إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه لا فلاح ولا نجاح ولا سعادة إلا بتقواه.
أيها الإخوة في الله! كان بعض حديث الجمعة الماضية يدور حول "استغلال الإجازة بما ينفع"، وكان من ضمن الأمور التي أشير إليها موضوع زيارة الأقارب والأرحام، وفي هذه الجمعة سيكون الحديث عن تعريف الرحم، وأهميتها، وعقوبة قاطعها، أسأل الله لي ولكم النفع والفائدة.
أيها المسلمون! أما بالنسبة لتعريفها فهي: القرابة، وهم قال أحد العلماء: أقارب الإنسان كأمه وأبيه.. وابنه وبنته.. ومن كانت له صلة من قبل الأب أو الأم، كالعم والعمة، والخال والخالة، وابن العم وابن الخال، وهذا على سبيل التقريب لا على سبيل الحصر.
وأما ما ورد في القرآن على وجوبها، فيقول الله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}[النساء:1]، ويقول الله جل وعلا: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:22-23].
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه([1]).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الْرَّحِمُ -وفي رواية للبخاري: «فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ»-فَقَالَ لَهُ: مَهْ؟ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاكِ»([2]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ»([3])، وفي رواية ابن حبان: «إِنَّ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَقُولُ: أَيْ رَبِّ! إِنِّي ظُلِمْتُ.. إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ.. إِنِّي قُطِعْتُ. قَالَ: فَيُجِيبُهَا رَبُّهَا: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، وَأَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟!»([4]).
وأخرج الإمام أحمد والبزار عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا: الْاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنَّ هَذِهِ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ قَطَعَهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»([5]).
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِى الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ: مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» حديث حسن([6]).
وورد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُوْنَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ، وَمُصَدِّقٌُ بِالْسِّحْرِ»([7]).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ»([8]).
إخوتي في الله! هذه نبذة يسيرة من أقوال المصطفى في صلة الرحم، ولكن مع هذا نسمع ونرى كثرة القطيعة في زماننا هذا عياذاً بالله، مع توفر الأجهزة المساعدة على صلتها، كالسيارات، والطائرات، وجهاز الهاتف وغير ذلك، ولقد أصبحت العلاقات والزيارات المتبادلة اليوم عند كثير من الناس لا لأجل القرابة، وإنما لأجل المنافع المادية، ولذلك بعضهم يتأخر عن عمه أو خاله مثلاً أسابيع وأشهر، فإذا احتاج منه شيئاً ما من أمور دنياه بادر بالذهاب إليه، وبش في وجهه، وربما كرر عليه الزيارات، حتى يزوره في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً، فإذا حصل على مقصوده رجع على حالته الأولى -عياذاً بالله-.
والبعض الآخر يصل أرحامه ولكن ما إن تأته منهم كلمة خاطئة، أو زلة ليست مقصودة، أو تصرف سيئ من بعض أفراد العائلة، حتى يقطع حبل الود والوصل، ويلجأ إلى القطيعة والهجر، ناسياً أن الخطأ من طبيعة البشر، متجاهلاً ومعرضاً عن الأخطاء التي قد تصدر منه، وهذا قد وقع من كثير من المسلمين، وما ذاك إلا لبعدهم عن تعاليم دينهم.. وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم بين للرجل الذي اشتكى إليه ما يفعله به أقاربه، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما قال هذا الرجل: «يَا رَسُوْلَ اللهِ! إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ ويُسِيئُونَ إِلَيَّ، وأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ» رواه مسلم([9]).
ولقد ضرب لنا أبو بكر مثلاً عالياً في الصلة، وذلك بفعله بقريبه مسطح بن أثاثة، فلقد كان أبو بكر يواصله، وينفق عليه، ويرعى مصالحه، ورغم كرم أبي بكر وبره بهذا الرجل أنكر المعروف وجحده، وانساق بلسانه مع الذين انساقوا بالنيل من أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها، حيث اتهموها بما برأها الله منه في كتابه، فنزلت براءتها من فوق سبع سموات، عند ذلك أقسم الصديق أن يقطع نفقته عن مسطح جزاء تطاوله، وجزاء قذفه لابنته عائشة، وهذا أقل عقاب يعاقب به رجل، رجل لم يجد ثمرة المعروف، ولم يقدر للمعروف قدره، فأنزل الله قوله سبحانه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:22]([10]).
وهنا يشرق النور في نفس أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبنيته وعرضه، فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو حتى تشف روحه، ويذهب غيظه، فيلبي داعي الله في طمأنينة وصدق فيقول: بلى والله أحب أن يغفر الله لي، فيعيد النفقة على مسطح، وتعود الأمور كما كانت، كأن لم يصدر من مسطح شيئاً، فرضي الله عنه وأرضاه.
والله ما ارتفع وما ارتفعوا إلا بعملهم بكتاب الله، وخوفهم من الله، ومحبتهم لله، أرأيتم كيف أعاد النفقة على قريبه مع أنه قدح بعرض ابنته فأغاظها وشربها كأس المرارة والهموم، كل ذلك امتثالاً لكلام مولاه.
فيا من قاطعت قريبك من أجل خصومة وقعت، قس بين خصومتك معه، وبين ما حصل لأبي بكر مع قريبه، ثم اقتد بفعله، فإن ذلك لك منجاة ومفخرة.
أيها المسلمون! كذلك يوجد من الناس من يصل رحمه مدةً معينة، فإذا وجد منهم الجفاء جفاهم وقاضاهم، وهنا يقول الحافظ: "لصلة الأرحام ثلاث درجات: واصل ومكافئ وقاطع، فالواصل: من يتفضل ولا يتفضل عليه، والمكافئ: من يصل من وصله فقط، والقاطع: هو الذي يوصل ولا يصل، ويتفضل عليه ولا يتفضل، لا كثره الله"([11])، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِيْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»([12]).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي سبقت رحمته غضبه، ووسعت مغفرته خلقه، ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب على نفسه الرحمة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله تعالى، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده.
أيها المسلمون! اعلموا أن من أكبر الكبائر أن يقطع الإنسان رحمه؛ لأن صلة الرحم هي القرب من الله، وقطيعتها معناها البعد عن الله، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[الرعد:25].
ولقد أعد الله لقاطعها أنواعاً من العقوبات:
منها: أن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
ومنها: أن قاطع الرحم تحرم عليه الجنة، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ» رواه مسلم([13]).
ومنها: أن الله لا يقبل له عملاً، وقد ورد عن أبا هريرة قال في مجلسه: أحرج على كل قاطع رحم لما قام من عندنا، فلم يقم أحد حتى قالها ثلاثاً، فقام من المجلس فتىً له عمة قد صرمها -أي قاطعها منذ سنتين- فدخل عليها، فقالت له: يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قال: سمعت أبا هريرة يقول: كذا وكذا، قالت: ارجع إليه فسله: لم قال ذلك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ»([14]).
ومنها: أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْرَّحْمَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيْهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ»([15]).
هذا عقاب قاطع الرحم.
وأما جزاء واصلها، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من الواصلين، نسوقها مختصرة ومستنبطة من الكتاب والسنة وهي:
أولاً: انبساط الرزق.
ثانياً: الزيادة في العمر.
ثالثاً: دفع ميتة السوء.
رابعاً: دخول الجنة.
خامساً: البعد عن النار.
سادساً: رفع الدرجات.
سابعاً: وصل الله له.
ثامناً: أن يرزقه الله ذريةً صالحاً.
تاسعاً: البركة في وقته.
إخوتي في الله! إن صلة الأرحام تتنوع وتختلف من شخص لآخر، ولها طرق شتى، فصلة الرحم تكون بالإحسان إلى أقاربك على حسب حالك وحالهم.. من إنفاق.. أو سلام.. أو زيارة.. أو قضاء حاجة، والمعنى الجامع لها: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة.
عباد الله! صلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمركم الله بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56].
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين عامة، وولاة أمورنا خاصةً يا رب العالمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة من المؤمنين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم جنبهم قرناء السوء، اللهم جنبهم قرناء السوء، اللهم جنبهم قرناء السوء، اللهم اجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
مواقع النشر