الفصل الثالث
""نجاة الارواح المثقله""
يجول يامن بنظره بين امه و ابيه...
هنا...هنا...لم يعد هناك ما يسمى...مأوى...او عائله...
يجلس بين قطع الخرده الباليه و جثتان ملقاتان على الارض...
جائع...بائس...يكاد يتجمد من البرد...
لم تعد امه دافئه...وقد تلطخت ارغفة الخبز بدمائها...
لم تعد صالحة للأكل...لايعرف احدا في العالم سواهما...
و لايستطيع الجلوس في البيت اكثر...
ستأتي الكلاب الجائعه لأكل الجثث...
ليس هناك جيران...ولا اقارب...
حتى الجماعه...غادراها لكي يحتفظا به....
طفل في الرابعه عشره من عمره...اين عساه يذهب...
أحياء المدينة مخيفه...ملئى بالمدمنين و السكرة و الشواذ...
الخروج من البيت في مثل هذا الزمان و المكان ولطفل غض جميل...
قد يكون بمثابة الانتحار...ولكن من الجنون البقاء في بقايا البيت اكثر...
لملم بعثراته...
و ترك بسماته و قلبه معهما...
ثم جرى...بغير وجه...
خرج يبتغي الحياه...
ستشرق الشمس عما قريب...
لا داعي للخوف...
وجد لنفسه مكانا تحت الجسر ليتقي المطر المنهمر...
و كأنهما على ميعاد...
بكى و بكى و بكى...
و لكن البكاء لم يشبعه كما في الصغر...
جائع...لم يأكل منذ يومين...
ذهب يبحث عن شئ يؤكل...
اتجه الى حاويات القمامه...
وجد عندها اطفال مثله...يقاتلون الكلاب الضاله على كسرة الخبز...
بالكاد وجد له مكانا...يبحث و يبحث...
حتى وجد قطعة كعك بدأت بالتعفن...فرح بها...
رفعها الى فمه ليأكلها...
فسقط جزء منها على الارض وعلى الفور جاءت قطة ضاله و خطفتها...
جال بنظره فإذا طفل صغير يبحث عن شئ يأكله و يبكي من شدة الجوع...
اعطاه يامن ماتبقى من قطعة الكعك...
وعاد ليبكي تحت الجسر...بكى حتى نام...
ثم استيقظ على صوت جلبة ما...
رجل يمسك بطفلة صغيره و يضرب بجسدها الهزيل عرض الحائط...
وهي تبكي وتصرخ من شدة الالم...
ضربها ضربة اخرى على رأسها ...
فكانت القاضيه...ثم جرجر جثتها و القى بها في النهر العكر العميق...
و غادر...وكأن شيئأ لم يكن...
يامن الذي تملكه الخوف هرب مسرعا من تحت الجسر...
لا يدري اين يذهب من قسوة الحياه...
اين سترمي به الاقدار هذه المره...
يسير وسط زحمة الناس...
هذا يدفعه و هذا يشتمه...ولكن لحظه...
هذا هو المخبز الذي صادف به ذلك الشاب اللذي عرض عليه...
مأوى...
كان الجوع قد بلغ منتهاه...
دخل الى المخبز...
التفت هنا وهناك ولكنه لم ير ذلك الرجل...
هذه المره لا بديل عن السرقة كي يأكل...
اقترب من احد الزبائن
و نشل منه قطعة نقود معدنيه ثمنا لرغيف خبز واحد...
اخذ الرغيف من البائع و بدأ بأكله مباشرة...
و هو ينوي اخفاء معظمه...
عندما وصل الى الشارع وقعت عينيه الحزينتين على طفل قد تعالى صوت ضحكاته...
يمسك بيدي والديه
و قد اشتريا له قالبا كبيرا من الحلوى
وهم ذاهبون ليحتفلون بيوم ميلاده...
علقت لقمة الخبز في فم يامن...
لم يحظى بوالدي كهذان...
هو حتى لايعلم تاريخ ميلاده...
وضع بقايا الرغيف في جيب معطفه البالي...
و سار ....
و سار...
حتى وصل الى زقاق مغلق في نهاية الشارع...
_" الم تعدني انك لن تكررها"
التفت يامن نحو الصوت...
فإذا به ذلك الشاب الطيب...خاف و فرح...و تملكه شعور غريب...
_" لقد رأيتك تنشل النقود من جيب ذلك الرجل العجوز...لقد سرت خلفك منذ ساعه...لكنك تسير فقط...انت ليس لديك مكان لتذهب اليه"
صمت يامن طويلا...
لم يدري ماذا يفعل ...
فهو لا يستطيع الوثوق بهذا الرجل...و لكن ليس لديه خيار اخر
_" عندما رأيتك اول مرة ياسيدي كان لدي مأوى وعائله...ولكني الان لا املك الا نفسي"
_" ما زال عرضي عليك السكن معي قائما...هيا تعال معي وان لم تعجبك حياتك الجديده فلك حرية المغادره..."
ذهب يامن وهو قلق مع الرجل...
صعد الى سيارته الفارهه...
سارا معا نحو احياء المدينة الراقيه...
توقف الرجل امام احدى المنازل الكبيره...
كانت الشمس على وشك الغروب...
دخل يامن الى المنزل...
حديقة فخمه...اثاث راقي...رائحه زكيه...ادخله الى احدى الغرف وقال له
_"يوجد في نهاية الغرفة حوض استحمام و مياه دافئه...اذهب و استحم و ستجد ملابسا جديده وطعاما لذيذا بانتظارك"
ذهب يامن و الدهشة تعتريه...
هل هذا حلم جميل...
ام بداية كابوس لن ينتهي ابدا...
بدأ الماء الدافئ بالانسياب على جسده...
شعور مريح جميل...
رائحة الصابون منعشة جدا...كل شئ جميل و نظيف...
خرج من حوض الاستحمام فوجد ملابسا راقية و نظيفه...ارتداها...
و راح يحدق بكل ما حوله من فخامه,
جاءه ذلك الشاب...
_" تعال يا بني...سيبرد الطعام ان تاخرت اكثر"
سار معه يامن في رواق المنزل الطويل ...
وصلا الى غرفة كبيره في وسطها طاولة طعام فخمه ...
جلس يامن ...و بدأ بالاكل...
وهو لا يكاد يمسك نظراته التي راحت تجول هنا و هناك متعجبة من كل شئ...
ينظر الى الشاب الذي جالسه...
صامت لاينطق حرفا...صمته المطبق اخاف يامن اكثر...
ترك الطعام من شدة الخوف والارتباك...
_" لقد شبعت"
_" ألم يعجبك الطعام؟؟ "
_" بلى ولكني اكتفيت, انا....انا...."
_" ما بك...؟...لماذا انت متوتر هكذا...هدئ من روعك يا صغير"
وقف يامن وهو يشعر بصداع شديد ...
_" انا .......انا لا استطيع التنفس...هذا الطعام....هل كان مسموما؟!!! ...ماذا فعلت بي"
_" ليس مسموما يا يامن ...بل يحتوي على مخدر...يوما ما...ستشكرني على هذا"
سقط يامن على الارض مغشيا عليه...
في صباح اليوم التالي...
استيقظ على احدهم يرشق وجهه بالماء البارد...
ينظر وهو يتنفس بصعوبة من البرد...
كل من حوله رجال يرتدون اقنعة سوداء...
غرفة صغيرة مضاءة جيدا...امسك بوجهه احد الرجال...
_" يامن....!! "
_" من انتم؟ ماذا تريدون مني..."
_" قل لنا اي شئ....ما اسم المكان الذي تستقر به العصابة التي جئت منها...ما اسم رئيسها...اين يخفون الاطفال المختطفين...كيف كانوا يوردون المخدرات...!! "
_" انا ....لا انتمي لأي عصابه...لا اعلم عما تتحدثون"
_" يامن...انت مازلت طفلا...لن تتحمل ما سنفعله بك ان لم تخبرنا...صدقني ..."
_" لا اعلم....اقسم انني لا اعلم عن اي عصابة تتكلمون...لست سوى طفل معدم...كان يسرق ليعيش فقط...كنت اسرق لأطعم والداي ..."
_" نعم نعم...طفل معدم مشرد مثلك...لن يكون الا عالة على مجتمعه...ان تركناك لتعيش ...ستصبح مجرما, نحن نعلم كل شئ عنك , ونراقبك منذ زمن, سنعطيك وقتا لتساعدنا على القبض على هذه العصابه حتى غدا صباحا, ثم اما ان تنجو, او ان يتم اعدامك"
خنقت العبرات ذلك الطفل البرئ,
جروه الى زنزانة مظلمه بارده,
بكى كثيرا جدا, شعر بالندم, لم لم يبقى في الشارع؟
لماذا اختار الوثوق بذلك الشاب الذي خدعه,
لم يعرض صغير مثله الى كل هذا,
و اقرانه يتوسدون احضان آبائهم الدافئه,
لم يختر هو هذه الحياه بل فرضت عليه,
ربي على يدي المتسولين,فكيف له ان لايكون كذلك؟...
كيف لصغير مثله ان يواجه الموت...
مدد جسده المنهك على الارض , و راح يفكر...
ترى كيف سيعدمونه غدا؟...
ماهو الموت؟...
هل سيكون سريعا و لذيذا...
ام بطيئا و مؤلما...
هل سيلتقي بوالدته الحبيبة هنالك؟...
هل ستكون الحياة الاخرى افضل من هذه الحياه؟...
عندما انتصف الليل ...سمع صوتا يهمس له من وراء بوابة الزنزانه...
_" هيه...يا صغير..."
انتفض قلب الصغير البئيس....
_" هل حان الوقت؟ "
_" لا يا ولدي لم يحن بعد, ولكن اسمع, انت لست كغيرك من الاطفال,
انت لم تعش طفولتك,
لم تعش مرفها, بل كنت تخاطر بنفسك كلما ارداك الجوع
حتى تحصل على كسرة خبز جافه تواري بها جوعك المطقع,
يجب ان تفهم انك تملك قلب رجل حديدي,
يستطيع مواجهة اي شئ ,لقد واجهت في حياتك
الخوف...الجوع...الألم...الذل...,
واجهتها بقوه, لديك روحُ صلبة ,
حرر قلبك و روحك و فكرك من كل ما تهاب...
حرر روحك من جسدك...
حتى تحلق حرا في السماء...
حلق...حلق...عاليا...حتى تصل الى الله...
و عندها ستفرح هناك في الجنه...
فأنت تملك روحا طاهره...لن يسألك الله لم سرقت؟...
فهو يعلم تماما انك كنت مجبرا....
بل سيبدلك عن كل ماعشت من هوان...
بفرح و عز و حبور...غدا يا بني...اغمض عينيك و سلم روحك لباريها...
ثم حلق و سافر و تنعم...فانت حينئذ ستكون حرا "
طلع الفجر ...
و تلك الكلمات تدق اجراسها في فكر يامن...
طل نور الصباح...
جاء احدهم ليأخذه الى الموت...
عصبوا له عينيه...امسك به رجلين شديدين...
خرجا به الى ساحة غطاها الثلج...اجلساه...سمع صوتا يقول له:
_"يا صغير ...هل انت مصر على انت تموت...انقذ نفسك بأي شئ"
_" ارجوك...عجل في الامر...ولا تجعله مؤلما جدا..."
اقترب احد الرجال من يامن...فك سلاسل يديه و رجليه ...
ثم ابتعد...
صمت رهيب...
لا يسمع سوى صوت الرياح و صوت دقات قلبه...
رفع يديه الى عينيه ليزيل عنهما العصابه...
فتح عينيه التفت حوله, لايوجد احد...
يقف وحده على سطح بناية عاليه تطل على جميع ارجاء المدينه البئيسه...
لا يرى منها سوي البنايات الرماديه و دخان المصانع و نهر كبير عكر...
مياهه سوداء...
لم يفهم مالذي يحدث...هل يستطيع الهرب الان...!
اتجه مسرعا الى الادراج...
نزل ثم وصل الى رواق طويل مشى فيه خائفا يترقب...
خاف ان يراه احدهم...
فجأة...سمع صوتا يناديه...
يا ربي...انه نفس الصوت الذي همس له بتلك الكلمات الحاده...
نظر خلفه...فإذا به رجل عجوز له لحية بيضاء...
_" يامن ...لقد تحررت اخيرا من خوفك...انت الان صاحب فكر حر..."
شهق يامن و بكى بصوت عال جدا...
_" من الان فصاعدا...لن تحزن...لن تتألم...ستعيش كما تريد..."
_" لا, لا...انت تكذب, جميعكم تكذبون.. سمعت هذا الكلام من قبل...اتركوني اعود الى الشوارع"
_" لا يا بني, نحن وجدنا لنحمي الاطفال امثالك من الشوارع...لنؤمن لك عيشا كريما ...تعليم و بيت و طعام وكل شئ...لكن كان من الضروري اولا ان نختبرك لنتاكد من انك تستحق ان نضمك الينا ,,,مؤسس هذه الجماعه كان طفلا مثلك...عاش ظروفا كظروفك...اختطفته العصابات من احضان والديه وعاش طفولة بئيسه حتى آواه رجل طيب ...و جعل منه شخصا نافعا...واسس هذا المكان"
_" أنا لم اختطف...كنت اعيش مع والدي...ولكنهما ماتا..."
_" نعم نعم , هذا ما تعتقده...تعال معي الان, ليس لدينا الكثير من الوقت... "
اخذه العجوز الى غرفة قديمه و اخرج منها بطاقات و اوراق ....
_" هذه هي شخصيتك الجديده ستعيش من الان فصاعدا باسم ((يامن زين)),
و سنرسلك لارقى المدارس...و ستعيش في بيت فخم مع اي زميل تختاره...ولكن يجب ان تتعلم ان سر وجود جماعتنا هو اغلى من روحك..."
فرح يامن بما يجري...شعر ان ماضيه القذر قد انتهى...
سيعيش حياة طبيعيه و ربما افضل...
ولكن هل يعقل ان يكون كل هذا بدون مقابل؟!...
سار يامن مع الرجل ...ذهب به الى خارج العماره...
_"هل ترى تلك السياره السوداء؟ ...
اذهب اليها زميلك هناك...سيؤخذك الى منزلك"
صعد يامن الى السياره...
التفت كي يلقي التحية على ذلك العجوز...
لكنه لم ير احدا...
قال له سائق السياره_وقد كان شابا في مقتبل العمر_:
_" الى ما تنظر؟ هل تبحث عن ذلك الرجل العجوز؟ صدقني لن تراه مجددا ابدا"
نظر يامن الى الشاب بتعجب...
_" انا يامن زين"
_" و انا غيث ناجي"
.
.
.
"""للحكاية تتمه"""
بقلمي//منارة السَنه
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة **قطرة ندى**
ضوابط المشاركة
رد مع اقتباس
مواقع النشر