أنواع النهايات في القصة القصيرة جدا:
تختتم القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بنهايات متعددة ومتنوعة ، ويمكن الحديث عن مجموعة من النهايات بالشكل التالي:
1/ النهايـــة السرديــة:
من الطبيعي أن تكون نهاية القصة القصيرة جدا نهاية سردية مادامت بدايتها سردية، والأصل في القصص كما هو معلوم أن تكون محكية وسردية.
ومن الأمثلة على النهاية السردية قصة:”الحاصد”: طويل القامة. بارز العروق. منحن على منجله طول يومه. خلّف وراءه أكواما من الحصاد. تراءت له أفعى رقطاء تتجه نحوه. استمر في انحنائه ولم يبال بها قط. وما أن غرست أنيابها في ساقه نافثة سمها حتى سقطت ميتة. أخذها وربط بها قبضة من السنابل.”55
يلاحظ أن قفلة هذه القصة القصيرة جدا عبارة عن أحداث سردية قائمة على تتابع الأفعال وتراكبها سرديا.
2/ النهاية الفضائيـــة:
تتنوع النهاية والخاتمة في قصص الكاتب صياغة وأسلبة وتخطيبا وتسريدا، فقد تكون نهاية ظرفية زمانية أو مكانية
كما في قصة:”ساحة الحمام”: منذ مدة والساحة خالية من الحمام.
انقطع عنها مرتادوها، لم يعد الأطفال ينطّون وراء الحمام، هاجرها المصور، وبائع الحلوى، وماسح الأحذية،…
- لا قوت في الساحة، قال الذين انقطعت أرزاقهم، ولعنوا الحمام الذي قاد لواء الهجرة.
جاء صوت الزبّال مبتلا بنحيب مكنسته مشيرا إلى طيف هناك عند الطوار كأنه الغمام:
أُغتيل الحمام، غبّ كل إطلالة شمس،عند عتبة المطعم ذاك أجمعُ أكوام ريش وبقايا حمام.”56
يتبين لنا بأن قفلة هذه القصة القصيرة جدا قد جمعت فضائيا بين نهاية زمانية ونهاية مكانية.
3/ النهايــة الشخوصية:
تنتهي بعض القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بالتركيز على الشخصية تعريفا أو تنكيرا أو تبئيرا
كما في قصة:”عاشق الزحام”:”يعشق الزحام. يلتصق في الطوابير. يندفع ويتدحرج في الحافلات. يندس في جلبابه صيف شتاء. يداه معتقلتان في جيبه أو بين فخذيه. كلما كثر العفس والعسف، الرهز والنهز، تتلوى أعطافه كشجرة لبلاب. يتمطى… يتخطى… يتلاطم على جبينه البصاق في جنون. تنهض على وجهه كدمات.
مذ عرفته يعشق الزحام، يذرع الزحام، يتنفس الزحام، لا يعرف الانكفاء ولا الاكتفاء.”57
تنتهي هذه القصة القصيرة جدا بنهاية شخوصية ، يتم فيها تبئير الشخصية المحورية بواسطة ضمير الغائب الذي يحيل على عاشق الزحام مقاما وسياقا.
4/ النهايــة الوصفيــة:
تنتهي بعض قصص جمال الدين الخضيري بنهايات وصفية قائمة على ذكر النعوت والأوصاف والأحوال والتشبيهات لتبيين أحوال الموصوف
كما في قصة:” سحر أسود”:” – رجل أسود أدرد يشرب قهوة سوداء في ليلة حالكة.
هذا ما قاله لي وأنا أسأله عن لوحة تشكيلية لا أرى فيها إلا السواد. ولا أخفيكم أني لم أر سحرا أسود مثل هذا الذي يشع من اللوحة السوداء.”58
وهكذا، تنتهي هذه القفلة القصصية بذكر مواصفات السحر، وذلك عبر إيراد الصفة والنعت، وتشغيل صورة التشبيه والتمثيل لتجسيد الحال والمآل.
5/ النهايــة الحواريــة:
تنتهي بعض النهايات في مجموعة من القصص إما بحوارات مباشرة وإما بحوارت داخلية
كما في قصة”الذيل والتكملة”: ” قال نابشٌ في النوايا:
- نَوَى الهَرْقَ وليس الحَرْقَ.
يتمثل المشهد أمامي منبثقا من صدى العويل على الشكل الآتي :
طيفٌ يتقدم الجحافلَ هارقا على نفسه ما تيسر من البنزين. قبل أن تطوّقه أكثر من هراوة، يرشقه طيف آخر بسيجارته مشعلا شواظ الفتيل.
وكلما سمعتُ مناوشاتهم حول المنزلة ما بين الهرق والحرق أقول:
- زَيْتُ القنديل ذيل وعود الثقاب تكملة.”59
ويعني هذا أن النهاية الحوارية ترتبط بالنصوص المسرحية والدرامية والمشهدية القائمة على السؤال والجواب.
6/ النهايـــة التقريريـــة:
تنتهي كثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري بجمل تقريرية خبرية قائمة على التعيين والحرفية المباشرة .
كما في قصة:”الأزهار المندغمة” : ” رأيته في الحقل يقطف أزهارا. ينتقي ما يقطفه بعناية. يحصد كل زهرة شاذة، غريبة، غير متناسقة… مشكلا باقة جامحة ومتنافرة لكنها بديعة.
اقتربت منه و أجلت فيه بصري، فإذا هو بودلير يهمهم ويقول بانتشاء:
أجمل الباقات هي التي تندغم فيها هذه الأزهار الشريرة.”
ويعني هذا أن النهاية التقريرية هي التي ترد في شكل تقريرات خبرية وأحكام إثباتية تخلو من الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية.
7/ النهايــة الإنشائيـــة:
تنتهي كثير من قصص جمال الدين الخضيري بنهاية إنشائية قائمة على الاستفهام، أو الأمر، أو التمني، أو النداء، أو القسم، أو التعجب، أو النهي، أو النفي، أو القصر…
كما في قصة:”النزوح الأكبر”:” انحسر البحر فجأة وامتدت اليابسة بين بلدين كان يربطهما من قبل بحر ملغوم. لم يشرق الصبح من غد حتى نزح قوم بكامله إلى ما بعد اليابسة.
لم يبق في بلدتي إلا شيح، وريح، وروث حمير، وحاكمها الأبدي. بحث عن نسوانه، وعن المهرج، وعن السيّاف، وعن هامات كانت لا تكف عن الانحناء، وعن أصوات تلهج بالدعاء. لم يجد شيئا إلا الخواء وصرير أبواب تريد أن تنفك من عقالها علها تقتفي أثار أصحابها. امتطى صومعة ونادى فيما تبقى من شجر وحجر:
- بمناسبة النزوح الأكبر، أعلن حظر اهتزاز الجذوع، ونمو الزروع، وتدحرج الأحجار في كل الربوع. وهل آفتنا إلاّ هذا التدحرج المروّع؟!”63
ونرد النهاية الإنشائية أيضا في قصة:” عصا ومآرب”:
” عصاه لا يتكئ عليها.
لا يهش بها على غنمه.
يعوج بها على مشارق ومغارب أخرى.
مخترقا الحوش في جوف الظلام، يلملمه السعال.
يطرق باب بيته، يتواتر الطرق كأنه البرق.
تتناهى إليه صدى خطوات مهرولة منفلتة من بعيد.
مزلاج، صرير، بقايا أنثى.
يهوي بعصاه على محياها مزمجرا:
ماذا لو كنت مطاردا، ملاحقا.. ألا من مغيث؟!”64
وهكذا، يختم الكاتب قصتيه بقفلتين إنشائيتين، مرة بالاستفهام الطلبي (هل آفتنا…. ؟) ، والاستثناء غير الطلبي(إلا هذا التدرج…)، ومرة أخرى بالاستفهام الطلبي(ماذا لو …؟)، وأسلوب الحث والتحضيض(ألا من مغيث؟).
8/ النهايـــة المفاجئـــة:
تنتهي بعض قصص جمال الدين الخصيري بنهاية مفاجئة تصدم المتلقي بمعطياتها المعطاة، فتفاجئه بحلول لم يتوقعها القارئ واقعا أو إمكانا أو احتمالا
كما في قصة”المذيعة” : ” وأخيرا اشترى التلفاز ذا الشاشة المسطحة الرقيقة. علقه على أحد جدران الصالون. أشعله ونادى زوجته كي تشاهد معه نشرة الأخبار المسائية. قال لها وهو يومئ إلى التلفاز الذي ملأ إطاره وجه المذيعة الحسناء:
إنها رائعة حقا
لا أعتقد ذلك.
أنظري كم هو جذاب شكلها
عادي جدا
صوتها يصدح واضحا، أليس كذلك؟
صوت كبقية الأصوات لا تميز فيه.
لكنها الوحيدة التي راقتني..
قامت ثائرة يتطاير الحنق من عينيها وصعقت في وجهه:
أتقولها بكل صفاقة، أناديتني لتغيضني بهذه المذيعة الخرقاء.
لكنني يا عزيزتي كنت طول الوقت أتحدث عن الشاشة وليس عن المذيعة..”65
يستعمل الكاتب عنصر الاستدراج والاستقراء، فينطلق من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام ، وذلك من أجل أن يباغت القارئ بنهاية مفاجئة وقفلة صادمة.
9/ النهايـــة الساخـــرة:
تنتهي كثير من قصص جمال الدين الخضيري بالنهاية الساخرة التي تقوم على التنكيت والتلغيز والنادرة والفكاهة والسخرية والمفارقة ،
كما يتضح لنا ذلك جليا في قصة:”ليلة القص”: ” قيل له في ليلة طافحة بالقص والسرد:
- جاء دورك قص علينا بعضا من ملحك ونوادرك
- أجل، لكن شريطة أن أبدأ قصصي من نهايتها
ولما أبدوا موافقتهم قال:
- إذاً، فلتضحكوا أولا، فنهايتها تستلزم ضحكا.
ولما ضحكوا استجابة لطلبه قال:
أمَا وقد ضحكتم فما الداعي إليها؟..”67
وهكذا، يتعامل جمال الدين الخضيري مع التراث من خلال رؤية ساخرة قائمة على التهجين والباروديا والمحاكاة الساخرة.
10/ النهايــة الإحاليــة أو التناصيــة:
يمكن الحديث عن النهاية الإحالية أو التناصية في كثير من القصص القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري
كما في قصة:”داحس والغبراء”: بدأ اللعب وانتهى في عشب ملعب، وتحول إلى داحس والغبراء من قبل شعب معلب”.68،
وهكذا، فقصص جمال الدين الخضيري ملأى بالإحالات التناصية، والمقتبسات المنصوصة، والترسبات الإحالية ، وتفتيق الذاكرة التراثية تحبيكا وتخطيبا.
مواقع النشر