أوّل ثـلاث سنــوات للبعثــة
بُعِثَ النبّي في قومه و اختاره الله نبّيًا للأمّة جمعاء ، فقام الإسلام في بادئ الأمر على رجلٍ و امرأة و طفلٍ صغير ، فيحكي أشعث بن قيس فيقول أتيت مكة في تِجارة لي مع العبّاسعمّ النبّي فرأيت محمد يُصلي و من ورائه رجل و امرأة و طفل فسألت العباس عن الرجل و من معه و ما يفعلونه ، فقال لي الرجل ابن أخي محمد و يزعم أنّه نبّي آخر الزمان و الرجل من ورائه صاحبه أبو بكر و المرأة زوجته خديجة و الطفل ابن أخي الآخر علّي و هم يُصَلُون غير أنّك إذا أردت أن تُكلّمه أخُذك إليه ،فقال له أشعث لا دعنا في تِجارتنا ، و بعد مِضِّيِ عِشرينَ سنة رجع أشعث إلى مكة بعد فَتحِها فأسلم و بكى بُكاءًا شديدًا ،فقال له النبّي لمِاَ تبكي يا أشعث و الإسلام يزيد يومًا بعد يوم ؟ فقال له أشعث لستُ أبكي لذلك يا رسول الله و إنّما أتتني الفرصة أن أُسلم قَبْلاً و أكون رابع أربعة غير أني ضيعت فُرصتي و أَبَيتُ أن أسمع منك ، فيا ليتني قد فعلتها يومها .
فهكذا بَدَأ الإسلام معرجل و امرأة وطِفل ليُصبح الثلاثة بعدها عشرة ، فيأتي أبوبكربستة رجالعثمان بن عفان _ طلحة بن عبيد الله _ الزبير بن العوام _ سعد بن أبي وقاص _ أبو عبيدة الجراح و عبد الرحمن بن عوف و تكون هذه الأسماء أوّل الأسماء إسلامًا و تبشيًرا بالجنّة .
و بعد خمسة أشهر زاد عددهم و بلغ خمس و أربعين نفرًا بين رجلٍ و امرأة مُتباين سِنُّهم بين الصغير و الكبير و مُتباين نًسبهم بين الغنّي و الفقير و مُتباينة أجناسهم بين ستة عشرة قبيلة ، و بعد ذلك أصبح الخمسة و أربعينمائة و كل هذا و قريش لا تعلم بالأمر لأنّ النبّي انتهج في دعوته أُسُسًا قويّة و خُطَطًا فَعالة جعلته يتوغّل في قريش سِرًّا .
ثم انتقل النبّي إلى الخُطوة الثانية و هي إعلان الإسلام في عَشِيرته ، فأقام النبّي وَليمةً جمع فيها آل عبد المطلب برِجالها و نِساءها و بلغ عدد الحاضرين فيها خَمسٌ و أربعين بمن فيهم عمّه أبو لهب الذي قام من مَقعده و قال للنبّي اسمع يا محمـد و اعلم أنّه ليس لنا في العرب طاقة و إنّك إن بقيت على ما أنت عليه لوقفت العرب و قريش على مُعاداة قومك و إني لا أعرف من العرب من آتى على قومه بِشًرْ كما أتيت أنت على قومك ،ثم نظر للجمع و قال لهم خُذوه على يده و على لسانه و أكتموا على هذا الفمّ قبل أن تُعاديكم العرب ، فسكت النبّي لحظة ثم قال للجمع إذا أردتم الانصراف فلكم ذلك ، فانصرف الجميع وفَشِل النبّي ربّما أي نعم في مُحاولته الأولى إلاّ أنَّ هذا الفشل كُلِّلَ بالنجاح بسبب إسراره و صبره و سعيه ، فكرّر النبّي المُحاولة و أقام وليمةً أخرى جمع فيها ثلاثين نفرًا من عشيرته و هذه المرّة أيضًا لم يستثني أبا لهب من الحضور بل دعاه أيضًا على غِرَارِ ما فعله معه في المرّة السابقة ،و لكن في هذه المرّة كان النبّي هو السبّاقُ إلى الحديث و أوّلُ المُتكلمين فقال للجمع الحمد لله أحمده و أستعينه و أؤمن به و أتوكل عليه و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ثم قال والله لو كَذبتُ على الناس جميعًا لما كذبت عليكم و لو غًررتُ على الناس جميعا ما غررتكم ،والله الذي لا إله غيره إني رسول الله إليكم خاصةً و إلى الناس عامةً و والله لا تموتون كما تَنامون و لتُبعثونَ كما تستيقضُون و لا تُحاسَبون على ما تفعلون و إنها لجنّةٌ أبدا ؟ أو نارٌ أبدا ؟ ثم قال يا بني هاشم أنقضوا أنفسكم من النار ...يا بني عبد المطلب أنقضوا أنفسكم من النار ..يا عباس عم الرسول أنقض نفسك من الناّر فإني لا أملك لكم من الله شيئا ، ثم نظر إلى ابنته فاطمةو قال لها يا فاطمة بنت محمداسأليني من مالي ما شئتِ لكني لا أملك لك من الله شيئا ، فسكت الجميع ووضعوا عُينوهم في الأرض بمن فيهم عمّه العباس و حمزة غير أنّ مُربيه بعد أمّه و جدّه أبا طالب وقف وقال للنبّي امضِ بما أُمِرت به و إني أُحيطك و أمْنعُك ما بقيت ، فغضب أبو لهبلمساندة أبي طالب للنبّي و قال له إنّ هذه لهي السوءة فخذوه على يده ، فردّ عليه أبو طالب و قال و الله لأمنعنّه ما بقيت ، فسكت الجمع كلّه بعد كلام أبي طالب لأنّهم فهِمُوا من رَدّة فعله أنّه سيحمي محـمد ما حيا ، فانتهز النبّي فُرصة كسب عمّه إلى صفّه و قال لعشيرته فمن منكم يُؤمن بما جئت به ؟ !، فسكت الجميع و قال أبو طالب أمّا أنا فعلى دين أبي عبد المطلب و سائر أجدادي ، فنهض علّي و عمره ثلاثة عشرة سنة و قال للنبّي أنا معك أَتَبِعُك و أسير معك ، فضحك عليه القوم لصِغَرِ سنّه ، فابتسم له النبّي و قال له ضع يدك في يدي فشدّ النبّي على يد علّي و ضرب عليها .
و بعدها نفّذَّ النبّي الخُطوة المُوالية و هي إعلان الإسلام و الجَهْرُ بدعوته في قُريش ، فاختار النبّي جبل الصَفَا نُقطة انطلاق دعوته في قُريش و لأوّل مرّة عَلَنًا ، فصعد النبّي الجبل ثمّ نادى على قُريش فقال يا بني عبد منَاف ..يا بني عًدِّي ..يا بني فِهر ..يا بني عبد المطلب ...أرأيتم إن أخبرتكم أنّ وراء هذا الجبل جيشًا ضخمًا جاء ليَغِيرَ عليكم أكنتم مُصًدّقيا ؟ فقالوا له نعم فما جربنا عليك كًذِبًا ، فقال لهم النبّي((إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقاطعه عمّه أبو لهب و قال له تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟، فنزل النبّي من على الجبل ، فنزلت سورة المسد في أبي لهب لأنّه كان أوّل من تجرأ على النبّي و اجترأ عليه و قال له تبًّا لك ، و كل هذا إلاّ أنّ النبّي لم يتَكِل و لم يتواكل بل أسَّرَّ على دعوته و توكّل على الحيّ الذي لا يموت ، فحمّسَ الناس على الإسلام ووعدهم بالجنّة فقال لهم يا معشر قُريش قولوا لا إله إلاّ الله تملكوا بها العرب و العجم ، قولوا لا إله إلاّ الله تدخلوا بها الجنّة ، فتعرضت قُريشللنبّي و آذته بشَتى الطُرق و عذّبته بمختلف الأساليب و أعنف الوسائل ، فانتهجت قُريش أسوأ أسلوب و هو أُسلوب الأذِية المعنويـة ، فشَكَّكُوا في صِدقِ رسالته و في سلامة عقله فقالوا عليه مجنون و ساحر و كاهن و حرّضُوا عليه الأطفال ليَسخروا منه ، فسَمِعَ الوليد بن المُغيرة بالأمر فأتى أهل قُريش و قال لهم يا أهل قريش ما عرِفناه مجنون و سمعنا الكثير من الشُعَّارْ و لم نسمع مثلما سمعنا منه و رأينا السحرة و الكهنة و لم نرى أبدًا مثلما رأينا منه ، فقالوا له يا أبا الوليد فماذا ترى أنت فيه ؟، فقال إنّ لكلامه حلاوة و إنّ عليه لطلاوة و إنّ أعلاه لَمُثمر و إنّه يُعلى و لا يُعلى عليه ، فقالوا له أ اتبعت دينه ؟ فقال لا ، فقالوا له إذن قلْ عنه إنّه ساحر و يُفرقُ بين المرء و زوجه و بين المرء و آبيه .
وهكذا واصلت قُريش أذِيَّتَها للرسول طيلة الثلاث سنوات الأولى للبعثة لتمتد في تعذيبها له و تتجاوزه إلى ثاني ثلاث سنوات من بعثته
مواقع النشر