الشافية
أيها الإخوة: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيِّدُ ذلِكَ الْحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِين نَزَلُوا، [يعني أصحاب رسول الله، والرهط: ما دون العشرة من الرجال] لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ؛ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لاَ يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ.. وَاللهِ إِنِّي لأَرْقِي، وَلكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بَرَاقٍ لَكمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً [أي: أجرة] فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعِ مِنَ الْغَنَمِ.
فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ (الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ [أي: فُكَ من حبلٍ كان مشدوداً به]، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ [أي: علة] قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا فَقَالَ الَّذِي رَقَى لاَ تَفْعَلُوا، حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظرَ مَا يَأْمُرُنَا..
فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ" ثُمَّ قَالَ: "قَدْ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا" [اجعلوا لي منه نصيباً] فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. (رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
نعم أحبتي: إنها فَاتِحَةُ الْكِتاب وأُمُّ القرآن، والسبعُ المثاني، والشفاءُ التام، والدواءُ النافع، والرُّقيةُ التامة، ومفتاحُ الغِنَى والفلاح، وحافظةُ القوة، ودافعةُ الهمِ والغمِ والخوفِ والحُزْنِ لمن عرفَ مِقْدارَها، وأعطاها حقَّها، وأحسنَ تنزيلها على دَائِه، وعَرَفَ وجهَ الاستشفاءِ والتداوي بها، والسرَّ الذي لأجلِه كانت كذلك. هكذا وصفها ابن القيم -رحمه الله- بكتابه زاد المعاد..
وقال أيضاً -رحمه الله- في مدارج السالكين: تشتمل الفاتحةُ على الشفائين: شفاءُ القلوب وشفاءُ الأبدان. فأما اشتمالها على شفاءِ القلوبِ فإنها اشتملت عليه أتمَ اشتمال؛ فإن مدارَ اعتلالِ القلوبِ وأسقامِها على أصلين: فسادُ العلم، وفسادُ القصد، ويترتبُ عليهما داءان قاتلان وهما الضلالُ والغضبُ.
فالضلالُ نتيجةُ فسادِ العلم، والغضبُ نتيجةُ فسادِ القصد، وهذان المرضان هما ملاكُ أمراضِ القلوبِ جميعُها؛ فهدايةُ الصراطِ المستقيمِ تتضمنُ الشفاءَ من مرضِ الضلال.. ولذلك كان سؤالُ هذه الهدايةَ أفرضَ دعاءٍ على كلِ عبدٍ وأوجبَه عليه كلَ يومٍ وليلةٍ في كلِ صلاةٍ؛ لشدة ضرورتِه وفاقتِه إلى الهداية المطلوبة، ولا يقوم غيرُ هذا السؤالُ مقامَه..
والتحقيقُ بإياك نعبد وإياك نستعين علماً ومعرفةً وعملاً وحالاً يتضمن: الشفاءَ من مرضِ فسادِ القلبِ والقصدِ..
وأما تضمُنُها لشفاءِ الأبدانِ فنذكر منه ما جاءت به السنة، وما شهدت به قواعدُ الطبِ ودلت عليه التجرُبُة.
فأما ما دلت عليه السنة: فقد تقدم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن ناساً من أصحابِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مروا بحيٍ من العربِ" فذكر حديثَ الرقيةِ بالفاتحةِ السابق"..
ثم قال -رحمه الله-: "وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أموراً عجيبة، ولاسيما مدةَ المقامِ بمكة، فإنه كان يعرضُ لي الآمٌ مزعجةٌ بحيثُ تكادُ تقطعُ الحركةَ مني، وذلك في أثناءِ الطوافِ وغيرِه؛ فأبادرُ إلى قراءةِ الفاتحةِ وأمسحُ بها على محلِ الألمِ فكأنه حصاةٌ تسقطُ، جربت ذلك مراراً عديدة، وكنت آخذُ قَدَحَاً من ماءِ زمزمَ فأقرأ عليه الفاتحةَ مراراً فأشربه فأجدُ به من النفعِ والقوةِ ما لم أعهدْ مثله في الدواءِ، والأمرُ أعظمُ من ذلك ولكن بحسبِ قوةِ الإيمانِ وصحةِ اليقينِ، والله المستعان".
وقال أحد طلاب العلم: أتحدى من عنده مرضٌ ثم أخذ ماءَ زمزمَ أو ماءً عادياً وقرأ فيه سورةَ الفاتحةِ سبعاً ثم شربه بنية صادقة أن يصيبه بأس..
وقال آخر: أصابني مرض بجنبي وذهبت لسبعِ مستشفياتٍ كبارٍ فقال لي أكبرها وأشهرها لا ندري ما مرضك.! ثم رجعت للرقية بالفاتحة بماء زمزم فتعافيت ولله الحمد..
سورة الفاتحة أيها الإخوة: أفضلُ سورةٍ في القرآن قال ذلك: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَد قَالَ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه: "أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا؟" قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ" (رواه الترمذي وصححه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه).
وقَالَ اللهُ –تَعَالى- على سبيل المنة على رسوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر:87]، وكذلك سَمَّاها رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَمَا دَعَا أَبَا سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى رَضيَ اللهُ عَنهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ». قَالَ أَبِو سَعِيدِ: ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ: «(الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) [الفاتحة:2] "هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» (رواه البخاري).
قال العلماء: وسُمِّيَتْ السَّبْعُ المَثَانِي لِأَنَّهَا تُثَنَّى كُلّ رَكْعَة أَيْ تُعَاد, وَقِيلَ لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى, وَقِيلَ لِأَنَّهَا اُسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّة ولَمْ تُنْزِل عَلَى مَنْ قَبْلِهَا..
أيها الإخوة: إن سورةَ الفاتحةِ متضمنةٌ لأنفعِ الدعاء.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "تأملت أنفعَ الدعاءِ، فإذا هو سؤالُ العونِ على مرضاتِه، ثم رأيته في الفاتحةِ في قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) انتهى.
وبالجملة: فسورة الفاتحةِ مفتاحُ كلِ خيرٍ وسعادةٍ في الدارين.. أسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن يعرفُ فضلَ هذه السورة ويتحققُ له ما فيها من خير وصلاح.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد....
الخطبة الثانية:
هذه السورةُ العظيمةُ على قدرِ ما نرددُها ونسمعُها إلا أن كثيراً منا لم يقفْ على معانيها وفضلِها، ولذلك فاتنا خيرٌ كثيرٌ بسبب هذا التقصير..
قال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: "ومَن ساعدَه التوفيقُ، وأُعينَ بنورِ البصيرةِ حتى وقفَ على أسرارِ هذه السورة، وما اشتملت عليه مِنَ التوحيدِ، ومعرفةِ الذات والأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ، وإثباتِ الشرعِ والقَدَرِ والمعادِ، وتجريدِ توحيدِ الربوبيةِ والإلهيةِ، وكمالِ التوكلِ والتفويضِ إلى مَن له الأمرُ كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجعُ الأمرُ كُلُّه، والافتقارُ إليه في طلبِ الهدايةِ التي هي أصلُ سعادةِ الدارين، وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلبِ مصالحِهما، ودفعِ مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقةَ التامةَ، والنعمةَ الكاملةَ مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحققِ بها، أغنته عن كثيرٍ من الأدويةِ والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابَه، ودفع بها من الشرِ أسبابَه.
وهذا أمرٌ يحتاجُ استحداثَ فِطرةٍ أُخرى، وعقلٍ آخر، وإيمانٍ آخر، وتاللهِ لا تجدُ مقالةً فاسدةً، ولا بدعةً باطلةً إلا وفاتحةُ الكتابِ متضمِّنةٌ لردِها وإبطالِها بأقرب الطُرُقِ، وأصحِّها وأوضحِها، ولا تجدُ باباً من أبوابِ المعارفِ الإلهيةِ، وأعمالِ القلوب وأدويتِها مِن عللِها وأسقامِها إلا وفى فاتحةِ الكتابِ مفتاحُه، وموضعُ الدلالةِ عليه، ولا منزلاً من منازلِ السائرين إلى ربِّ العالمين إلا وبدايتُه ونهايتُه فيها.
ولعَمْرُ اللهِ إنَّ شأنَها لأعظمُ من ذلك، وهى فوقَ ذلك. وما تحقَّق عبدٌ بها، واعتصمَ بها، وعقلَ عمن تكلَّم بها، وأنزلها شفاءً تاماً، وعِصمةً بالغةً، ونوراً مبيناً، وفهمها وفهمَ لوازمَها كما ينبغي ووقعَ في بدعةٍ ولا شِركٍ، ولا أصابَه مرضٌ من أمراض القلوب إلا لِماماً، غيرَ مستقرٍ.
هذا.. وإنها المفتاحُ الأعظمُ لكنوزِ الأرض، كما أنها المفتاحُ لكنوزِ الجَنَّة، ولكن ليس كلُ واحدٍ يُحسنُ الفتحَ بهذا المفتاحِ، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سرِ هذه السورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاحِ أسناناً، وأحسنُوا الفتحَ به، لوصلوا إلى تناولِ الكُنوزِ من غير مُعَاوِقٍ، ولا ممانعٍ".
ثم قال -رحمه الله-: ولم نقلْ هذا مجازفةً ولا استعارةً؛، بل حقيقةً، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغةٌ في إخفاءِ هذا السرِ عن نفوسِ أكثرِ العالَمين، كما لَه حكمةٌ بالغةٌ في إخفاءِ كنوزِ الأرضِ عنهم. والكنوزُ المحجوبة قد استُخدمَ عليها أرواحٌ خبيثة شيطانية تحولُ بين الإنس وبينَها، ولا تقهرُها إلاَّ أرواحٌ عُلْوية شريفةٌ غالبةٌ لها بحالها الإيماني، معها منه أسلحةٌ لا تقومُ لها الشياطين، وأكثرُ نفوسِ الناسِ ليست بهذه المَثابةِ، فلا يُقاوِمُ تلك الأرواحَ ولا يَقْهَرُها، ولا ينالُ من سلبِها شيئاً، فإنَّ مَن قتلَ قتيلاً فله سلبه..
وبعد أحبتي: هذه الفاتحة بجانب من جوانبها حري بنا أن نعي فضلها، وأثرها ونطلع على تفسيرها، ونُعَلِّمَ أهلنا هذا الفضل والأثر والتفسير، ونعمل بها بصدق وإيمان وثقة بالله لنجني آثارها وفوائدها.. فهل نفعل نرجو ذلك.
الشيخ عبد الله بن على الطريف حفظه الله
مواقع النشر