خواطر ومواقف عن محبة النبي صلّ الله عليه وسلَّم -
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
وبعد،
الحديث عن محبةالنبي - - حديث تزهو به العبارات، وتَجمل به الصياغة، فإذا كان قد ثبت أنَّ النياقَ وهُنَّ نياق تسابقن إلى يديه الشريفتين أيهن يبدأ بها لتنحر، فإنَّ الكلمات تتسابق إلى أفواه قائليها إذا كان الحديث حديثًا عن "محمد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم".
إنَّ نبيكم - صلَّىاللهعليهوسلَّم - أشار إلى القمر، فانفلق؛ ليكونَ شاهدًا على نبوته، وأشار إلى الغمام، فتفرق بأمر الله؛ إكرامًا لإشارته، وترك الجذع حينًا فحَنَّ الجذع إليه وإلى كلماته وعظاته، فصلواتُ الله وسلامه عليه.
فإذا كان هذا هو حال غيرنا معه، فما الذي ينبغي على المؤمنين من أمته به؟
لا ريبَ أنَّ المؤمنين به أولى بمحبته، وأجدر بطاعته، وأحق بمتابعته، فما أكرمه من حبيب مصطفى، وعبد مجتبى، ورسول مرتضى، منَّ الله - جل وعلا - بأَنْ جعله إلينا من الخلق أحب حبيب، وأكمل قريب، أرسله الله رحمةً للخلائق، فقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وهدى به لأمثل الطرائق، فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
ومَحبتكم لنبيكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَحبة شرعية، أوجبها الله - تبارك وتعالى - علينا، ودَلَّ عليها الكتاب وأقواله - عليه الصلاة والسلام.
قال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
قال القاضي عياض: "قرَّع تعالى مَن كان ماله وأهله وولده أحبَّ إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله: ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة: 24]، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنَّهم مَن ضل ولم يهده الله - عزَّ وجلَّ".
ويأتي دليل عظيم وبليغ هو قول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، والدلالة على وجوب المحبة أن يكون رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحب إلى العبد من نفسه، وألاَّ يكون للعبد حكمٌ على نفسه، بل الحكم لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31] من الأدلة العظيمة الشاهدة على وجوب مَحبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ لا نزاعَ في أنَّ مَحبة الله واجبة، وأنَّ اتباع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومَحبته طريق إلى محبة الله.
وأمَّا أحاديثه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصريحةٌ في الدلالة على وجوب هذه المحبة، فمن ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))؛ متفق عليه.
وكذلك قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو آخذ بيده، فقال عمر بحسب الطبع: "لأنت أحبُّ إلَيَّ من كل شيء إلاَّ من نفسي"، فأقسم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تأكيدًا: ((لا، والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحب من نفسك يا عمر))، فتأمل عمر، وتفكَّر أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحب إليه من نفسه، فهو السبب في نجاته فبادر، فقال: "فإنه الآن والله، لأنت أحب إلَيَّ من نفسي"، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الآن يا عمر))؛ أي: عرفت ونطقت بها.
وكذلك قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث مَن كنَّ فيه وجد بهن حلاوةَ الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأنْ يُحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار))؛ رواه مسلم.
وهناك حديث جميل رائع؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مِن أشد أمتي لي حبًّا ناسٌ يكونون بعدي يود أحدُهم لو رآني بأهله وماله))؛ رواه مسلم.
أيها الأحبة، لماذا نحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هذا السؤال؛ لنهيجَ القلوب والمشاعر لهذه المحبة، ولنؤكدها ونحرص على غَرسِها في سويداء القلوب والنفوس؛ حتى تتحركَ بِها المشاعر، وتنصبغ بها الحياة، وتكون هي السِّمَة والصبغة التي يكون عليها المسلم في سائر أحواله.
نحبه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّه حبيب الله، ومن أحب الله، أحبَّ كلَّ ما أحبه الله، وأعظم محبوب من الخلق لله هو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد قال: ((ولكنَّ صاحبكم خليل الله)).
ولأَنَّ الله أظهر لنا كمالَ رأفته وعظيمَ رحمته - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأمته، فنحن نُحِب الإنسان متى وجدناه بنا رحيمًا، وعلينا شفيقًا، ولنفعنا مُبادرًا، ولعوننا مُجتهدًا، ورسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الباب أعظمُ من رحمنا ورأف بنا؛ ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
ومما يدل على رقته ورحمته بأمته ما جاء في حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال: أتينا إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحن شَبَبة مُتقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنَّا قد اشتهينا أهلنا، أو قد اشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم - وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها - وصلوا كما رأيتموني أُصلِّي، فإذا حضرت الصلاةُ، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم))؛ متفق عليه.
ونُحِبه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا لما كان فيه من خصائصَ وخصال عظيمة، ويكفينا قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، واجتمع فيه ما تفرَّق من وجوه الفضائل والأخلاق والمحاسن في الخلق كلهم، فكان هو مجتمع المحاسن - عليه الصلاة والسلام.
لكُلِّ شيء دليل، ولكل ادِّعاء بُرهان، ومن هنا نذكر بعضَ هذه المعالم العظيمة المهمة من مظاهر وعلامات مَحبة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
تكون محبته - صلَّى الله عليه وسلَّم - باتباعه، والأخذ بسنته - صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَن أحبَّ الله ورسوله مَحبة صادقة من قلبه، أوجب له ذلك أنْ يُحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى بما يُرضي الله ورسوله، ويسخط على ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض.
والإكثار من ذكره - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصلاة عليه من علامات مَحبته، فمن أحب إنسانًا، أكثر من ذكره، وأكثر ذكر محاسنه، فينبغي أن نعطر مَجالسنا في كل وقت وحين.
ومن علامات مَحبته تَمَنِّي رؤيته - صلَّى الله عليه وسلَّم - والشوق إليه، ومَحبة الكتاب الذي أنزل عليه والذي بلَّغه لأمته ومَحبة آل بيته - صلَّى الله عليه وسلَّم.
هذه المحبة في الدُّنيا عون على الطاعة، والإكثار من العبادة، وخفة ذلك على النفس، وإقبال الروح على مزيد من الطاعات، وأمَّا في الآخرة فحسبها أن تكونَ نَجاته من النار، ولحوقًا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرء مع من أحب))؛ متفق عليه.
إنَّ أصحابَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أظهروا من كمال مَحبتهم له، وحرصهم على سنته ما لا يَخفى، أظهروا من مَحبتهم له، وشفقتهم عليه، وحِرصهم على الاقتداء به - ما جعلهم خَيْرَ الخلق، وأفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فاسمع - أخي - أنواعًا من مَحبتهم له تدُلُّ على قوة الإيمان به، ومَحبتهم له - رضي الله عنهم - وأرضاهم.
ولا يُمكن لأحدٍ أن يستشهد بأحد قبل سيد المسلمين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يومَ أراد - صلَّى الله عليه وسلَّم - المهاجرة من مكة إلى المدينة، أتى الصدِّيقَ في الظهيرة، فلما قيل للصديق: "هذا رسول الله، قال: "بأبي وأمي ما أتى به إلاَّ أمرٌ جَلَل"، فلما دخل عليه، قال: ((أذن لي بالهجرة))، فقال الصديق: "الصحبة يا رسول الله"، فقال: ((نعم))، قالوا: فبكى الصديق - رضي الله عنه - فرحًا؛ تقول عائشة - رضي الله عنها -: وما كنت أظنُّ الفرحَ يوجب البكاء بعد الذي رأيت من أبي - رضي الله عنه"؛ رواه البخاري.
ولَمَّا دخل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينةَ ضرب أهلُها معنًى آخر في حُبِّهم لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيخرجون زرافاتٍ ووُحدانًا، رجالاً ونساءً، شيبًا وشبانًا، ويكبرون ويقول بعضُهم لبعض: الله أكبر، جاء محمد جاء محمد، وترتقي على أسطح المنازل بناتٌ من بني النجار يضربن بالدف، ويقلن:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ
تااابع
مواقع النشر