غار حـــــــراء و أوّل أسبوع للبعثة
بعد دخول الرسول عالم التِجارة تكَفَل بتجارة خديجةفأحسنها فاستحسنته هيَّ في أخلاقه و شَهامته فتمنته زوجًا لها ،فتزوّجها النبّي و عمره خمسٌ و عِشرون سنة و هي ذات الأربعينَ سنة ، فعاش معها أجمل قِصّة حُبْ على وجه الأرض و رُزِقَ منها البنات و البنين ، و لمّا نَاهز الرسولالثامنة و الثلاثين من عُمرِه بدأ الإعداد الربّاني له من فوق سبعِ سماوات ليُصبح بذلك محمـد الرجل نبّي آخر الزمـان ، فخصّ اللهنبيّهُ بتمهِيداتٍ و مُؤاثراتٍ تدريجية تفاوتت سُرعتها و تباينت في الستة أشهر الأخيرة قبل البعثة ، فأنطق اللهالشَجرَ و الحَجَر و جعلها تُسلم عليه و تقول له السلام عليك يا رسول الله ، غير أنّ النبّي إذا التفت بعد تسليمها عليه لا يجد شيئا ، و يقول النبّي في ذلك إني لازلت أعرف حَجَرًا كان يُسلم علّيَّ قبل البعثة .
و مَنَّ اللـه أيضًا على رسوله برُؤيا صادقة كان يراها في الليل فتتحقق معه إذا أصبح مثل طرف الصبح.
فتَرادُف هذه الأحداث و تِكرارها جعلت الرسول يختلي بنفسه في غـار حـراء ذوات العِداد أي ما يُقارب العشرة أيّام ،فاكتنز بذلك الحياة المادية و أقبل يَرتشف أكبر قدر ٍ من الغذاء الروحي لاستشعار قُدراته الرُوحانية التي أدّت به في آخر المطاف إلى طـاعة اللهو هذه العِبادة هي أعظم عبادة للتقرب من الله ، فتفكر سـاعة خيرٌ من قيام ليلـة لأنّ حياة الإنسان كسهم واحد فلا تُغامر به لأنّك إذا أطلقته و أصاب الهدف فمبارك لك أمّا إذا غيّر وِجهته و تَنَاحَ عن الهدف فلا فُرصة لك بعدها ، فالتفكُّر إذن هو قبس من نور الإيمان.
و هكذا كان حال النبّي في الغار في الآونة الأخيرة قبل نبُّوَّته و قد كانت خديجة أيضًا تصعَد إلى الغار و هي ذات الخمسة و الخمسين سنة لِتُساندَ النبّي و تتفكر معه و تأتيه بالطعام أيضًا ، و لمّا بلَغ الرسول الأربعين سنة من عُمره أصبح يتردد كثيرًا على الغار كيف لا و قد حان و دَقَّ الموعد الذي أعدّه له ربُّه ، ففي ليلة غير مُقمِرة نزل على محمـد مَلَـكٌ من السماء على صُورته المَلائكية و هو يَسُّد الأفُق و له ستمائة جناح ، و يَحكي النبّي عن المَلَك فيقول رأيته و قد سَدَّ الأفق و له ستمائة جناح إذا نفَضَها تناثرت منها اللؤلؤ و الياقوت ، فجذبني من ثِيابي و أخذني إليه و قال لي﴿اقرأ﴾فقلت له ما أنا بقارئ ،فأخذني المَلَكْ إليه مرّة أخرى و ضَمّني إليه حتى بلغني الجُهد ثمّ أرسلني و قال لي ﴿اقرأ﴾ فقلت له ما أنا بقارئ ، فأخذني مرّة ثالثة و غَطاني حتى لم أستطع التنفسَ فظننت وقتها أنّه الموت ثمّ أرسلني و قال لي ﴿اقرأ﴾فقلت له و ماذا أقرأ! ، فردّ المَلَكْ و قال لي﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{ 5} ﴾ثمّ اختفى دُفعةً واحدة .
فكان بذلك غار حِراء نُقطة التقـاء السمـاء بالأرض و نُقطة التقـاء نبّي السماء جبريلبنبّي الأرض محمد ، فكانت هي نُقطة بُزوغ فَجرِ الإسلام و فَجرِ محمـد على الأمة جمعـاء.
فنزل النبّي من الغار مُرتَعدَا و يتصَبَّبُ عَرَقًا ، فقصد بيته و هو يجري و قد أصابته الحُمَّى، فقال لخديجة زَملوني زملوني دَثروني دثروني ،فقالت له خديجة ما بالك يا ابن العمّ ؟فأجابها الرسول وقال لقد خشيت على نفسي يا خديجة و قصّ لها ما جرى معه ، فقالت له خديجةكلاَّ و الله لا يُخزيك الله أبدًا فإنّك لتَصلُ الرحم و تحمل الكَّلَّ الضعيف و تُكسب المعدوم و تُقرئ الضيف و تُعين على نوائب الحق ، فهدأ النبّي بعدما سَمع كلام خديجة التي ثبتته و ذكَّرته في أخلاقه الحسنة و شاركته في اهتماماته و قاسمته ضِيقَهُ ،كيف لا وقد قال عنها الرسول أكمل النِساء عقلاً خديجة بنت خويلد ، فبِكلام خديجة اطمئن النبّي فقرّرت خديجة أخذه إلى أعلم رجلٍ بأمور الدين و مَبلغُ التوراة و الإنجيل ، و قد كان هذا الرجل ابن عمّها ورقة بن نَوفل فدخلا النبّي و خديجة على ورقة فسلمَا عليه ثم قالت له يا ابن العمّ اسمع منه ، فحكى له الرسول ما جرى معه فسمع له ورقة بانتباه فكان أحيانًا يبتسم له و أحيانًا أخرى ينبَهِر ، ثم قال للنبّي يا محمد إنّك لنبّي آخر الزمان و لقد آتاك الناموس الذي آتى موسى و إنّ قومك سيكذبونك و يُؤذونك و يُخرجونك ، فليتني أكن جذعًا إذ يُخرجك قومك ،فقال له النبّي أمُخرجيّا هم؟ فقال له ورقة نعم فلم يأتي رجلٌ بمثل ما أُوتيتَ إلاّ عُودي و إن يُدركني يومك لأنصُرنّك نصرًا مؤزرا ، فسكت النبّي و خرج مع خديجة فأوقفها ورقة و قال لها ثبّتيه ، إلاّ أنّه بعد أيّام قليلة يموت ورقة بن نوفل و يقول الرسولورقة بن نوفل يُبعث يوم القيامة أُمّة و يقصد بذلك ميزان حسناته المملوء .
فمَرّ أسبوع و لم يظهر الملَكْ من جديد حتى يستوعب الرسول فِكرة النُبوّة و تبليغ الرسالة ، فبدأ النبّي يُفكر في الملَكْ و يشتاق له ، و بعد مرور أسبوع من الانتظار نزلالملًكمرّة أخرى على كُرسيٍ بين السماء و الأرض و هو يملآ السماء ، فقال للنبّي يا محمـد أنت رسول الله و أنا جبريل مُرسل من السماء ، ثم أخذ جبريلالنبّي و خرج به إلى الصحراء فضرب بجناحيه في الأرض فانشق نبعٌ من الماء فعلّمه كيفية الوضوء للصلاة ، ثم قال له يا محمد افْعَل كما أَفعَل ركعتين في الصباح و ركعتين في المساء ، فأوّل عِبادة تعلّمها النبّي من جبريل هي الصـلاة لمكانتها عند اللهكيف لا وقد قال عنها النبّي((الصلاة عبادة )) و قال أيضا: ((رأس عمود الإسلام الصلاة))و قال كذلك : ((مِفتاح الجنّة الصلاة )) و ((نور المؤمن الصلاة )) ، و قد سُئِل النبّي عن أفضل الأعمال و أرفعها درجةً ! فقال (( الصلاة على وقتها )).
ثم نزل جبريل على النبّيبثلاث سورٍ بعد سورة العلـق و هم المزمـل فالمدثـرو الفاتحـة أي علـم فطاقـة روحيـة و عبادة ثم تحرك على أساس المنهـج ، فانتقى النبّي نِقَاطًا بَناَءة رَسَم على إثرها طريقه الصحيح و ثبّت عليه مُخطّطه المتين في تبليغ رسالته العالميّة مُستعينًا في ذلك باللهجَلّ جلاله و عَظُم سُلطانه .
و بعد ذلك توقف الوحيُّ و لم ينزل على الرسول مُدّة شهرين ،فتأثّر النبّي و خاف و ظنّ أنّه قد أخطأ في مًوضعٍ ما فاستبدله الله أو استغنى عنه،وقتها نزل عليه جبريل بسورة الضُحى ليُشيد بقيام الليل و يقول الرسول عن قيام الليل لعبد الله بن عمر نِعم العبد أنت يا عبد الله لو كنت تقوم الليل ، فلم يَبرَحْ عبد الله القِيام من يومها ، و قال النبّي أيضا لأبي ذر الغفاري و هو يُشيد بقيام الليل يا أبا ذرإذا أردت سفرًا ألا تُعد له العدّة ؟فقال أبو ذر نعم يا رسول الله، فقال الرسولفكيف بسفر يوم القيامة فأحكِمْ السفينة فإنّ البحر عميق و أكثر الزاد فإنّ الطريق طويل ،فقال أبو ذر و ما أفعل يا رسول الله؟ ، فقال الرسولصُمْ يومًا شديد الحرِّ ليوم النُشور و قُمْ ليلة في ظُلمة لظلمة القُبور و حُج حجةً لعظائم الأمور .
و قد كان الرسول يدعو الناس بالنّهار و يقوم الليل بالليل حتى تتورمُ قَدماه و هو المغفور له و الموعود بالجنّة فكم ليلةً قد قُمناَها نحن ! إن لم أقل كم من ركعة صليناها في جوف الليل نستغفر الله و نُناجيه و مَصائرنا مُعلقة بين الجنّة و النار بحبلٍ أرقُّ من الشَعرة و أحدُّ من السَيف ؟ !
فمِن هنا بدأ الرسولرسالته الدعويّة و اختار أوّل دُفعة من المتميّزين ذوي الأخلاق الحسنة و الناجحين في حياتهم و هم زوجته السيّدةخديحة و صاحبه أبو بكر و ابن عمّه علّي بن أبي طالب ، فقام الإسلام بذلك على ثلاثة أنفار رجـل و امـرأة و طفـل ليبلغ الإسلام عَناَنَ السماء و يتَخطى كل الحُدود و يَصير الثلاثة أنفار أمّـة بأكملـها .
مواقع النشر