[color=FF1493]غزوة حنين[/color]
ولما فتح رسول اللّه (ص) مكة، مكث فيها خمسة عشر يوماً يدبّر أمرها ويبعث السرايا منها، فلما أراد مغادرتها جعل عليها (عتاب بن اسيد) لإدارة اُمورها وإقامة الصلاة بالناس، وكان ـ على قول ـ ابن إحدى وعشرين سنة، فأقام بها أميراً على مكة حتى قبض رسول اللّه (ص).

كما وعين (معاذ بن جبل) لتعليم الناس القرآن وأحكام الإسلام.

ثم خرج (ص) منها أوائل شوال في اثني عشر ألف رجل: عشرة آلاف ممن كانوا معه، وألف رجل من بني سليم، وألف رجل من مزينة، واتجه بهم إلى منطقة حنين، وحنين واد جنب ذي المجاز على مقربة من الطائف، وبينها وبين مكة ثلاث ليال.

وذلك بعد أن عقد اللواء الأكبر ودفعه الى علي (ع) إضافة الى الرايات التي كانت معهم حين دخول مكة وفتحها.

وسبب هذه الغزوة: ان اللّه لما فتح على رسوله (ص) مكة إنصاعت له قبائل العرب كلها وأسلموا، إلاّ (هوازن) و(ثقيف) فإنهم عتوا عن أمر رسول اللّه (ص) وفكّروا في اجتياح المسلمين والإغارة عليهم، فاجتمعوا وجمعوا الجموع والسلاح وقالوا: إن محمداً قاتله قوم لم يحسنوا القتال ولم يكن لهم علم بالحرب فغلب عليهم، ونحن اُولوا بصيرة في الحرب وتجربة في القتال، فسوف نغلبه.

ثم عزموا على قصده قبل أن يقصدهم، وقالوا: قبل أن يظهر ذلك منه سيروا إليه.

فقصدوا جانب المسلمين بعد أن اجتمعت هوازن وثقيف كلها، وكان على هوازن رئيسهم مالك بن عوف النصرى، وعلى ثقيف رئيسهم قارب بن الأسود، واتفق معهما نضر وجشم وسعد بن بكر وناس من بني هلال.
هوازن وشيخ بني جشم

ثم خرجوا جميعاً بأموالهم وأولادهم ونسائهم لئلا يفروا وليكون ذلك أدعى لهم للحرب وللإستماتة من أجلها، وكان فيهم دريد بن الصمة الجشمي رئيس بني جشم وكان شيخاً كبيراً قد ذهب بصره من الكبر، وكان صاحب رأي وتدبير وله معرفة بالحروب، فساروا حتى انتهوا إلى أوطاس، فلما نزلوا بأوطاس اجتمع الناس، وفيهم دريد بن الصمة، فلما نزل قال: في أي وادٍ أنتم؟

قالوا: بأوطاس.

قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس.

ثم قال: مالي أسمع رُغاء البعير وخوار البقر ونهاق الحمير وثغاء الشاء وبكاء الصغير؟

قيل له: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ليقاتل كل أمريء عن نفسه وماله وأهله فيكون أشد لحربه.

فقال دريد: راعي ضأن ورب الكعبة ماله وللحرب؟

ثم قال: أين مالك؟ فدعي له.

فقال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك وانك تقاتل رجلاً كريماً وان هذا اليوم له ما بعده من الأيام، ثم مالي أسمع رُغاء البعير وخوار البقر ونهاق الحمير وغثاء الشاء وبكاء الصغير؟

قال: قد سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، أردت ان اجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم.

قال: راعي ضأن واللّه، وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك الاّ رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.

ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟

قالوا: لم يشهدها منهم أحد.

قال: غاب الجد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟

قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر.

قال: ذلك الجذعان لا ينفعان ولا يضران.

ثم التفت إلى مالك وقال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن في نحور الخيل شيئاً، ارفعهم الى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم، ثم الق الصبأة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وان كانت عليك ألفاك ذلك وقد احرزت أهلك ومالك.

قال: لا واللّه لا أفعل، انك قد كبرت ووهن عقلك، واللّه لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكأنّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي.

قالوا: أطعناك.

قال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم أغب عنه، ثم قال:

(يا ليتــني فـيــها جــذع أخـــبّ فيــها وأضــع)

(أقود وطفــاء الـــزمــع كــأنها شــــاة صــدع
)

عيون هوازن والمسلمين

وبعث مالك بن عوف عيوناً من رجاله فأتوه مرعوبين مذعورين فقال: ويلكم ما شأنكم؟

قالوا: رأينا رجالاً بيضاً علي خيل بلق، واللّه ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى.

ولما سمع بهم النبي (ص) بعث إليهم عبد اللّه بن أبي حدود الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس، فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول اللّه (ص) فأتاه وأخبره الخبر، وقال: سمعت مالك بن عوف رئيسهم يخطب على هوازن ويقول: يا معشر هوازن انكم احدّ العرب واعدّه، وان هذا الرجل لم يلق قوماً يصدقونه القتال، فإذا لقيتموه فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد.

الاستعداد لمواجهة هوازن
فلما أجمع رسول اللّه (ص) المسير الى هوازن، ذكر له ان عند صفوان بن اُمية أدراعاً وسلاحاً، فأرسل (ص) اليه ـ وهو يومئذ مشرك ـ فقال (ص): يا أبا اُمية أعرنا سلاحك هذا نلقي فيه عدونا.

فقال: أغصباً يا محمد؟

فقال (ص) : بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك.

قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، وقيل: أربعمائة، فلبس رسول اللّه (ص) درعين منها ولبس المغفر والبيضة أيضاً.

ثم خرج رسول اللّه (ص) عامداً إلى حنين راكباً بغلته البيضاء دلدل وهو يسير خلف جيشه ليتدارك ضعيفهم والمنقطع منهم وكانوا اثني عشر ألفاً، وكان جيش العدو أربعة آلاف رجل.

ولذلك قال بعضهم لما رأى كثرة عددهم وقلّة عدوهم: لو لقينا بني شيبان ما بالينا، لن نغلب اليوم من قلة، فشقّ ذلك على رسول اللّه (ص) غير انه لم يبدها لهم ولم يقل لهم شيئاً، فانتصر اللّه له فأنزل فيهم:

(لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)(1).

وكان قد خرج مع رسول اللّه (ص) ناس من المشركين منهم صفوان بن اُمية، فلما كان عشية ذلك اليوم جاء فارس فقال: يا رسول اللّه إني طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم.

فتبسم رسول اللّه (ص) وقال: تلك غنيمة للمسلمين غداً إن شاء اللّه.

ثم قال: من يحرسنا الليلة؟

قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول اللّه.

قال (ص) : اركب . فركب فرسا له، فقال (ص): استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه. ففعل. فلما أصبح جاء وقال: طلعت الشعبين كلاهما فلم أر أحداً.

فقال له رسول اللّه (ص): هل نزلت الليلة؟

قال: لا إلاّ مصلياً أو قاضي حاجة.

فقال رسول اللّه (ص) : فلا عليك أن تعمل عملاً بعد هذا.

في وادي حنين

فلما انتهى النبي (ص) الى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال وكان قد سار إليها يوم السبت لست خلون منه، كان قد سبقهم مالك بن عوف فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي وفرقهم في الطرق والمداخل وحرضهم على قتال المسلمين وأمرهم أن يكمنوا لهم ويرشقوهم أول ما طلعوا ويحملوا عليهم حملة واحدة وقال: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدّة واحدة.

فلما كان وقت السحر واندلع الفجر عبأ رسول اللّه (ص) جيشه بعد أن صلى بهم صلاة الفجر وعقد ألويته والرايات وفرقها على الناس ودفع اللواء الأكبر الى علي (ع) ثم انحدروا نحو الوادي وكانت بنو سليم على مقدمتهم.

قال جابر بن عبد اللّه: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في وادٍ من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحداراً، وذلك في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأخبائه ومضايقه، وقد أجمعوا وتهيأوا، فواللّه ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب بايديها السيوف والعمد والقنى، قد شدوا علينا شدة رجل واحد، فانكشف الناس راجعين لا يلوي أحداً على أحد.

وانحاز رسول اللّه (ص) ذات اليمين ثم قال: إليّ أيها الناس هلم اليّ، أنا رسول اللّه، أنا محمد بن عبد اللّه، والناس يفرّون لا يلوون على شيء.

فلم يبقَ مع رسول اللّه (ص) الاّ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، منهم وفي طليعتهم علي بن ابي طالب (ع) وأخوه عقيل والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث واُسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وقتل يومئذ ورسول اللّه (ص) مصلت سيفه في المجتلد وهو على بغلته البيضاء دلدل، وعلي (ع) بين يديه يضرب وجوه الناس ويردّهم عنه.
صاحب المواطن المشهورة
قال الفضل بن عباس: التفت العباس حين انقشع الناس عن بكرة أبيهم يوم حنين فلم يرَ علياً (ع) فقال لي: أفي مثل هذه الحال يرغب ابن ابي طالب بنفسه عن رسول اللّه (ص) وهو صاحب المواطن المشهورة؟

فقلت: يا أبة نقّص قولك لابن أخيك.

قال: ما ذاك يا فضل؟

قلت: أما تراه يقاتل في الرعيل الأول، أما تراه يناجز في الرهج؟

قال: أشعره لي يا بني.

قلت: هو ذو كذا وكذا ذو البردة.

فأمعن النظر اليه وقال: فما تلك البرقة؟

قلت: سيفه يزيل به بين الأقران.

فقال: برّ بن برّ، فداه عم وخال.

قال: فضرب علي (ع) يومئذ أربعين مبارزاً كلهم يقدّه حتى انفه فيموت من فوره.
شيبة يعلن إسلامه
وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: لما رأيت رسول اللّه (ص) يوم حنين وقد انكشف عنه أصحابه ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت: أدرك ثاري اليوم من محمد، فذهبت لأجيئه عن يمينه فاذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة، يكشف عنها العجاج، فقلت في نفسي: عمه ولن يخذله.

ثم جئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت في نفسي: ابن عمه ولن يخذله.

ثم جئته من خلفه فلم يبق لي إلاّ أن اسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق، فخفت ان يمحشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقهرى.

فالتفت اليّ رسول اللّه (ص) وقال: يا شيب يا شيب، اُدنُ مني، ثم قال (ص): اللّهمّ أذهب عنه الشيطان.

قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحبّ إليَّ من سمعي وبصري.

وقال (ص) : يا شيب قاتل الكفار. ثم اخبرني بما اضمرته في نفسي. فاستحييت واعتذرت منه وأسلمت على يديه.

كرٌّ بعد فرّ

ولما رأى رسول اللّه (ص) هزيمة القوم عنه، قال لعمه العباس وكان رجلاً جهورياً صيّتاً: يا عم نادِ بالقوم، وذكّرهم العهد.

فنادى العباس بأعلى صوته: يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلي أين تفرون؟ اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول اللّه (ص).

والقوم على وجوههم قد ولّوا مدبرين. عندها رفع رسول اللّه (ص) يديه نحو السماء وقال: (اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان).

فنزل جبرئيل فقال: يا رسول اللّه دعوت بما دعا به موسى حيث فلق له البحر، ونجّاه من فرعون.

ثم التفت رسول اللّه (ص) الى أبي سفيان بن الحارث وقال: ناولني كفاً من حصى، فناوله فرماه في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه، ثم رفع رأسه نحو السماء وقال: اللّهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد، وان شئت أن لا تعبد، لا تعبد.

فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبيك، وكانت ليلة ظلماء ورسول اللّه (ص) في الوادي والمشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي وجنباته ومضايقه مصلتين سيوفهم وعمدهم وقسيّهم.

قال الراوي: فنظر رسول اللّه (ص) ببعض وجهه في الظلماء فأضاء كأنه القمر ليلة البدر ثم نادى المسلمين: أين ما عاهدتم اللّه عليه؟

فأسمع أولهم وآخرهم، فلم يسمعها رجل إلا رمى بنفسه إلى الأرض وانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي، حتى لحقوا بالعدوّ فقاتلوه، وكان علي(ع) قد قتل حامل رايتهم: أباجرول وخذل القوم بقتله وولّوا منهزمين.

قال جابر بن عبداللّه: ما رجعت راجعة الناس حتى وجدوا الاُسارى مكتفين بين يدي رسول اللّه (ص) وهو يقول: اللّهمّ إنك أذقت أول قريش نكالاً، فأذق آخرها نوالاً.
هوازن تنهزم
ولما قتل أبو جرول وخذل القوم بقتله، وضع المسلمون سيوفهم فيهم حتى قتل من القوم كثير والنبي (ص) ينظر إلى قتالهم ويقول: الآن حمي الوطيس ـ كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب وهي من أحسن الإستعارات، وكان النبي (ص) أول من قالها ـ.

ثم كانت الهزيمة والأسر حينئذ وجيء بالأسرى إلى رسول اللّه (ص) مكتفين، وكان أبوسفيان صخر بن حرب بن اُمية في هذه الغزوة، فانهزم في جملة من المسلمين، فالتقى به ابنه معاوية وتلاوما على ما ارتكباه من الهزيمة، ثم وقف فاجتمع معه الناس من أهل مكة، ثم رجعوا وأعادوا الكرة عليهم، وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي:

لم يـواس النـبي غير بنــــي هاشم عنـــــد الســـــيوف يــوم حنـــين

هرب الناس غير تســـــــعة رهط فهــــمُ يهتـــفون بالنـــاس أيـــن؟

ثم قـاموا مـع النــبــي على الموت فـأتــــوا زيـــنــاً لنـــا غيـر شين

وقال العباس بن عبد المطلب عم النبي (ص) في ذلك أيضاً:

نصرنا رسول اللّه فــي الحرب تسعة وقـــد فــرّ مــن قـد فرّ عنه فأقشعوا

وقولــي إذا ما الفضــــل شــدّ بســيفه على القوم اخـــرى يـا بنيّ ليرجعوا

وعن البراء بن عازب أنه قال رجل: يا أبا عمارة أفررتم عن رسول اللّه (ص) يوم حنين؟

فقال : لكن رسول اللّه (ص) لم يفر، ان هوازن كانوا قوماً رماة، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس، فلقد رأيت رسول اللّه (ص) على بغلته البيضاء فنزل واستنصر وقال: اللّهمّ أنزل نصرك، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته.

قال البراء : وكنا واللّه إذا احمر البأس نتّقي برسول اللّه (ص).
مغانم حنين
ولما نصر اللّه تعالى نبيّه (ص) يوم حنين على المشركين، وانهزم المشركون، وقع منهم في أيدي المسلمين غنائم كثيرة وسبي كثير، قيل: إن السبي كان أربعة آلاف رأس، وقيل: ستة آلاف رأس، ومن الإبل اثني عشر ألفاً، وقيل: أربعة وعشرين ألفاً، سوى ما لا يعلم من الغنائم.

وقد استجاب اللّه لنبيّه (ص) حيث كان يدعوه ويقول: (اللّهمّ انّك أذقت أول قريش نكالاً، فأذق آخرها نوالاً).

فإن تفريق رسول اللّه (ص) بين قريش الغنائم أغنى قريشاً وأثراهم، وقد خلّف رسول اللّه (ص) الأنفال والأموال والسبايا كلها بالجعرانة حتى يفرغ المسلمون من عدوّهم، وولى عليها بديل بن ورقاء الخزاعي. فلما فرغ رسول اللّه (ص) من حنين والطائف قسم الغنائم بينهم وذلك على ما سيأتي
.

سرية أبي عامر إلى أوطاس
فلما فضّ اللّه تعالى جمع المشركين بحنين تفّرقوا فرقتين، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف، فبعث رسول اللّه (ص) أبا عامر الأشعري على جيش فيهم أبو موسى الأشعري إلى أوطاس، وذلك لملاحقة الأعراب ومن تبعهم بها، فلما بلغها هو ومن معه تقدم بالراية وقاتل حتى قتل دونها.

فقال المسلمون لأبي موسى: أنت ابن عمّ الأمير وقد قتل، فخذ الراية مكانه حتى نقاتل دونها، فأخذها أبو موسى فقاتل المسلمون دونها حتى فتح اللّه عليهم، ورجعوا إلى رسول اللّه (ص) بالسبي والغنائم فاتحين.

فأمر رسول اللّه (ص) بضمها إلى غنائم حنين وسبيها، وذلك في الجعرانة.

وقيل: انه قال أبو موسى: كنت مع أبي عامر فرمى أبو عامر في ركبته فانتهيت إليه فقلت: يا عم من رماك؟

فأشار إلى الذي رماه وقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدته فلحقته، فلما رآني ولّى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل اللّه صاحبك.

فقال: يابن أخي اقرء النبي (ص) منّي السلام وقل له يستغفر لي.

ثم قال أبو موسى: واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي (ص) في بيته فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وأنه قال قل له يستغفر لي، فدعا (ص) بماء فتوضّأ ثم رفع يديه ودعا له بالمغفرة.

وقيل: انه استشهد من المسلمين يوم حنين أربعة نفر منهم أيمن بن اُم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن الحارث رجل من الأنصار وأبو عامر الأشعري الذي قتل في أوطاس، وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلاً.
سرية أبي سفيان إلى الطائف

كما وبعث رسول اللّه (ص) أبا سفيان صخر بن حرب إلى الطائف لملاحقة ثقيف ومن تبعهم الذين لجأوا إليها، فلما بلغها هو ومن معه لقيته ثقيف فضربوه على وجهه فانهزم ورجع إلى النبي (ص) يقول: بعثتني يا رسول اللّه (ص) مع قوم لا يرفع بهم الدلاء من هذيل والأعراب، فسكت عنه رسول اللّه (ص) ولم يقل له شيئاً، وعزم على أن يسير إلى الطائف بنفسه.



1 ـ التوبة: 25.