـ ليلى... يجب أن نذهب الآن... هالة اتصلت تستعجلنا...

التفتت إلى مأمون الذي كان يقف غير بعيد عنها ليمنحها خلوة قصيرة مع نفسها، تناجي روح والدها و تدعو له... طالعها بابتسامة عذبة و هو يقول هامسا :
ـ هيا بنا يا حبيبتي...

التقط كفها الصغيرة و دفأها بين كفيه و هما يسيران نحو السيارة، كأي زوجين محبين ينتظران طفلهما الأول، و قد علت وجهيهما علامات التفاؤل و الانسجام...


**********



أدار العم صابر باب المخزن و دفع بالعربة التي تحمل كميات من أوراق الملفات و الجرائد إلى الداخل. كان في الغرفة السفلية رفوف طويلة كدست عليها أكوام هائلة من الورق القديم الذي لا قيمة له، لكن جرت العادة منذ أيام السيد نبيل بالاحتفاظ بها فترة من الزمن، ربما تطول لبضعة سنوات، قبل أن يرسل الكمية إلى معامل رسكلة الورق... ربما لم يكن الربح المادي الناتج عن تلك المبادلة هاما، لكنها عادة سار عليها و لم يجد داعيا للتخلي عنها!

أخذ يحمل أكداس الورق و يرتبها على أحد الرفوف الخالية و هو يتأفف من الغبار الذي يتناثر حوله من ألواح الخشب المتسخة. فجأة سقطت كومة من الورق كانت على الرف العلوي بسبب ارتجاج الخزانة. فانحنى ليجمعها في صبر و أناة. كان قد حافظ على عمله في القصر بعد أن اشترته السيدة ليلى. أقنعت ياسين بأن القصر ماهو إلا تعويض عن الخسائر التي طالت العائلة كلها دون أن يكون لها ذنب في ما اقترفه السيد نبيل... و بما أنها اشترت القصر و الشركة و المزرعة بما يعادل ثمن الشركة وحدها في الظروف العادية، فإنها تركت للعائلة حرية التصرف في القصر و المزرعة، طالما أنها لم تكن تحتاجها. و رغم عدم اقتناع فراس و أمين، إلا أن منال ضغطت على ياسين حتى يقتنع بالعرض... و سارت الأمور كما أرادت! تنهد و هو يتذكر تلك الأيام العصيبة... السيدة ليلى و السيد مأمون كانا في غاية اللطف و الكرم و كانا يسعده أن حسده لم يخب في تقديره لأخلاق السيد مأمون حين لقيه للمرة الأولى. كانت ليلى قد قدمت حديثا للسكن في القصر، و مأمون كان يشرف على بعض المعاملات الخاصة بالسيد نجيب في الشركة. و بحكم تنقله المتكرر من الشركة و إليها ليحمل بعض الحاجيات التي يوصيه عليها السيد نبيل من القصر، فإنه كان يصادفه مرارا... و شيئا فشيئا نشأ بينهما حوار لطيف. و لم يكن مأمون يطلبه منه شيئا سوى أن يطمئنه على أحوال ليلى و ظروف إقامتها عند خالها... فهو كان يعرفها منذ زمن طويل، و علاقته بوالدها وطيدة للغاية... و لم يقصر العم صابر في نقل أخبارها إليه و كل ما أمكنه ملاحظته عن حياتها الجديدة... و سره أن يتضح إليه فيما بعد أنه كان ذا نفع في حماية ليلى من بطش خالها و طمعه...

فجأة انتبه حين وقعت عيناه على جريدة قديمة، تتصدر صفحتها الأولى صورة كل من السيد نبيل و ياسين إبان المحاكمة الشهيرة التي واجه فيها الولد أباه. ابتسم العم صابر في مرارة و هي يتخذ مجلسه على كرسي قديم يستخدمه لتنظيم الورق على الرفوف العلوية و أخذ يقرأ المقال كأنه يسترجع الماضي المر الذي بالكاد تجاوزته العائلة... توقفت عيناه عند المقطع الذي يصف التهم التي وجهها ياسين إلى والده، و من بينها تهمة القتل... قرأ الفقرة و علامات الدهشة ترتسم على وجهه بقوة متزايدة... لم يكن قد تابع تفاصيل المحاكمة في تلك الفترة، فكل ما شغله هو ضياع العمل و تشرد عائلته التي كان عائلها الوحيد. لذلك فإنه لم يركز على دقائق الأمور و الأدلة، بقدر ما همه الحكم النهائي و مصير القصر و سكانه... تمهل و هو يعيد القراءة في تمعن. كان ياسين يستند في اتهامه على دليلين... الدليل الأول هو مذكرات حنان التي تصف فيها هيئة أماني ساعة وفاتها. فقد بدت هادئة و مرتاحة مقارنة بالوضع المؤلم الذي كانت عليه. و الدليل الثاني هي علبة حبوب مخدرة، فارغة، عثر عليها بعد وفاة حنان نفسها... و ذلك ما جعله يستنتج أن "القتيلتين" وقع تخديرهما بالحبوب ثم وقع قتلهما بخنجريهما بطريقة تشبه طريقة انتحار السيدة هاجر!! لكن أقوال ياسين المتداخلة و غياب أدلة قاطعة تورط السيد نبيل في الجريمتين جعلا المحكمة تسقط التهمة، و تكتفي بالنظر في التهم الباقية التي كانت تستند إلى أدلة حقيقية...

سقطت الجريدة من بين يدي العم صابر و أخذ يحدق في الفراغ في ذهول... إنه يذكر الآن جيدا، أن السيد نبيل كان قد طلب منه في مناسبتين يذكرهما جيدا أن يشتري له علبة حبوب مخدرة! كان يدعي أن أرقا يصيبه بين الفترة و الأخرى، فيحتاج إلى تلك الحبوب لتهدئة أعصابه. و رغم صعوبة الحصول عليها بدون وصفة طبية، إلا أنه كان يتدبر أمره في كل مرة. و السيد نبيل لم يكن يتوانى في دفع المبالغ اللازمة... لكن و لعجيب الصدف، فإن المناسبتين كانتا تسبقان انتحار كل من أماني و حنان بأيام قليلة!! لم يكن في تلك الآونة ليربط الأحداث ببعضها بأي شكل من الأشكال. لكن الآن، و هو يقرأ اتهامات ياسين، بدأت أمور كثيرة تتضح في رأسه...

لبث للحظات ساهما لا يكاد يأتي بحركة. لكنه في النهاية وقف و هو يمسح وجهه بكفه في توتر. لم يعد ينفع الآن أن يتوجه إلى المحكمة و يطلب الشهادة. و على أية حال، فإن شهادته لن تغير من الأمر شيئا... فالحكم الصادر بشأن السيد نبيل يكفي ليقضي بقية أيام حياته وراء القضبان...
عاد إلى عمله في شيء من الفتور... و مسحة من الحزن تغطي وجهه...


*** تمت بحمد الله ***