وأينما سرت في ركب الصالحين لتجدن طلب الجنة يملأ قلوبهم ويشغل نفوسهم .. قد تعلقت بها أرواحهم حتى لم تقم لغيرها وزنا .. فهان عليهم كل شيء في سبيل الوصول إليها ..
أبو الدحداح ثابت بن الدحداح .. كان له نبأ عجب .. روى البخاري ومسلم عن أنس رضى الله عنه : أن غلاماً يتيماً من الأنصار كان له بستان ملاصق لبستان رجل منذ سنين ، فأراد الغلام أن يبني جداراً يفصل بستانه عن بستان صاحبه ..
نعم خرجت أم الدحداح وخرج أبو الدحداح وتركوا البستان والأشجار ، وفارقوا الظلال والثمار نقلوا عيشَ دنياهم من الحدائق إلى المضائق ، تركوا الشهوات ، واشتغلوا بالقربات ، عطشوا في دنياهم وجاعوا ، وذلوا لربهم وأطاعوا ، فارقوا في طلب رضاه كلَّ شيء وباعوا فعل ذلك أبو الدحـداح حتى يكون هو وزوجته مع أولادهما في ظلال على الأرائك يتكئون ( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿55﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ ﴿56﴾ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ﴿57﴾ سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ )
ولا يزالون في مزيد فهو سبحانه البر الرؤوف الرحيم ( إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ )
( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) )
-
المشتاقون إلى الجنة : لم يكتفوا بقيام الليل وصيام النهار ، والعفة عن النظر إلى المحرمات ، والاشتغال بالطاعات ، بل نظروا إلى أعز ما يملكون ، إلى أنفسهم التي بها قوام حياتهم ، ثم قدموها في سبيل رضا العزيز الحكيم .. في معركة بدر .. اشتدّ البلاء على المسلمين .. إذ قد خرج المسلمون لا لأجل القتال وإنما خرجوا لأخذ قافلة لقريش كانت قادمة من الشام ، ففوجئوا بأن القافلة قد فاتتهم وأن قريشاً قد جاءت بجيش من مكة كثيرِ العدد والعدة لحربهم .. فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ضعف أصحابه وقلة عددهم وضعف عتادهم .. فاستغاث بربه ، وأنزل به ضره ومسكنته ، ثم خرج إلى أصحابه فإذا هم قد لبسوا للحرب لأمتها ، واصطفوا للموت كأنما هم في صلاة ،
تركوا في المدينة أولادهم ، وهجروا بيوتهم وأموالهم ، شعثاً رؤوسهم ، غبراً أقدامهم ، ضعيفة عدتهم وعتادهم . فلنا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، صاح بهم وقال :
قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة .. فقام عمير بن الحمام ..
نعم رحل عمير من دار الأشرار ونزل في جوار الملك الجبار ، انتفع بما قدم من صيام النهار ، ورفعه بكاء الأسحار ، وسكن في جنات تجري من تحته الأنهار ..برحمة العزيز الحكيم .. الذي أجزل لهم الثواب ، وسماهم الأحباب ، وأمنهم من العذاب ، الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، لهم فيها ما تشتهي أنفسهم ، ولا يزالون في مزيد
(وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38))
-
المشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار كلما زاد ربهم في بلائهم وامتحانهم ، ازدادوا صبراً واحتساباً فهو سبحانه أكبر المنعمين ، ولا يقبل أن يعامله عباده بالمجان بل يعظم لهم الأجور وما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها .. استمع إلى هذا الخبر العجيب روى البخاري عن عطاء بن أبي رباح
الأمة السوداء : جاءت إليه صلى الله عليه وسلم تلتمس منه أن يغير مجرى حياتها فقد تعذبت فيها أشد العذاب ..لا أحد يتزوجها .. ولا يجلس معها .. الناس يخافون منها .. والأطفال يضحكون منها .. تصرع بين الناس في أسواقهم .. وفي بيوتهم .. وفي مجالسهم .. حتى استوحشوا من مخالطتها .. ملت من هذه الحياة فجاءت إلى الرحيم الشفيق .. ثم صرخت من حرّ ما تجد : إني أصرع .. فادع الله تعالى أن يشفيني ..
فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه .. نظرت المرأة وتأملت في حالها ومرضها .. ورددت كلامه صلى الله عليه وسلم في عقلها .. فإذا هو يخيرها بين المتعة في دنيا فانية يمرض ساكنها ، ويجوع طاعمها ، ويبأس مسرورها ، وبين دار ليس فيها ما يشينها ، ولا يزول عزها وتمكينها ، دار قد أشرقت حِلاها ، وعزت علاها ، دار جلَّ من بناها ، وطاب للأبرار سكناها ، وتبلغ النفوس فيها مناها فقالت الأمة المريضة يا رسول الله : بل أصبر .. أصبر يا رسول الله .. وصبرت حتى ماتت .. وليتعب جسدها ..ولتحزن نفسها ..ما دام أن الجنة جزاؤها .. الله أكبر .. زال نصبهم ، وارتفع تعبهم ، وحصل مقصودهم ، ورضي معبودهم ..ما أتم نعيمهم ، وأعز تكريمهم ، يتقون في الدنيا .. ليفوزوا يوم القيامة .. ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36))
في الجنة : أعد الله لهم القصور والأرائك ، وأخدمهم الغلمان والملائك ، وأباحهم الجنان والممالك ، وسلم عليهم الرب العظيم المالك ( سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) قال الله تعالى :( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) صبروا------ على الأمراض والأسقام ، وعلى الأدواء والأورام ، صبروا ------ على الفقر واللأواء ، والضيق والبلاء .. صبروا ------ على حفظ الفروج ، وغض الأبصار ، ومناجاة ربهم في الأسحار ..
( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) )
أولئك الصابرون الذين اشتاقوا إلى الجنات ، واستبشروا فتحملوا مرضهم ، وكتموا أنينهم ، وسكبوا في المحراب دموعهم ، فما مضى إلا قليل حتى فرحوا بجنات النعيم وإذا رأى أهل العافية يوم القيامة ما يؤتيه الله تعالى من الأجور لأهل البلاء ودوا لو أن جلودهم قرضت بالمقاريض .. (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) )
-
مواقع النشر