رجال حول الرسول و رجال دمو ا الرسول"صلى الله عليه و سلم" - الصفحة 4
صفحة 4 من 26 الأولىالأولى 123456714 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 16 من 101

الموضوع: رجال حول الرسول و رجال دمو ا الرسول"صلى الله عليه و سلم"

  1. #13
    كوكب الشبكة الصورة الرمزية الساجدة لله وحده
    تاريخ التسجيل
    Sep 2005
    الدولة
    بلد المليون و نصف مليون شهيد((الجزائر))
    المشاركات
    1,533
    معدل تقييم المستوى
    20
    [align=center]عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن [/align]



    فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما..

    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟

    قلت: نعم..

    فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص..

    فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول.

    فقال: انك غلام معلم"...



    **



    لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

    وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور..

    بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها..

    فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

    (بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).

    ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

    ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..

    انه الزبير رضي الله عنه يقول:

    " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

    والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟

    فقال عبدالله بن مسعود:أنا..

    قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه..

    قال: دعوني، فان الله سيمنعني..

    فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها..

    فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

    فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

    ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له:

    هذا الذي خشينا عليك..

    فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

    قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!





    أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!

    ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..

    ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!



    **



    لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..

    بل ولا بعيدا عن الزحام..!!

    فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..

    فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

    ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

    ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!

    ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

    ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا.

    يقول على نفسه:

    " أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد"..

    ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه..



    ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:

    " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".

    ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

    يقول عليه السلام:

    " من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..

    " من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

    ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

    دعاه يوما الرسول، وقال له:

    " اقرأ عليّ يا عبد الله"..

    قال عبد الله:

    " أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟!

    فقال له الرسول:

    "اني أحب أن أسمعه من غيري"..

    فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

    (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

    يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

    ولا يكتمون الله حديثا)..

    فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود:

    أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..



    وتحدث هو بنعمة الله فقال:

    " والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!



    ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:

    " لقد ملئ فقها"..

    وقال أبو موسى الأشعري:

    " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"

    ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

    يقول عنه حذيفة:

    " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود...

    ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!

    واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

    "يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..

    قال علي:

    نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟

    قالوا:

    نعم..

    قال:

    اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالواو أو أفضل..

    لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..!



    وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

    " ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..

    وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..



    يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:

    "لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

    ذلك أن النبيب صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:

    " لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد"..

    وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه:

    " تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...



    وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

    فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...

    وهكذا قال عنه أصحابه:

    " كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا"..



    ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا..

    ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...



    فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!



    ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..

    يقول عمرو بن ميمون:

    " اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

    ويقول علقمة بن قيس:

    " كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!!

    ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

    " حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!

    الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!!

    فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!!



    **



    لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم:

    " اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا".

    ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله..

    واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات..

    ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..



    ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

    ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم:

    " ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

    ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..

    بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

    وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة:

    " لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله".

    ويقولبعض أصحاب ابن مسعود:

    " ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..



    **



    ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.

    وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد..

    لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:

    " كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

    ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:

    " ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

    ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة"..

    ومن كلماته الجامعة:

    " خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف الله عنه، ومن يغفر الله له"..



    **



    هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه..

    هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!

    نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..

    له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام:

    " تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

    أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور..

    ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



    وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده..

    وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..



    ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..



    ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها..



    ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها:

    " قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!



    **



    تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.

    وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه..

    ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!!
    [align=center][/align]
    [align=center][/align]

    [glow1=#FF0000][align=center]تسلم إيدك اختي نايدا على التوقيع الرائعة و جزاك الله خيرا[/align][/glow1]

  2. #14
    كوكب الشبكة الصورة الرمزية الساجدة لله وحده
    تاريخ التسجيل
    Sep 2005
    الدولة
    بلد المليون و نصف مليون شهيد((الجزائر))
    المشاركات
    1,533
    معدل تقييم المستوى
    20
    [align=center]حذيفة بن اليمان - عدوّ النفاق وصديق الوضوح [/align]

    وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به..

    وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:

    " اياكم ومواقف الفتن"..!!

    قالوا:

    وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!!

    قال:

    " أبواب الأمراء"..

    يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..!

    وكان استهلالا بارعا، بقدر ما هو عجيب..!!

    واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.

    وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية..



    **



    فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.

    ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..

    فلقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب...

    وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!



    فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا ارّعيل العظيم من الأصحاب..!!

    ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلوكنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة. في غير عناء..

    ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

    ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه..

    وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين..

    يقول:

    " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..

    قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟

    قال: نعم..

    قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

    قال: نعم، وفيه دخن..

    قلت: وما طخنه..؟

    قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

    قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

    قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها..

    قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟

    قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..

    قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟

    قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

    أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟



    لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، مسالك الشرور ليتقها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم...



    ويقول رضي الله عنه:

    " ان اله تعالى بعث محدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الانس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا...

    ومات بالباطل من كان حيا..

    ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..

    ثم يكون ملكا عضوضا..!!

    فمن الانس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق..

    ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق..

    ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق..

    ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...!



    ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:

    " القلوب أربعة:

    قلب أغلف، فذلك قلب الكافر..

    وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق..

    وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن..

    وقلب فيه نفاق وايمان، فمثلالايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!!



    وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:

    فيقول:

    " جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ان لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار..

    فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...



    **



    هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح..

    ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..

    لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!!

    وكان حذيفة يتلفت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!

    لكن القضاء كان قد حم..

    وحين عرف المسلمون، تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة، وقال:

    " يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..

    ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه..

    وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...



    **



    وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان

    بالعجز، ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل....

    في غزوة الحندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.



    كان اليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..

    فمن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟

    ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..

    ترى من يكون البطل..؟

    انه هو..حذيفة بن اليمان..!

    دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..!

    وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...

    فاقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيّم عليه الظلام،واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...

    وخشي أبوسفيان قائد قؤيش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:

    " يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه".

    يقول حذيفة"

    " فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري، وقلت لهمن أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

    وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!

    واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_، وأخلفتنابنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل"..

    ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون..

    يقول حذيفة:

    " لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته بسهم"..

    وعاد حذيفة الى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزف البشرى اليه...



    **



    ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل الظنون..

    ورجل الصومعة العابد، المتأمل لا يكاد يحمل شيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر الأبصار..

    وحسبنا أن نعلم، أنه كان ثالث ثلاثة، أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!



    وفي همدان والري والدينور تم الفتح على يديه..

    وفي معركة نهاوند العظنى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..

    وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه يقول:

    " اذا اجتمع المسلمون فليكن على كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..

    فاذا استشهد النعمان، فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن عدالله..

    وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...

    والتقى الجيشان..

    الفرس في مائة ألف وخمسين ألفا..

    والمسلمون في ثلاثين ألفا لاغير...

    وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..

    وسقط قائد المسلمين قتيلا، سقط النعمان بن مقرّن، وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد تسلمها بيمينه، وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا القائد سوى حذيفة بن اليمان...

    حمل الراية من فوره، وأوصى بألا ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة.. ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..

    أنجزت المهمة في لحظات والقتال يدور، بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:

    " الله أبكر صدق وعده!!

    الله أكبر نصر جنده!!"

    ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا عليها الانتظار..

    هيا يا رجال بدر..

    تقدموا يا ابطال الخندق وأحد وتبوك..

    لقد احتفظ حذيفة بكا حماسة المعركة وأشواقها، ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

    وانتهى القتال بهزيمة ساحقة للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!



    **



    هذا العبقري في حمته، حين تضمّه صومعته..

    والعبقري في فدائيته، حين يقف فوق أرض القتال..

    هو كذلك العبقري في كل مهمةتوكل اليه، ومشورةتطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن الى الكوفة واستوطنوها..

    وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا.

    مما جعل عمر يكتب الى سعد كي يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة، فينتقل بالمسلمين اليها..

    يومئذ من الذي وكل اليه أمر اختيار البقعة والمكان..؟

    انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه سلمان بن زياد، يرتادان لمسلمين المكان الملائم..

    فلما بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله..

    وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد التعمير الى مدينة عامرة...

    وما كاد المسلمون ينتقلون اليها، حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!

    لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائما:

    " ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه"...



    **



    وذات يوم من أيام العام الهجري السادس والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم:

    أجئتم معكم بأكفان..؟؟

    قالوا: نعم..

    قال: أرونيها..

    فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

    فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:

    " ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..

    فاني لن أترك في القبر الا قليلا، حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!

    وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

    " مرحبا بالموت..

    حبيب جاء على شوق..

    لا أفلح من ندم"..

    وصعدت الى الله روح من أعظم أرواح البشر، ومن أكثرها تقى، وتآلقا، واخباتا...
    [align=center][/align]
    [align=center][/align]

    [glow1=#FF0000][align=center]تسلم إيدك اختي نايدا على التوقيع الرائعة و جزاك الله خيرا[/align][/glow1]

  3. #15
    كوكب الشبكة الصورة الرمزية الساجدة لله وحده
    تاريخ التسجيل
    Sep 2005
    الدولة
    بلد المليون و نصف مليون شهيد((الجزائر))
    المشاركات
    1,533
    معدل تقييم المستوى
    20
    [align=center]عمّار بن ياسر - رجل من الجنة..!! [/align]

    خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه..

    وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..

    وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط..

    ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..

    وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..

    وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!

    ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..

    فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.

    وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا.

    ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..

    ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!



    ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..

    وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..!

    موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!



    **



    كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..

    ولم يكن ىنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا..

    وكانت تلك مشيئة الله..

    فالدين الجديد، ملة ابراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولاته، وتضحياته ومخاطراته...

    ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!!



    انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا.

    وانها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة الى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته..

    وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للاسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية...

    فهو يقول:

    (أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟!



    (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين)؟



    (ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا، وليعلمنّ الكاذبين).



    (أم حسبتم أن تتركوا، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..)



    (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..



    (وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فباذن الله، وليعلم المؤمنين).



    أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه، أن التضحية جوهر الايمان، وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار.. انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها..

    ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده، ويرسي دعائمه، ويعطي مثله، لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية، ويزكّي نفسه بالفداء، مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين.

    ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اهتارتها مقادير الاسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده..



    **



    قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوبرحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.

    وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:

    " يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..

    فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان..

    صبرا آل ياسر..

    فان موعدكم الجنة"..

    ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.

    فيقول عمرو بن الحكم:

    " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول".

    ويقول عمرو بن ميمون:

    " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"..

    على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار، وان فدح ظهره ودغدغ قواه..

    ولم يشعر عمار بالهلاك حقا، الا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه..

    في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.

    في لك اليوم، وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قاله فطار صوابه، وتجسمت هذه الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!



    ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة..

    لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده، لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..

    لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..

    وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا، وهاتفا به: انهض أيها البطا.. لا تثريب عليك ولا حرج..

    ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له:

    " أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟"

    أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...

    فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!!

    ثم تلا عليه الآية الكريمة:

    ( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)..

    واستردّ عمّار سكينة نفسه، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما، ولم يعد يلقي له وبالا..

    لقد ربح روحه، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون..!!

    وصمد عمّار حتى حل الاعياء بجلاديه، وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!



    **



    استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها، وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه..

    ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!!

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..

    يقول عنه صلى الله عليه وسلم/

    : ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه".



    وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله"

    ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه، وطامعا في صفحه الجميل..!!

    وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها، ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه، فيقولون:

    لا يستوي من يعمر المساجدا

    يدأب فيها قائما وقاعدا

    ومن يرى عن الغبار حائدا



    وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

    " ما لهم ولعمّار..؟

    يدعوهم الى الجنة، ويدعونه الى النار..

    ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...



    واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون ايمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!!

    وكذلكم كان عمار..

    لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:

    " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..

    ولقد وصفه الرواة فقالوا:

    " كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما"..

    فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟!

    كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟

    لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعل.

    ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه..

    ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناكفي الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة..

    وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..

    وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..

    وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال:

    " اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..

    وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"..



    ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..

    لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا..

    يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة:

    " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره"..!!



    ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:

    " خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!

    أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي اليه المنايا والدمار..

    واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة.

    يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:

    " رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا اليّ.. فنظرت اليه، فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!!



    ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟



    اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!!

    واذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!

    واذا كانوا ولاة حملوا طعامم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!!

    ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..

    وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!
    [align=center][/align]
    [align=center][/align]

    [glow1=#FF0000][align=center]تسلم إيدك اختي نايدا على التوقيع الرائعة و جزاك الله خيرا[/align][/glow1]

  4. #16
    كوكب الشبكة الصورة الرمزية الساجدة لله وحده
    تاريخ التسجيل
    Sep 2005
    الدولة
    بلد المليون و نصف مليون شهيد((الجزائر))
    المشاركات
    1,533
    معدل تقييم المستوى
    20
    كان الحذيفة بن اليمان، الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا، اذا اختلف الناس"..؟

    فأجابهم حذيفة، وهو يلقي بآخر كلماته:

    " عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يمةت"..

    أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة، ونتتبع معالم حياته العظيمة، تعلوْا نقترب من مشهد عظيم..

    ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله، في صولته وكماله، في تفانيه واصراره، في تفوقه واقتداره، تعالْوا نبصر مشهد مشهدا يسبق هذا المشهد، ويتنبأ به، ويهيئ له...



    كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة، وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار، شعثا لربهم وغبرا، بنون بيته، ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألقت بشرا، وابتهلت حمدا لربها وشكرا..

    الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..

    فوج هنا وفوج هناك..

    والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:

    لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل

    هكذا يغنون وينشدون..

    ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:

    اللهم ان العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة

    وتغريدة ثالثة:

    لا يستوب من يعمّر مسجدا

    يدأب فيها قائما وقاعدا

    ومن يرى الغبار عنه حائدا



    انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه..

    ورسوله الطيّب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة..

    والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!

    وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها...



    ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله، فيأخذه اليه حنان عظيم، ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه، ويتأمّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله، ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا:

    " ويح ابن سميّة..!! تقتله الفئة الباغية"...



    وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته، فيظن بعض اخوانه أنه قد مات، فيذهب ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:

    " ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية"..

    فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟

    ومتى..؟ وأي..؟

    لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم..

    ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم، وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار...

    ومضت الأيام.. والأعوام..

    ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به الى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما الى رضوان الله عمر..

    وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه..

    وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام تعمل عملها االمستميت، وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب..

    وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الاسلام ملكها وعروشها..

    وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام..

    ولعل عثمان رضي الله عنه، لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه، وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر، وفي الخلافة...



    وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى الى بيتهخ، جاعلا شعاره كلمة ابن عمر:

    " من قال حيّ على الصلاة أجبته...

    ومن قال حيّ على الفلاح أجبته..

    ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلات: لا؟..

    ومنهم من انحاز الى معاوية..

    ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين..

    ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟

    أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " واهتدوا بهدي عمّار"..؟

    أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    " من عادى عمّارا عاداه الله"..؟

    والذي كان اذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:

    " مرحبا بالطيّب المقدام، ائذنوا له"..!!



    لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب، لا متحيّزا ولا متعصبا، بل مذعنا للحق، وحافظا للعهد..

    فعليّ خليفة المسلمين، وصاحب البيعة بالامامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير..

    وعليّ قبل هذا وبعد هذا، صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى..

    ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار، ليهتدي بنور بصيرته واخلاصه الى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ، فأخذ مكانه الى جواره..

    وفرح علي رضي الله عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يمئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه..

    وجاء يوم صفين الرهيب.

    وخرج الامام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه.

    وخرج معه عمار..

    كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين..

    ثلاث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟

    أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!!

    كان الرجل الدائم الصمت، القليل الكلام، لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة:

    " عائذ بالله من فتنة...

    عائذ بالله من فتنة..".

    وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم..

    وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه..

    وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سميّة. يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته..

    ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا:



    " ايها الناس:

    سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها، وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم..

    وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم، ولا الولاية عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق...

    وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون الا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟...

    ثم أخذ الراية بيده، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة، وصاح في الناس قائلا:

    " والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهأنذا أقاتل بها اليوم..

    والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر، لعلمت أننا على الحق، وأنهم على الباطل"..

    ولقد تبع الناس عمارا، وآمنوا بصدق كلماته..

    يقول أبو عبدالرحمن السلمي:

    " شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها، ولا واد من أوديتها، الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!!

    كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول، يؤمن أنه واحد من شهدائها..

    وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبرة:

    " تقتل عمّار الفئة الباغية"..

    من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة:

    "اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه"..!!



    ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما:

    لقد ضربناكم على تنزيله

    واليوم نضربكم على تأويله

    ضربا يزيل الهام عن مقليه

    ويذهل الخليل عن خليله

    أو يرجع الحق الى سبيله

    وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين..

    قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون..

    أما اليوم، وان يكونوا قد أسلموا، وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم، الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق، وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه، وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة..

    ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن..





    واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين، وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!!



    كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة..

    ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية..

    بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لاصابته، حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه...



    **



    كان جيش معاويبة ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة، والامام، كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا..

    وهذا الخلاف على خطورته، كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام، وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما..

    شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد، وهم يبنون المسجد بالمدينة..

    " ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباعغية".

    وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية..



    وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا..

    أما فريق معاوية، فقد بدأ الشك يغز قلوبهم، وتهيأ بعضهم للتمرد، والانضمام الى عليّ..

    ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا:

    " انما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاؤا به الى القتال"..

    وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم...



    **



    أمّا عمّار، فقد حمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه..

    أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمّار...



    ووقف المسلمون على قبره يعجبون..

    منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح:

    " اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!!

    أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟؟!!

    وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...

    قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال:

    " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟

    قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال..

    اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار..

    واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته..

    ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة..

    أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟

    بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى..



    وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار...!
    [align=center][/align]
    [align=center][/align]

    [glow1=#FF0000][align=center]تسلم إيدك اختي نايدا على التوقيع الرائعة و جزاك الله خيرا[/align][/glow1]

صفحة 4 من 26 الأولىالأولى 123456714 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. " كنية الرسول صلى الله عليه وسلم " م5* اللايكات3-3
    بواسطة لمسة قشطة في المنتدى فداك يارسول الله ,5
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 17-03-2020, 02:22 PM
  2. *ما الحكمة من كثرة زواج الرسول "صلى الله عليه وسلم"
    بواسطة تآج راس زوجي.. في المنتدى فداك يارسول الله ,5
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 14-12-2011, 10:48 PM
  3. آخر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم " تُدمع العين "
    بواسطة اطلالة الربيع في المنتدى منتديات اسلامية,( على منهج أهل السنة والجماعة)
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 17-05-2010, 01:43 AM
  4. الرسول"صلى الله عليه و سلم" يهان في اغاني في هذا الموقع
    بواسطة الساجدة لله وحده في المنتدى المجلس العام
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 05-08-2006, 02:42 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

مواقع النشر

مواقع النشر

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

أهم المواضيع

المطبخ

من مواقعنا

صفحاتنا الاجتماعية

المنتديات

ازياء | العناية بالبشرة | رجيم | فساتين زفاف 2017 | سوق نسائي | طريقة عمل البيتزا | غرف نوم 2017 | ازياء محجبات | العناية بالشعر | انقاص الوزن | فساتين سهرة | اجهزة منزلية | غرف نوم اطفال | صور ورد | ازياء اطفال | شتاء | زيادة الوزن | جمالك | كروشيه | رسائل حب 2017 | صور مساء الخير | رسائل مساء الخير | لانجري | تمارين | وظائف نسائية | اكسسوارات | جمعة مباركة | مكياج | تسريحات | عروس | تفسير الاحلام | مطبخ | رسائل صباح الخير | صور صباح الخير | اسماء بنات | اسماء اولاد | اتيكيت | اشغال يدوية | الحياة الزوجية | العناية بالطفل | الحمل والولادة | ديكورات | صور حب | طريقة عمل القرصان | طريقة عمل الكريب | طريقة عمل المندي |