لأول مره أذهب مع أبي إلى السوق فقد اعتاد أبي أن يعطى لعمتى نورة النقود وهى تبتاع لى ما أحتاج من ثياب وغيره .
كان السوق رائعاً بالنسبة لى و أصوات الباعة وهم ينادون على بضائهم كان بالنسبة لى كمقطوعة موسيقية أحببت كثيراً التجول بين المحلات وأبي يختار لى القمصان البيضاء و البنطال الكمونى فهذا هو الزي المدرسي كان أبي منهمكاً في البحث عن مقاسي الصغير وحين عجز ذهب للبائع: هل أجد عندك زي مدرسي على مقاس هذه الفتاة؟
ضحك البائع : هل تمزح معي؟ انها صغيرة لن تجد قياسها ان وجدت البنطال بالطول المناسب لن تجده بالعرض المناسب والقميص كذلك بالتأكيد
احتار أبي : وما العمل؟ غداً ستذهب إلى المدرسة
أنقذ البائع أبي حين قال له: حسناً دعنا نجد لها شيئاً قريباً من قياسها واحضر إلى هنا بعد صلاة العشاء يكون خياط المحل قد أصلحه على قياسها لكن السعر لن يكون كالذى تأخذه دون تعديل
أجابه أبي : حسناً لامشكلة سآتى بعد صلاة العشاء بإذن الله لكن تحسباً للأمور الطارئ فى أي ساعة تغلقون المحل؟
أجابه البائع: في التاسعه
دفع أبي للبائع مبلغاً من المال وأخذ منه قصاصة كتب عليها مجموعة من الكلمات والارقام.
أكملنا أنا وأبي جولتنا في السوق واخترت حقيبتى المدرسية و علبة الطعام وقارورة الماء واشتريت أقلام التلوين و الرصاص ودفاتراً ألوانها زاهية واشتريت حذائين ذوا لون أبيض والعديد من بُكلات الشعر البيضاء
بعد هذه الجولة المكوكية بين الأزقة وفى المحلات عدت إلى البيت منهكة واستلقيت على الأريكة في غرفة الجلوس وأنا أقول لأبي وصوتى يلهث من التعب: كل يوم أريد أذهب إلي السوق وشتري أشياءً جميلة
ضحك أبي وهو يقول: ياسلام ثم أنا أذهب بجوار المسجد وأشحث لنأكل.
لم أفهم لماذا قرن الشحاثه بالمسجد وقتها لكن الآن فهمت أن الشحاثته لاتجدى نفعاً إلا بجوار المسجد فالمصلي يخرج وهو خاشعاً يرجو ربه فيصطدم بمن يرجوه إحساناً فيعطى بسخاء لأنه تحت تأثير خشوعه دون أن يفكر هل هذا ممن يستحقون الصدقة؟
*************************************************
أول يوم لى في المدرسة كان مثيراً وغريباً ومحفوراً في ذاكرتى حتى اليوم
دخلت مع أبي إلى المدرسة وكنت ملتصقة به فقد أخبرنى أنه سيدخلنى إلى الصف ثم سيذهب إلى عمله فقد تغيب البارحة ولن يستطيع التغيب اليوم أيضاً كانت مجرد فكرة أنى سأكون فى مكان ما دون أبي أو حتى واحد من إخوتى مخيفة بالنسبة لى .
كنت أدور بنظرى فى أرجاء المكان وجدت أغلب تلاميذ الصف الاول بجوار أمهاتهم أنا الوحيدة التى كان أبي يقف بجوارى أحسست بنظرات النساء ستأكل أبي وأحسست أن أبي كان يحاول أن يدارى وجهه عنهن فالخجل بدء يسيطر على ملامح وجهه انتهى الطابور وجائت احدى المعلمات وسئلت أبي : بأى صف وضعوها؟
أبي: لا أدرى بعد لقد قمت بتسجيلها البارحه ولم يتسنى لى الوقت أن أسئل
المعلمة: ممم مم حسناً لامشكلة سأبحث عن اسمها في كشف الأسماء لكن أعطنى الاسم أولاً
أبي: أنين
المعلمة مستفهمه : رنين؟
أبي : لا أنين أنين حسن
المعملة عقدت حاجبيها مستفهمة مرة أخرى دون أن تنطق حرفاً ليبتسم لها أبي ويعيد الإجابة: أنين حسن أنين بالألف وليس رنين بالراء
لم تعلق المعلمة على الاسم لكن الاستنكار نطق فى ملامحها
ذهب المعلمة لتعود بعد عدة دقائق وتقول لنا : انها في الشعبة الثالثه تعال معى لأرشدك إلى الصف
مشيت متشبثاً بيد أبي ولا أريد أن أفلتها فقد رادونى شعوراً يقول أنه إن فارقت يدي راحت يده سأموت .
طرقت المعلمة الباب ودخلت إلى الصف قبلنا وبعد دقائق خرجت ودعتنا للدخول
دخلت إلى الصف كان ممتلئ بالتلاميذ على اليمين يجلس الذكور وعلى اليسار الإناث وكان هناك عدد من الأمهات يجلس داخل الصف يبدو أنى لست الوحيدة التى تشعر بالخوف
استقبلتنى المعلمة بصوت مرحب : أهلا وسهلا بالطالبة الجديدة ما اسمك
أجبتها وانا أكاد أختفى تمام خلف أبي : أنين
بمجرد أن أنهيت آخر حرف كانت المعلمة قد مسها تيار كهربائي وأجابت بذهول : أنين؟!
أومأت برأسي مؤيدة كلامها
حاولت أن تخفى استغرابها من اسمى الذى بات محط تعجب من الجميع ومدت يدها لتمسكنى من يدى وتجلسنى في أحد المقاعد لكن قوة تمسكى بأبي زادت
أبي: أنا سأجلسها أن مقعدها
وأشارت له المعلمة على المقعد الثالث فى المنتصف .
أجلسنى أبي وأخبرنى أنه سيذهب وسيعود بعد الظهر لأخذى إلى المنزل رفضت بعيني هذا الامر وأعينى تتوسل إليه أن لاتتركنى
اقتربت المعلمة مننا وهى تقول: لماذا لاتأتى والدتها وترافقها في الأسبوع الأول فمن الطبيعي أن تخشى الجلوس في مكان جديد دون أحد والديها
كانت إجابة والدى عليها : لن تستطيع والدتها أن تأتى وأرجو منك عدم سؤالها عنها
لم تسئل المعلمة أى سؤال إضافي لا أدرى هل فهمت لماذا لا تستطيع أمى الحضور أم لا؟
جلس أبي في الصف طوال الحصة الأولى و الثانية وأنا بدئت أستمتع بوجودى فالمعلمة جدُ لطيفه واستطاعت امتصاص خوفي
كان لابد لأبي أن يذهب فقد تأخر كثيراً على عمله ولا ادرى كيف سمحت له بالذهاب على وعد أنه لن يتأخر .
عند جرس الفسحة شعرت بالرعب فأنا لأول مره أسمه صوت هذا الجرس كانت الأجراس التى اعتدت على سماعها هى أجراس المنازل .
بمجرد أن دوى هذا الصوت اكتظت ساحة المدرسة بالبنات و البنين أصوات صراخ من هنا وأصوات ضحكات من هنا أناس يركضون وأناس يأكلون وأنا كنت أقف بجوار أحد الأعمدة الذى كان رفيقى طوال المرحلة الابتدائية اخترت هذا العمود بالذات لأنه بعيد ويسمح لى بمراقبة الجميع ويحمينى من الجميع فقد أصبح جرس المدرسة يعنى الخطر .
كنت أراقبهم من بعيد أراقب لعبهم وأشعر برغبة عارمة بالنزول واللعب معهم لكنى كنت خائفة فكل محاولاتى السابقة في اللعب تنتهى بأن أضرب .
وأنا في حالة مراقبتى للجميع اقتربت منى إمرأة مع ابنتها التى أظن أنى لمحتها في الصف
المرأة: أنين أليس كذلك؟
أومأت برأسي وقلبي ينتفض من الخوف
المرأة : أنتى ابنة أخ نورة أليس كذلك؟
نظرت إليها و الخوف مازال يسكن اطرافي وأنا لا افهم معنى ابنة أخ نورة
المرأة: انتى عمتكى نورة أليس كذلك؟ ألم تعرفيني أنا صديقتها رأيتك كثيراً عندها بالمنزل
لا اعرف لماذا أطرقت رأسي خجلاً هل لأنها تعرفني أم لأنها تعرف عمتى نورة؟
المرأة: لماذا لم تأتى ماما معكي اليوم؟
أجبتها بسجذاة الأطفال : ماما ذهبت عند ربي لكنها ستأتى غداً .لا اعلم مين أضفت ستأتى غداً؟ولماذا من الأساس أضفتها؟ كنت دائماً أجيب على هذا السؤال بأنها عند ربي وفقط
هل وقوف ابنتها بجوارها وكونى وحيدة فى مكان غريب جعلنى أرغب فى عودة أمى غداً؟ أم أن وقوفى يوم الجمعة فى منزلى جدى أبحث عن ظهراً أختبئ وراه ولد الرغبة في وجود أم في حياتى؟
ربتت المرأة على كتفى بحنان ومسحت على شعري برفق وهى تقول:هذى ابنتى رغد فى نفس صفك ما رأيكى أن تكونا صديقتين فهى لاتعرف احداً فى المدرسة .
أحسست بالألفه معها وكسر حاجز الخوف لأجيبها: وأنا أيضاً لا اعرف احد
تركتنا ام رغد وذهبت ترقبنا من بعيد كنت واقفة بجانب رغد صامته لا أدرى ماذا اقول لتقطع رغد صمتى قائلة: هيا نلعب هناك
أنا: لا سأبقى هنا سؤذننا إنهم يركضون بسرعه
تركتنى رغد وذهبت لحيث يلعبن الفتيات وانسجمت سريعاً معهن وبدئت باللعب وأنا لازلت اراقبهن من بعيد
***************************
عند الظهيرة كان الجميع وكأنهم يحفظون اماكنهم كل مجموعة انطلقت فى طريق إلا أنا بقيت على مقعدى أنتظر أبي فقد وضعنى هنا قبل أن يذهب أى بالتأكيد سيأتى لأخذى من هنا لكن المعلمة صفعتنى بقولها أنه يجب أن أخرج من الصف لأنهم سيغلقوه أين سأذهب؟ وكيف سيستدل أبي على مكانى؟
خرجت أتتبع خطى التلاميذ الآخرين ووقفت أمام باب المدرسة ونوبة الخوف عادت لتسكننى كنت خائفة من أن لايجدنى أبي وكنت خائفة من أن يأذينى أحد الصبية وهو يركض .
مرت دقائق الإنتظار كالجمر وعيناى أصبحت كالسد الذي سينفجر من ضغط الماء خلفه ومن بين الزحام أطل أبي تهلل وجهى فرحاً وركضت نحوه ضممته بشدة وأخذت أبكى وأقول له : لا أريد المدرسة
لم يعلق أبي على عبارتى بل حملنى واتجنا نحو السيارة وهو يقول بأسلوب مشوق: حين كنت عائدا كان هناك سيارتان اصطدمتا ببعض
رغم بكائي إلا أنى سئلته كيف؟
ابتسم أبي ابتسامة غريبه ليست بابتسامة الحنان المعتادة وقال: سأخبرك كيف حدث فى الطريق
ونسيت تماماً مع حديثه انى قلت له لا أريد المدرسة بل انسجمت كثيراً مع حكايته التى أخبرنى حين كبرت قليلاً أنها اختلقها ليشغل تفكيري عن خوفي .
*****************************
في المساء كان على أبي أن يعود لعمله مرة أخرى لكنه وقع فى مشكلة لم تكن في الحسبان أين سيضعنى فترة المساء؟ عمتى نورة؟ لايضمن وجودها كل يوم في المنزل
أعمامي؟ لا أظن أنه بعد الجلسة الساخنه تلك سيرحب أحداً منهم باستضافتى كل مساء عنده
ما العمل إذاً .
يا آلله كم كنت مصدر قلق لأبي وكتلة ازعاج فى حياته لكن ليس الأمر بيدي لم أرغب أن أكون هماً ثقيلاً على قلبه لكنه قدره وقدرى .
قدرى أن اهدي له فرحة أنه أب لأنثى و أهدية غصة مرض أمي .
كان من الصعب عليه أن يستأذن من عمله لذا قرر أن يستغيث بحسان ليجالسنى حتى يعود هو من عمله
كنت مصدراً إزعاج له ليس فقط في مشكلة جليس المساء بل أيضاً في الصباح كنت اتعبه في تسريح شعري أريد أن أكون مثل باقى قريناتى لكنه لكم يكن يجيد غير (ذيل الحصان) .
مرت سنوات الدراسة دون أى مغامرات لكنها علمتنى كيف أحيك القصص الخيالية لأبي فقد كنت أحكي له كيف اليوم لعبت في باحة المدرسة و كيف أنى قمت بإحداث الفوضى مع صديقاتى وعوقبنا بأن نظفنا الباحة وحدنا.
لكن الحقيقة أنى كنت أذهب إلى المدرسة لألتصق بكرسي حتى آخر النهار كنت خالية من الصدقاء إلا رغد التى فرضت صداقتها على بالقوة بل أصبحت صديقة لى فى المنزل أيضاً, كانت تلك الحكايا التى كنت أحكيها ماهى إلا ماكنت أود أفعله لكن الكثير في داخلى يمنعنى.
مرت أول سنة وجاء الصيف وعاد إخوتى كنت فرحةً بعودتهم كثيراً فكان لدى الكثير لأحكيه لهم .
*********************************************
مرت السنوات سريعاً وكبرت وكبرت الفجوة بينى وبين إخوتى ابتعادهم عنا طوال هذه الفترة جعل العلاقة بيننا باردة نعم لازلت أحبهم ولازالو يبادلوننى نفس الشعور لكن هذا الشعور ليس بنفس دفئه السابق .
كنا قد ابتعنا منزلاً جديد وخصص أبي لكل واحد من إخوتى شقته الخاص كما أنهم أصبحو أطباء في مشفىً خاص.
وتزوج إخوتى من بنات عمي وأصبح لكل واحد منهم حياته الخاصه أصبحنا نلتقى مصادفة إما على السلالم أو على باب المنزل لم يكن يجمعنا إلا طاولة العشاء ليلة الخميس و سفرة الغداء في بيت جدي كل جمعة .
كنت قد بدئت أكبر من كل النواحي أفكارى مشاعرى جسدي ولأنى أصبحت شبه وحيدة و الفراغ كان كبيراً فأبي مساءً فى العمل و بنات عمي ليس لديهن الوقت لطفلةٍ فى الثانية عشراً من عمرها لديها الكثير من الأسئلة تحتاج إلى أجوبة فكنت أبحث عن أجوبة لأسئلتى داخل أوراق الكتب . أصبحت أعشق القراءة وأقرء كل مايقع تحت يدي من كتب وجرائد وكنت أجد نفسي أكثراً فى الشعر كم استمتعت وأنا أقرء أشعار أحمد شوقى وحافظ إبراهيم كنت أتلذذ حين أحفظ قصيدة وأرددها على مسامع أبي كان يشجعنى على القراءة كثيراً ويكافئنى كلما حفظت قصيدة جديدة لكن هناك شيئٌ في داخلى لايرغب بهدية كان داخلى نقص في عاطفة الأمومة رغم أن كنت ولازلت مؤمنة أنه لو كان لدى أم لن أحبها أكثر من أبي لكن هناك أمور فى حياة الفتاة تحتاج لأنثى مثلها لتستمع إليها وبدئت المشاعر المرهفة و الرومانسية تتسلل إلى قاموس مفرداتى بصمت .
حين أكملت الصف الثامن وحصلت على الامتياز كعادتى ليس لأنى أحب الدراسة مثلاً ولكن لم يكن لدى اهتمامات غير أن أدرس وأقرء الكتب فلم أكن من هواة التلفاز او متابعة المغنيين والممثلات .
بمناسبة نجاحى أهدانى أبي جهاز حاسوب وفى ذاك الوقت كانت ثورة الشبكة العنكبوتية في أوجها وبالطبع كان مع الجهاز شبكة انترنت وكان أبي القبطان فى رحلة الابحار فى هذا العالم الجديد و الممتع بالنسبة لى علمنى أن أدخل إلى مواقع الأدب الشعر و الروايات وكان قد خصص وقتاً معين يكون فى حضوره للدخول إلى الشبكة العنكبوتية لكن لكثرة إنشغالاته وكثرة مشاكلة بين إخوته وعمله بدئت الساعات تزيد بعلمه أو دون علمه وأصبحت أكمل دراستى لأنطلق في عالم الإنترنت لم يبقى موقعٌ أدبي لم أسجل فيه وأبحر لم يبقى شاعر معروف أو مغمور إلا كنت من المتابعين له وفى غمرة انغماسي فى عالم الشعر و القصص عثرت بالمصادفة على بيت حفر فى قلبي قبل عقلى كان أحد رواد المنتدي الادبي الذى كنت لا افارقه قد أدرجه في أحد ردوده أخذت أقرء أسطرها بنهم وجوع شديد للقراءة
أنا وحدي
دخان سجائري يضجر
ومني مقعدي يضجر
وأحزاني عصافيرٌ …
تفتش – بعدُ – عن بيدر
عرفت نساء أوروبا …
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب …
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر …
على امرأة تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها …
إليَّ عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
أيا أمي …
أيا أمي …
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره …
تعيش عروسة السكر
فكيف … فكيف يا أمي
غدوت أباً …
ولم أكبر …
كم أحببت هذه الكلمات وكأنها لامست جرحاً في قلبي لم يدمل. أخذت أبحث عن شاعرها حتى وجدته وياليتنى لم أجده فلقد أصبحت مدمنة له أصبحت كل مفرداتى له حتى حين بدئت أكتب كنت أكتب على قافيته لا اعلم لماذا هل لأننى أحببت أحرفه؟ أم لأنى وجدت قافيته سهله لطفلة فى عمري؟
وبدئت أذيل ردودي فى منتديات الادب بكلماته وقصائده لأفتح على نفسي باباً كنت أجهل وجوده أصلاً.
أتذكر أنى كنت ألعب مع أبي لعبتى المفضلة
أبي: ثاو على صخر أصم وليت لى ***قلب كهذى الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكارهى *** ويفتها كالسقم في أعضائي
حسناً ابدئي بحرف الياء
أنا : يدك التى حطت على كتفي *** كحمامة نزلت لكى تشرب
عندي تساوى ألف مملكة *** ياليتها تبقى ولا تذهب
أبي وهو منعقد الحاجبين: لمن هذه الأبيات
أجبت بفخر لازلت أتعجب منه كلما نطقت اسمه: انها قصيدة لنزار قبانى اسمها يد انها رائعة جدا
سئلنى أبي بحزم لم أعهده في مواقف مثل هذه: وما الرائع فيها
عدت لنفس موجة الفخر و الإعجاب: كلماتها جداً رائعه يقول فيها الشمس نائمة على كتفى تشابيهه تدخلنى عالم آخر
أبي: وهل قرئتى له شيئاً آخر
ضحكت ببرائه: هل تقصد هل لم أقرء له شيئاً أنا أحفظ اكثر قصائده هل سمعت له خمس رسائل إلى أمي؟ إنها رائعه يكتب لأمه بطريقة رائعه
صمت أبي قليلاً لكننى لم أصمت بل أكملت حديثي ليقاطعنى أبي : هل قرئتى قصيدة الرسم بالكلمات
أطرقت رأسي خجلاً ولم أجب
أبي: هذا ما أريد أن أتحدث عنه لا أنكر أنى من عشاقه أيضاً لكن له اتجاهات تخرج عن الأعراف وله مفردات تخدش الحياء وكثرة قراءة مثل هذه العبارات تنزع الحياء من المرء فيصبح سماعها واستخدامها سائغه له
لا أعلم لماذا إنجرفت أدافع: لكن يا أبي أنا حين تعجبنى قصيدة له وأجد فيها ماتقول أنسخها على جهازي وأقوم بمسح ماهو مخل بالادب
ضحك أبي وأخبرنى: لا أريد المزيد من النقاش ياصغيرتي هذا النقاش منتهى لا مزيد من القراءات له.
صمت أتصنع الموافقه وأنا فى قرارة نفسي رافضة لهذا القرار وبدئت لأول مره فى حياتى أقوم بفعل أشياء في الخفاء أشتري دواوين نزار خفية وأقرئها تحت غطاء السرير ليلاً أو مساءً بعد أن أغلق باب الشقة جيداً بعد خروج أبي .
وكبرت وكبر نزار معى وكبرت معه المشاعر المرهفة وأصبحت حساسة أكثر من ذى قبل وأذنى تركض خلف أى كلمة حانية .
ولأنى أصبحت غارقة حتى النخاع فى عالم الانترنت بدئت أتجاوز الحدود وأتحدث مع الجميع ذكوراً أو إناث كنت وقتها في الثالثه عشراً و نيف وكنت أتحدث مع الجميع بنية صافيه كان كل هدفى من الغوص في عالم الإنترنت هو أن أثري لغتى حتى أصبح كاتبة يشار إليها بالبنان فكانت كل أحاديثتى تتمحور حول مواضيع محددة هل قرئتم قصيدة أحمد مطر؟ أحاديث الأبواب؟ هل رأيتم كيف ربط بين الشحاذ و الباب؟
وبدئت الذئاب تطرق قلبي من هذا الباب هذا يهدينى قصيدة لنزار وهذا يبعث بأبيات لمحمود درويش وآخر يهدينى بطاقة صوتية من أشعار كريم العراقي وبدئت أغوص في هذا العالم أكثر فأكثر حتى غرقت.
لا اعلم ما الذى أشغل أبي عنى لهذا الحد؟ كنت لا أتنفس إلا وهو بجوارى وإخوتى رزقو باأولاد فأصبحت آخر اهتماماتهم.
تعرفت فى احد المواقع على فتىً يسمى عُمر كانت ردوده دائماً تنتهى بهذه الأبيات
أريحيني على صدرك
لأني متعب مثلك
غدا نمضي كما جئنا..
وقد ننسى بريق الضوء والألوان
وقد ننسى امتهان السجن والسجان..
وقد نهفو إلى زمن بلا عنوان
وقد ننسى وقد ننسى
فلا يبقى لنا شيء لنذكره مع النسيان
ويكفي أننا يوما.. تلاقينا بلا استئذان
كان أول حديث خاص بيننا هو لمن هذه الأبيات؟ وياليتنى لم أسئل فقد أعطيته نقطة ضعفي دون أن أدري.
لم يتأخر عن إجابتى فقد أتى رده سريعاً بكامل القصيدة إنها لفاروق جويدة واسمها شيئٌ سيبقى بيننا إقرئيها كاملة انها رائعه سأنتظر رأيك فيها
وبكل سذاجة وبكل ذرة تعشق الشعر في جسدي توجهت للقصيدة وقرئتها أكلتها شربتها امتزجت بها وعدت لأكتب رأي وما أحسست فيها: اخى عمر رائعة القصيدة أحببتها كثيراً هل قرئت حين قال
وجئت إليك لا أدرى لماذا جئت
فخلف الباب أمطار تطاردنى
تخيلت أن المطر إنسان مخيف , عمر هل لديك قصائد آخرى؟ فأنا أحب الشعر كثيراً
عمر: بالتأكيد هناك قصيدة لمحمود درويش أقل مايقال عنها تحفة فنية يقول في أحد أبياتها
و أقسم
من رموش العين سوف أخيط منديلا
و أنقش فوقه لعينيك
و إسما حين أسقيه فؤادا ذاب ترتيلا ..
يمدّ عرائش الأيك .
سأكتب جملة أغلى من الشهداء و القبّل:
"فلسطينية كانت.. و لم تزل!"
أنا : انها رائعه اعطنى اسمها
وكعادته هذا العمر لم يكن يتأخر عني ولا مره بل كان يتفنن في انتقاء القصائد التى تشعلنى شعراً تشعلنى عاطفة وزادت أحاديثنا الخاصة وأصبحنا نتحدث صباحاً ومساءً وفى الظهيرة .
استمرت احاديثنا طويلاً بل أصبح هذا العمر أقرب شخص لي بعد أبي أصبحت أحس أنى أشعر بالراحه و أنا أتحدث معه بل أصبحت أنتظر اوقات تواجده بفارغ الصبر كان أول من يطلع على خربشاتى الصغيرة قبل أن أنشرها بين حوائط المنتديات الأدبيه وكان أول المشجعين لي .
وجاء موعد الثانوية العامة وأعلن أبي أنه سيأخذ جهاز الحاسوب إلى شقة أحد إخوتى حتى ينتهى العام كدت أجن من هذا القرار ستة ٌ أشهر دون عمر؟ دون نزرا قباني محمود درويش احمد مطر فاروق جويدة؟
مابه أبي يحكم علي بالإعدام
رغم أن أبي كان حنوناً ولايستطيع أن يرفض لى طلب اصر هذه المرة على قراره فقد أحس أن هذا الجهاز اللعين أبعدنى عنه فبدلاً من أن أمارس لعبتى المفضلة معه فى أن نتبارز بالأبيات الشعرية أصبحت أفضل البقاء أمام شاشة حاسوبي .
وقررت أن أودع أصدقائي فى العالم الافتراضي الذى أقحمت نفسي بين جدرانه هذا ماكنت أنويه لكن قلبي كان يدق بشدة و يأن لأنى سأفتقد عمراً كثيراً مشاعرى نحوه تغيرت مضى على معرفتنا ببعض سنتين ونيف وفي كل مرة أتحدث معه تخالطنى مشاعر وخفقات لا أفهم معناها وكان هو يغذى هذه الخفقات بالقصائد التى كان ينتقيها أو يكتبها وودعت عمر على عهد أن اللقاء بعد ستة أشهر بالتمام يومها كان حديثى معه مختلفا كنت أوشك أن أقول له أحبك لا أعلم متى تسللت هذه الكلمة لقاموسى ولا أدرى متى اقتنع عقلي أن يقولها لغير أبي؟
واستيقظت في اليوم التالى لأجدهم قد صادرو جهاز الحاسوب أحسست يومها بضيق شديد كدت أجن لن أفتحه لكن ليدعوه في غرفتى أحسست فى تلك اللحظة أن عمر قد خرج من حياتى بمجرد خروج جهاز الحاسوب
يومها طلبت من أبي أن نخرج من المنزل لايهم أين المهم أن أخرج .
كنا قد أحضرنا بعض الشطائر وجلسنا على شاطئ البحر لتمر أمامنا إمرءة معها أطفالها وتتسمر عيناى عليهم كنت أراها تلعب مع أطفالها على الشاطئ تبللهم بالماء ليبادلوها الرشقات كنت أنظر لها كيف تحتضنهم تغمرهم بالماء وتخرجهم وكأنها ستغرقهم وهم يضحكون وهي تبادلهم الضحك
أبي وقد شعر بما يدور فى قلبي احتضننى وهو يضحك : يبدو أننى أصبحت عجوزاً ومجالستى ممله
ضحكت ولازالت عينى تراقب المرأة وأطفالها وقلت لأبي: أحياناً أشعر أنك أب وأم وأشعر أنى أفضل من قريناتى لأنك أقرب لى من أنفاسي لكن فى نفس الوقت تمر بي أوقات أرغب وبشدة أن تكون لى أم.
مسكينٌ أبي لم يستطع أن يجيب على كلامى فاكتفى بأن قال لى : فى نشرة الاحوال الجوية قالو أنها اليوم ستمطر.
ابتسمت له وعدت أراقب المارة و أراقب من على الشاطئ وفكرى مشغول بعمر يالتلك الأسئلة التى دارت فى فكرى من المفترض أن نتحدث سوياً بعد عدة ساعات هل سينتظرنى؟ أم سيجد من يتسلى ويتحدث معه؟ هل سيشتاق لى ؟أم أنى مجرد عابرة سبيل ولا مكانة لى فى قلبه؟
يآه يا أنين ماكل هذه الأسئلة؟ منذ متى أنا افكر فى هذه الأشياء؟ منذ متى وأنتى توجهين مشاعركى فى هذا الطريق؟
لم أجب على تساؤلاتى روحي فقد تركت الصدى يجيب وبقيت منشغلة بالتأمل والبال مشغول.
بدئت السماء ترشنا بقطرات المطر
أبي: هيا بنا قبل أن يشتد المطر
أنا: كلا أرجوك يا أبي أريد البقاء تحت المطر
أبي: أنين سيشتد المطر وأيضاً الجو بارد لقد أصبحت عجوزاً لن احتمل هكذا طقس
ضحكت كثيراً فـلأول مرة ينعت أبي نفسه بالعجوز: أبي أرجوك لست عجوزاً إلى هذا الحد دعنا نبقى تحت المطر قليلاً انها لاتمطر كثيراً وحين تمطر نختبئ؟ أرجوك
ضحك أبي: لست عجوزاً إلى هذا الحد؟تقصدين أنى أصنف من العجائز؟
ضحكت على كلامه دون أن تنجح محاولاتى لكتم ضحكاتى
أبي: حسناً لكن أنا سأبقى داخل السيارة وحين تمرضين لن أذهب بك إلى الطبيب
عدت للضحك من أعماق قلبي على كلامه وأجبته موافقة: حسناً لا تذهب بي إلى الطبيب لكنك ستحضره إلى البيت
أبي: يامحتاله هيا الى السيارة
ووقفت بجوار السيارة وكان أبي يجلس داخلها وبدئت قطرات المطر فى الإزدياد وكنت أقف تحت المطر أغتسل كنت أرغب أن أغسل احتياجي للأم حتى لا أؤلم أبي مرة أخرى .
لأول مرة يكون لقائي بالمطر له رائحة مختلفه . كان المطر يتساقط على وجنتى وأنا أفكر كفتاة ناضجة الجسد وطرية المشاعر كنت أحلق مع المطر فى فضائات وردية كنت أنظر إلى السماء وكأن المطر و السحب يشكلان لوحة رسم فيها وجه عمر كنت أتخيل ملامحه تفاصيل وجهه فلم يسبق لى أنى رأيته و هاهو المطر يرسمه لى قطع أبي لوحة الرسم قبل أن تكتمل ليأمرنى بأن أصعد إلى السيارة لنعود إلى المنزل قبل أن أصاب بنزلة برد.
مواقع النشر