نكمل الحديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم
ومكث النبي – صلى الله عليه وسلم - في مكّة يتربّى في أحضان والدته ،
ولما بلغ عمره ست سنين توفيت أمه في قريةٍ يُقال لها " الأبواء "
بين مكّة والمدينة ، فعوّضه جدّه عبدالمطلب حنان والديه ، وقرّبه
إليه وقدّمه على سائر أبنائه ، وفي يومٍ من الأيام أرسل عبدالمطلب
النبي – صلى الله عليه وسلم – للبحث عن ناقة ضائعة ، فتأخّر في العودة
حتى حزن عليه جدّه حزناً شديداً ، فجعل يطوف بالبيت وهو يقول :
رب رد إلي راكبي محمدا رده رب إلي واصطنع عندي يدا
ولما عاد النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له : " يا بني ، لقد جزعت عليك
جزعاً لم أجزعه على شيء قط ، والله لا
أبعثك في حاجةٍ أبداً ، ولا تفارقني بعد هذا أبداً " .
واستمرّت هذه الرعاية طيلة سنتين حتى توفّي عبدالمطلب
وللنبي – صلى الله عليه وسلم – ثمان سنين ، فكفله عمّه أبو طالب
وقام بحقه خير قيام ، وقدمه على أولاده ،
واختصّه بمزيد احترام وتقدير ، ولم يزل ينصره ويبسط عليه حمايته ، ويُصادق ويُخاصم من أجله طوال أربعين سنة ،
حتى توفّي قبيل الهجرة بثلاث سنين .
ومن هنا نرى كيف توالت الأحزان في طفولة النبي - صلى الله عليه وسلم – وتركت
أثرها في قلبه ، وهو جزءٌ من
التقدير والحكمة الإلهيّة في إعداد هذا النبي الكريم ؛ حتى لا يتأثّر بأخلاق الجاهلية القائمة على معاني الكبر
والاستعلاء ، فكانت تلك الأحزان سبباً في رقّة قلبه واكتسابه لمكارم الأخلاق ، حتى
صدق فيه وصف خديجة رضي الله عنه : " يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم ، ويُقري الضيف ، ويُعين على نوائب الحق "
عناية الله تعالى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في طفولته:
نشأ عليه الصلاة والسلام - مع يُتمه - مَرعياً برعاية الله تعالى،
مهذباً أحسن تهذيب، عفيفاً أديباً أميناً، حتى عُرف بين أهله وقومه
بذلك، ونال إعجابهم وحبهم، فأكبروا أدبه وخلقه.
كان أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم يقرّب إلى صبيانه صحفتهم
- أي إناء طعامهم-، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ينتهب معهم،
فلما رأى ذلك عمه، عزل له طعامه على حدة.
قال أصحاب السير: عاش صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له مؤدب ظاهر يعتني بتـثقيفه،
أو مربّ معروف يتولى تهذيبه، إلا سلامة الفطرة،
وسموّ الغريزة، وطهارة العقيدة، والاعتصام بالفضيلة... ولم يكن صلى الله عليه وسلم
في نشأته
جارياً على المألوف في الصبيان، من تأثر عقولهم ونفوسهم بما يرون
ويسمعون ويحسون في بيئتهم، ولو جرى الأمر على ذلك. لشارك قومه في
تعظيم الأصنام وعبادتها ولانغمس في ضلالات الوثنية
وأوهامها، ولكن عناية الله قد تكفلت بتربيته، فنشأ على أكمل ما تتحلى به النفوس من جميل الصفات، وحميد
الخصال، ولم يسجد لصنم من الأصنام، ولم يشارك قومه في
عيد من أعيادهم، ولم يذق لحوم قرابينهم، ولا عجب فقد حدّث عن نفسه فقال:
[أدبني ربي فأحسن تأديبي].
(قال ابن تيمية عن هذا الحديث معناه صحيح ولكن ليس له إسناد ثابت).
قال الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
قال محمد بن إسحاق: شبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله
ويحفظه ويحوطه من أدناس الجاهلية، لما يريد
من كرامته ورسالته: حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم
خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم
حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال،
تنـزّهاً وتكرماً، حتى ما سُمي في قومه إلا "الأمين" لما جمع الله تعالى
فيه من الأمور الصالحة.
وكان صلى الله عليه وسلم يحدّث عما كان الله يحفظه به في
صغره من أمر الجاهلية فيقول: [لقد رأيتني في غلمان
من قريش، ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان، كلنا قد تعرى،
وأخذ إزاره، وجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدُبر، إذ لكمني لاكم - ما أراه - لكمة
وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك].
قال: [فأخذته فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري عليّ من بين أصحابي].
مواقع النشر